كعادته، بعد اجتماع رؤساء دول الناتو في هولندا، عقد ترامب أحد المؤتمرات الصحافية المطولة والمتطاولة والانتقادية، وأحياناً المسلية، التي يصعب فهم توجهه في نهايتها. عندما سئل عن الاتفاق النووي الذي سعى إليه منذ بداية ولايته، الذي هو حجر الأساس في سياسته الخارجية، أجاب: “نحن ذاهبون للحديث مع الإيرانيين في الأسبوع القادم. هل نسعى إلى التوقيع على اتفاق، لا أعرف. هم حاربوا، والآن يعودون إلى عالمهم. لا يهمني إذا كان اتفاق أم لا”.
يبدو أن تفسير ترامب يستند إلى منطق حديدي. إذا كان هدف الاتفاق النووي الجديد منع إيران من النووي، وإذا كان الهجوم الأمريكي – الإسرائيلي، لا سيما الهجوم على فوردو، قضى على القدرة النووية الإيرانية بالكامل، فلا حاجة إلى اتفاق. ولكن على خلفية الاختلاف الاستخباري في الولايات المتحدة حول مسألة “القضاء الكلي” على قدرة إيران النووية، فالمسألة قدرة إيران على ترميم القدرات النووية.
يبدو أن ترامب نفسه، رغم إلغاء الحاجة إلى الاتفاق، يعترف بأهميته. “إذا كانت لدينا وثيقة، فلن يكون هذا سيئاً”، قال. “نحن ذاهبون للالتقاء معهم”. إذا لم تكن حاجة إلى الاتفاق، فلماذا نضيع وقت ستيف ويتكوف في اللقاء مع الإيرانيين. الإجابة تكمن في أن للولايات المتحدة وإيران مواضيع أخرى كثيرة لمناقشتها لاستكمال مجموعة الضمانات كي لا تشكل إيران أي تهديد إقليمي أو عالمي.
تناول ترامب في أقواله تهديداً واحداً فقط (“لم نرغب في النووي الإيراني، والآن دمرناه”)، لكن ما لم يدمر بعد هو القدرة على إنتاج الصواريخ البالستية، والتهديد بشل الملاحة في الخليج الفارسي، وامكانية المس بدول المنطقة ودعم المنظمات الإرهابية. عملياً، هذه هي المواضيع التي طالبت إسرائيل بإيجاد حل لها في الاتفاق النووي الأصلي الذي تم التوقيع عليه في 2015. أيضاً بعد ذلك، أثناء استئناف المفاوضات بين الرئيس بايدن وإيران، ومؤخراً عندما بدأ ترامب في حملة صياغة اتفاق نووي جديد.
في الأشهر الأخيرة، لم يستجب ترامب لمطالب إسرائيل، وركز المفاوضات مع إيران حول القضية النووية. وكان ذلك في الحقيقة الشرط الرئيسي الذي وضعته إيران لاستئناف المفاوضات، الذي ستكون بحسبه مستعدة لمناقشة قضية تخصيب اليورانيوم فقط وحصر المشروع النووي بالأغراض المدنية، لكن الولايات المتحدة وافقت على هذا الشرط. نتيجة الحرب قد تمكن من توسيع الاتفاق ليشمل قضايا أخرى تتعلق الآن بالقرار السياسي الذي سيتم اتخاذه في إيران.
تسعى إيران إلى قرار اتخذه البرلمان الإيراني، يقول بأن الحكومة لن تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، التي تشرف على المشروع النووي والمنشآت النووية الإيرانية. القرار غير نهائي، وهو بحاجة إلى مصادقة رسمية من “لجنة فحص مصالح الأمة”، ومصادقة المرشد الأعلى علي خامنئي. التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة النووية ضروري لتقدير الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية، وفحص القدرة على إعادة ترميم المشروع النووي. وبالأساس، التأكد من أعدم وجود تجاوز أو خرق للاتفاق النووي الأصلي الذي ما زال يشكل الأساس الواقعي للمراقبين الدوليين في إيران.
