ما حدث في غيابك في بلادنا كبير وكثير لا تسعه ألف ألف حياة. سقط نظام الأسد الذي ذلّنا وقهرنا وعذّبنا وهجّرنا وقتلنا ومثّل بجثثنا. هرب الأسد وترك بلادنا. جاءنا نظام جديد كان حتى وقت قريب عدونا الآخر. إسلاميون كانوا من تنظيم القاعدة فداعش فجبهة النصرة. يقولون إنهم تغيروا. ليعطنا الله عُمرًا نعيشه ونرى كيف يتغير المتشددون ويصيرون ديمقراطيين.
صديقي رامي،
تُلحّ صورتك على ذاكرتي في هذه الأيام، ربّما لأنّ عيد ميلادك السابع والأربعين قد مرّ منذ أيام. اثنتا عشرة سنة مرّت مذ اختفيت. ماذا حلّ بك؟ سقط النظام الذي أخفاك إلى الأبد. بحثنا عنك، بحثنا في كلّ مكان، لم يترك أهلك وأصدقاؤك وأحبابك ثقب إبرة في سوريا لم يبحثوا فيه عنك. نقود دُفعت ورشى أعطيت طوال سنوات من دون أن نعرف خبرًا عنك.
خبرٌ واحد جاءنا بعد اعتقالك بأسابيع قليلة. كنتَ في زنزانة حقيرة في فرع أمني ما، وبعدها انقطعت كل أخبارك. يا لهذه القسوة!
عدتُ إلى دمشق بعد سقوط النظام. كان طيفك يرافقني. سألت عنك كلّ من أعرفهم ومن لا أعرفهم. زرت عائلتك وأهلك. أدمعت عيوني وأنا أحدّث والديك وأختك عنك. حاولت عدم البكاء ما أستطيع. خفت أن أفقد رباطة جأشي، فأُتعب أمك التي تبكيك مذ أخفوك.
يا رامي يا صديقي
قلت لهم إنّني أحمل ذنبك معي طوال الوقت، لأنّني كنتُ آخر اثنين التقيتهما في بيروت قبل أن تتجه إلى سوريا. كنتَ عندي في البيت، في حيّ الأشرفية. حاولت منعك في ذلك المساء مثلما حاولت لأيام تسبقها، قلتُ لكَ إنّ الطريق خطير ولا ضامن لك. قلتَ إنّ كلّ طرقات الحياة قد سُدّت في وجهك.
أحمل ذنب غيابك. أسأل نفسي دائمًا: لماذا لم تمنعه؟ لماذا لم تحاول أكثر؟ الجميع، أخوك وأمك وحبيبتك وآخرون حكيتُ لهم عن هذا الذنب، فقالوا إن لا ذنب لي، كان رامي رجلًا قادرًا على اتخاذ قرارته بمفرده. لكن ماذا لو حاولتُ منعك أكثر، هل كان من الممكن أن تكون بيننا الآن؟ أن تكون عرّاب ابنتي مثلًا؟
لماذا ذهبت؟ أعرف أنّك وُلدت بلعنة لا تفارقك وأنت الفلسطيني الغزيّ المصري الذي وُلد في ليبيا وعاش وترعرع في سوريا. كنتَ تحتاج إلى ورقة تعريفية لن يعطوها إياك إلّا إن حضرت شخصيًا إلى سفارة مصر في دمشق. هكذا بقيت عالقًا في بيروت لأكثر من سنة. كنتَ تحتاج الى ورقة لعينة كي تسمح لكَ بالتنقل في أرض الله الواسعة. ورقة واحدة لتحميك من تجاوزات الأمن العام اللبناني ومخابرات حزب الله وحرّاس حدود دول العالم. ورقة واحدة، هوية واحدة، جواز سفر واحد. يا لهذه اللعنة، لعنة أن تولد لاجئًا فلسطينيًا في دولة عربية.
