يمثّل انسحاب قوات التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية من شرق وشمال شرقي سوريا، تحدياً لقوات سوريا الديموقراطية (قسد) والحكومة السورية، وهما الطرفان اللذان يسيطران على الجغرافية السورية، في ظل تحذيرات من خطر عودة تنظيم “داعش” ومحاولاته تنظيم صفوفه.
وانسحبت قوات التحالف الدولي من خمسة مواقع كانت تتخذها قواعد لها في شرق وشمال شرقي سوريا، وسط حديث عن انسحاب كامل وتدريجي من جميع القواعد والإبقاء على واحدة منها، مع إبقاء نحو 500 جندي أميركي فيها، بعد أن وصل عدد الجنود في قواعد التحالف إلى حدود ألفي مقاتل.
تتأثر خيارات الولايات المتحدة في المنطقة بالتوازنات الإقليمية والدولية الأوسع، لا سيما في ظل تنامي الضغوط الاقتصادية والأمنية التي تواجهها، ما قد يدفعها إلى مراجعة أولوياتها العسكرية. وتشكل الكلفة المرتفعة للإبقاء على وجود عسكري مباشر، مقارنة بالمكاسب السياسية والأمنية المحدودة، عاملاً قد يسرّع في اتخاذ قرارات تتعلق بالانسحاب أو بإعادة انتشار القوات في مواقع تعتبرها أكثر استراتيجية.
ويُحتمل أن يتيح أي انسحاب أميركي فرصة أمام تنظيم “داعش” لإعادة تنظيم صفوفه، كما قد يسهم في تنشيط الفصائل الموالية لإيران وتعزيز الدور الروسي في سوريا، وهي التهديدات ذاتها التي بررت واشنطن بها وجودها العسكري خلال السنوات الماضية. غير أن الولايات المتحدة قد تسعى لمواجهة هذه التحديات عبر الدفع باتجاه تفاهمات بين “قسد” والحكومة السورية، أو من خلال رعاية مفاوضات تُعنى بشكل الإدارة المستقبلية.
أما الحديث عن تعاون محتمل بين الولايات المتحدة وسوريا في مجالات مثل التدريب العسكري أو إعادة الإعمار، فيبقى مرتبطاً بتحولات سياسية داخلية أو إقليمية قد تُغيّر من طبيعة العلاقة بين الجانبين. وقد يشمل ذلك تغييرات في سياسات دمشق، كالتقليل من النفوذ الإيراني أو التعامل مع قضايا الإرهاب، مع الإشارة إلى أن أي تعاون من هذا النوع سيكون مرهوناً بتحقيق مصالح أميركية واضحة، وليس مجرد رغبة في تحسين العلاقات مع الحكومة السورية.
وفي الثاني من حزيران/يونيو، كشف مسؤولون أميركيون أن 500 جندي أميركي تم سحبهم من سوريا، مما يقلل إجمالي الوجود إلى حوالي 1500 فرداً.
وتشير تقارير إلى أن هذا التوحيد سيستمر من خلال تقليل أعداد القوات أكثر وإغلاق جميع القواعد ما عدا واحدة. ومع ذلك، حتى تثبت الحكومة الجديدة في دمشق أو جهات فاعلة أخرى أنها قادرة على تولي المهمة الأميركية الرئيسية في سوريا، لأن إجراء مزيد من التخفيضات قد يعرض أهداف السياسة الأميركية في سوريا وما وراءها للخطر، بحسب معهد واشنطن.
تداعيات أمنية
يقول طارق وهبي، باحث في العلاقات الدولية، يقيم في باريس، لـ”963+”، إن “انسحاب التواجد العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا بشكل كامل قد يكون مرحلي وفق التوافق مع القوات الكردية المتواجدة في هذه المنطقة، وبالتنسيق مع الطرف التركي الذي يخرق سيادة سوريا بدخوله وبقائه في عدة كيلومترات، والذي يمثل الطرف الأميركي في بعض السياسات الإقليمية كالأمن وبالتحديد مستوى النشاط الإرهابي”.
ويضيف أن الانسحاب قد يترك فراغاً محلياً، ولكن أميركا ليست بالبعيدة فهي متواجدة في قاعدة إنجرليك التركية، والتي تستطيع لوجستياً أن تحرك بأسرع وقت عمليات جوية أو حتى إنزال عسكري بالتنسيق مع الجانب التركي”.
ويستبعد أن تؤثر الحرب الإيرانية الإسرائيلية في قرارات الإدارة الأميركية، إذ يشير وهبي إلى أن ما أعلن عنه الرئيس ترامب هو قرار عودة قوات المارينز إلى الولايات المتحدة، وترك مهمة الاهتمام بالشأن العسكري والأمني لأطراف المنطقة.
ومع أن الحرب بين إسرائيل وإيران غيّرت معايير التصادم العسكري من خلال الانتهاك المتبادل للمجالات الجوية العراقية والسورية واللبنانية والأردنية، فإن الولايات المتحدة باتت شريكة بشكل غير مباشر عبر دورها في عمليات الرقابة الجوية، بما في ذلك تسيير طائرات أواكس وطائرات تزويد الوقود لدعم الطائرات الإسرائيلية العائدة من مهامها في إيران.