قد يعلن ترامب عن بطلان قرار البرلمان الإيراني، لأنه إذا دمر المشروع النووي الإيراني فليس هناك ما يستدعي الرقابة. ولكن من الوهم أن نعتقد بأن طموح إيران لتطوير برنامج نووي وتعزيز قدراتها التقليدية، سيتم دفنه في أدراج معاهد الأبحاث ومكاتب التخطيط في مجلس الأمن القومي.
أمس، نشر كاتب الأعمدة الإيراني أمير ثامني، مقالاً في صحيفة “شرق” (التي تعتبر مؤيدة للإصلاح)، كتب فيه بأن “إيران تعتبر دولة عظمى في مجال الصواريخ، ولكن كان وسيكون للعقوبات وعدم القدرة على استيراد التكنولوجيا الجديدة تأثير على السرعة والجودة لتطوير التكنولوجيا المطلوبة. نأمل بأنه مع انتهاء الحرب التي فرضت علينا وانتهاء الشروط القاسية التي فرضتها على الدولة، ستوضع أسس لبناء هذه القوة، وبناء منظومات دفاعية – هجومية أكثر نجاعة، وستستند إلى التكنولوجيا العالمية الأكثر حداثة وإلى جهود نخب الشباب. إن الحماسة الإيرانية في ظل قيادة من رجال النظام المهتمين، قد تؤدي إلى عدم تفكير أي أحد بفكرة غزو بلادنا”.
إذا كان ثامني يعكس أمنيات من يعتبرون إصلاحيين، فإن خطاب المحافظين الراديكالي يضع طموحات بعيدة المدى، تشجع النظام على استئناف القدرة النووية وزيادة ترسانة السلاح التقليدي، وبالأساس عدم الخضوع للضغط الذي سيستخدم على إيران. ولكن كما ثبت في السابق، ثمة فجوة بين الخطاب العلني والإعلامي وبين متخذي القرارات. المعضلة الرئيسية أمام القيادة ستكون من الآن فصاعداً هي كيفية جعل الولايات المتحدة ترفع العقوبات، وهو نفس الهدف الأسمى الذي كان من شأن المفاوضات حول الاتفاق النووي أن تحققه. المشروع النووي الإيراني، إلى جانب عامل الردع والدفاع العسكري، كان المقابل الذي استعدت إيران لمناقشته كي تستطيع إعادة تأهيل الاقتصاد وتحييد التهديد على استقرار النظام كنتيجة للأزمة الاقتصادية.
الحرب أزاحت، على الأقل حتى الآن، عامل الردع الإيراني – من هنا جاءت الرافعة الأساسية، “النووي مقابل العقوبات”، التي احتفظت بها إيران لتحقيق هدفها. يبدو أن الوضع الذي نرى فيه حاجة إيران الآن إلى اتفاق مع الولايات المتحدة أكثر مما هي الولايات المتحدة بحاجة إليه (كما يشهد ترامب)، يوفر للرئيس الأمريكي فرصة طرح النقاش في مواضيع حاسمة، التي لم يكن ينوي التعامل معها منذ البداية. ولكن إيران تحاول الآن الإظهار بأنها بعيدة عن الهزيمة، وأنها لا تنوي الخضوع للضغوط التي تستهدف “المس بقدرتها على الدفاع عن نفسها أو من أجل تدمير النظام، سواء من قبل ناخبي بزشكيان رئيساً أو من قبل معارضيه” (حسب صحيفة “اطلاعات” المقربة من النظام، التي نشرت أمس عدة مقالات تثني على تضامن الجمهور ودعم النظام). بزشكيان بالمناسبة أيد الحوار مع الولايات المتحدة منذ بداية ولايته. ودعا رجال أعمال أمريكيين للاستثمار في إيران، بل وحصل على دعم من خامنئي.
في الوقت الذي يتردد فيه النظام الإيراني حول كيفية إدارة اللقاء القريب مع الأمريكيين، حظيت إيران بهدية مجانية من ترامب، حين أعلن بأن الصين يمكنها شراء النفط من إيران بدون قيود. هكذا، فقد أزال بضربة واحدة أحد أسس سياسة “الحد الأقصى من الضغط الذي استخدمه على إيران”. لا نستغرب، فحسب منطق ترامب، إذا لم يكن لدى إيران نووي، فلا حاجة إلى العقوبات.