ماذا أخبرك عن لعنتك؟ ماذا أخبرك عن الحياة بعد اختفائك؟ هل أخبرك أشياء شخصيّة؟ ماذا أقول؟ تركتُ بيروت بعد اعتقالك بأشهر، لم أعد أستطع احتمال العيش هناك، فقدتك وفقدت أصدقاء وصديقات، كانوا يغادرون بيروت تباعًا. تعبت من الحياة هناك فغادرت. أعيش في برلين مذاك. عندي ابنة تبلغ السابعة، وأمها، حبيبتي اسمها لينا وهي ألمانية. أحكي لها دائمًا عنك. تحبك من دون أن تعرفك. بدأ الشيب يخط شعري. بدأت أكبر، لم أعد ذلك الفتى الذي تريد أن تتبناه، أم ما زلت ذلك الشاب الصغير في عينيك؟
قابلت حبيبتك السابقة (هل أستطيع أن أقول السابقة وأنتما لم تفترقا بإرادتكما؟). قابلت حبيبتك حين كنتُ في الشام، والتي صارت (وكانت) من أعز صديقاتي. تحدثنا عنك طويلًا، وحكت لي عن بحثها عنك وعن سنوات غيابك وقسوتها. قلت لها إنّ أثرك كبير جدًا في حياتي على رغم السنوات القليلة التي عرفتك فيها. فقالت لي إنّني كنتُ أقرب الأصدقاء إليك. أحقًا؟ أدمعتُ حين قالت ذلك. ربّما، قلتُ، لكن ما الفائدة؟ لقد غبت عني وعن الآخرين كلّهم.
ما حدث في غيابك في بلادنا كبير وكثير لا تسعه ألف ألف حياة. سقط نظام الأسد الذي ذلّنا وقهرنا وعذّبنا وهجّرنا وقتلنا ومثّل بجثثنا. هرب الأسد وترك بلادنا. جاءنا نظام جديد كان حتى وقت قريب عدونا الآخر. إسلاميون كانوا من تنظيم القاعدة فداعش فجبهة النصرة. يقولون إنهم تغيروا. ليعطنا الله عُمرًا نعيشه ونرى كيف يتغير المتشددون ويصيرون ديمقراطيين.
لكن ما حدث في بلادك الأصل، في بلاد أجدادك، في غزّة، هو ما يفوق قدرتي على الوصف. ماذا أخبرك عن فلسطين؟ ماذا أقول لكَ عن غزّة؟ لقد أبادها الإسرائيليون. قصفوها برًا وبحرًا وجوًا. لم يتركوا فيها حجرًا على حجر. هذه الحرب لم تكن مثل كلّ الحروب التي عرفتَها من قبل، هذه حرب إبادة لم يرها جيلنا سابقاً.
في غزّة أناس يموتون برصاص وقذائف الإسرائيليين، وأناس يموتون من الجوع بسبب حصار مطبق فرضه الإسرائيليون، بعضهم ماتوا من قلّة الدواء، وآخرون من قلّة الماء. في غزّة يموت الأطفال والشيوخ والرجال والنساء ليل نهار. في غزّة، يا رامي، يموت الناس بكل الأشكال الممكنة وغير الممكنة. لم نرَ فظاعات مثل هذه من قبل.
رحمك الله من رؤية ومعايشة الكثير من المجازر في سوريا، لكن حتى لو خبرتها كلّها لكنت صعقت من وحشية ما يحدث في قطاع غزّة. إبادة شاملة لكل أشكال الحياة في حيّز جغرافي ضيق يعيش فيه ملايين الناس. قتل بالمجان، ولا يعرف المرء ما عليه فعله. شعور هائل بالعجز يا رامي. لو كنتَ هنا، لكنّا ربّما تقاسمنا العجز سويّة فيخفف وجودك من كرب الحياة، وما حاجة الإنسان إلا لأصدقاء مثلك ليساعدوه على تحمّل العالم.
صار عندي عجز وقهر وعدم قدرة على الفرح الكامل منذ وقت طويل يا رفيقي، لكن بعد إبادة غزة لا أعرف إن كنتُ أستطيع أن أشعر بسعادة حقيقية مرة أخرى في حياتي.
يا رامي، كنتُ قد وعدتُ نفسي بأن أفعل أي شي وكل شي إلّا أن أقطع الأمل بلقائك في يوم من الأيام، لكن الآن أعرف يقينًا أنّني لن ألقاك مرة أخرى في هذه الحياة.
بعد سقوط النظام وهروب بشار الأسد فتحوا أبواب السجون فخرج الناس راكضين نحو الحريّة. فتحوا أبواب الأمل لدى ملايين السوريين والسوريات الذي ينتظرون أحبابهم، لكنّك لم تخرج، لا أنت ولا عشرات الآلاف من الذي اختفوا. لم نعثر لك على أي أثر في أي سجن. أردنا أن نعرف ماذا حلّ بك؟ ماذا فعلوا بك؟ لم نعثر على أيّ خبر عنك. يكتشفون كلّ يوم مقابر جماعيّة جديدة، فأقول لنفسي: عسى أن يعثروا على رفاتك يا حبيبي، فأستطيع أن أزورك يومًا وأقول لك كم أنقصني غيابك! لو يأتينا عنك أيّ خبر… أيّ خبر.
يا رامي، “كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، وجدنا غريبين يومًا، ونبقى رفيقين دومًا”.
لن أنساكَ ما حييت.