لذلك، فإن قرار الانسحاب الأميركي محسوم، لكنه قد يترافق مع صياغة إطار جديد للتعاون مع الحكومة السورية، يتضمن وضع أسس لتدريب القوات المسلحة السورية وإعادة تموضع القوات الأميركية في مواقع أخرى، بحسب وهبي.
ويعتقد أن من مصلحة الحكومة الحالية أن يكون هناك تواصل مستمر وهادف مع واشنطن، لأن إذا استطاعت سوريا تأمين ما يلزم لإعادة الدائرة الاقتصادية والديمقراطية، فستكون مساهمة واشنطن مهمة جداً وخصوصاً عبر إزاحة الطرف الروسي واستبداله بالقوة الأميركية.
هل يُفتح باب التعاون بين دمشق وواشنطن
ويشير إلى أن الجميع يعرف مدى العلاقة الأميركية الاسرائيلية، وهذا يطمئن إسرائيل أكثر بانخراط أميركا في سوريا في عملية التدريب، وإمكانية الاستحصال على قاعدة أميركية تسمح لواشنطن بتقوية علاقتها مع دمشق وبناء ثقة متبادلة للمساعدة في إعادة الإعمار في كل جوانبها.
ويتابع وهبي أن الحكومة السورية رغم وجود عناصر فيها غير راغبة باليد الأميركية، ولكنها مجبرة على القبول العلني والضمني للمساعدة في إعادة الإعمار، وهذا سيدفع بالعملية الديمقراطية للخيار المقبل في إنشاء دولة سورية حرة ومستقلة، وتنعم بنظام يحترم المواطن، ويحكم بالعدل ويقوم بواجباته.
ويقول الدكتور ميشال الشّمّاعي، كاتب وباحث سياسي، يقيم في بيروت، “963+”، إن الولايات المتحدة الأميركية تحاول بانسحابها من سوريا، تحقيق هدفين؛ أولهما ترك سوريا من دون غطاء دولي، واختبار مقبولية المجتمع السوري للحكم الحالي.
اقرأ أيضاً: مناورات وعمليات ضد التنظيم.. التحالف الدولي مستمر بمحاربة “داعش”
ويوضح أنه “بهذين الهدفين تحقق الولايات المتحدة ضربة جيواستراتيجية في المنطقة بالكامل. إذ سيؤدي ذلك إلى تنامي الحركات الأصولية التي انبثق منها الشرع، ما سيفتح الباب على مواجهة جديدة قوامها الإسلامَين السياسيّين؛ السني وتنظيماته الأصولية في سوريا، والشيعي وتنظيماته الإيرانية في العراق. وهكذا تحارب الولايات المتحدة الأميركية الأصوليّتين لإسقاطهما بالضربة القاضية”، وفق رأيه.
صراع نفوذ إقليمي
لا يعتقد الشمّاعي أنّ الحرب الإيرانية الإسرائيلية قد تغيّر في قرارات الإدارة الأميركية بشأن الانسحاب من سوريا لأنّ الملفين مرتبطين جيوبوليتيكيّاً ومختلفين جيواستراتيجيّاً. فالامتداد السوري العراقي الإيراني مرتبط بالأثنو – ديموغرافيا الشيعية – العلوية.
بينما بالجيواستراتيجيا هما ملفان منفصلان لأنّ الأميركي ينظر الى الساحة السورية من البوابة الاسرائيلية الأمنية حصراً؛ فيما نظرته إلى الملف الإيراني هي نظرة جيو اقتصادية، إذ نجح بترويض القوة الايرانية، حيث لم تعد إيران نووية – بالستية، وبالتالي لم تعد قادرة على صناعة أي سلاح نووي، ولم تعد قادرة على التأثير بالاقتصاد العالمي عبر إقفال مضيق هرمز وتهديد أمن دول الإقليم، طبقاً للشمّاعي.
ويضيف أن “الحكومة السورية الحالية ستسعى إلى إقناع أميركيا بأنها قادرة على حماية مصالحه في سوريا؛ وهذا ما سيؤمّن الدعم لحكم الرئيس الشرع، ولاسيّما إن سار في قطار التطبيع، واستطاع بدوره إنهاء ظاهرة الإسلام السياسي في سوريا؛ هذه الظاهرة التي تمثل الإرهاب بالنسبة إلى أميركا”.
ويرى أن “الرئيس الشرع في هذه الحالة أمام اختبارَين وجوديّين، وهما؛ القضاء على الإسلام السياسي وضرب الإرهاب الأصولي، والذهاب في سوريا إلى حكم مدني بعيداً من حكم الشريعة والدخول في قطار التطبيع في المنطقة”.
ويؤكد على أن نجاح الشرع في هذين الاختبارين، “لا يستطيع أن يضمن أمل ومصالح أميركا في سوريا وحسب، بل سيكون قدوة لباقي الدول العربية في الدخول في الشرق الأوسط الجديد”، ويكون بالتالي قد نجّى سوريا من حمّام دم داخلي أو إقليمي وتحوّل إلى ضامن جديد للمصالح الأميركية في الشرق.