كتب هيغل ذات مرة، “أحمد الله على وجود البندقية، فهي تجعل الشجاع والجبان متساويين” ومثله يُدرك أن الأسلحة لن تزداد إلا تطورا وتعقيدا، فمع كل ابتكار جديد، تتراجع البطولة الجسدية ويصعد الفعل المجرد، ليصبح القتال أقل ارتباطا بقيمه القديمة وأقرب إلى التقنية والفاعلية. وهكذا، ستغدو الحرب امتدادا للعقل التقني، لا للعضلات.
تشكّل الحرب السيبرانية أحد أبرز التحولات الجذرية في طبيعة الصراع بين الدول والفاعلين في العالم المعاصر، فهي من تقوم بصياغة معادلات القوة في القرن الحادي والعشرين. لم تعد الحروب تقتصر على الجبهات التقليدية، ولا تُقاس القوة فقط بعدد الدبابات والطائرات، بل باتت تُقاس أيضا بقدرة الدولة على شن هجمات إلكترونية وتحمّلها، وعلى التحكم في تدفق المعلومات، وتأمين بنيتها التحتية الرقمية ضد الاختراق. فالفضاء السيبراني، الذي يقوم على شبكة الإنترنت والأنظمة المعلوماتية، تحوّل إلى مسرح حرب يومية تدور فيه معارك غير مرئية، لكنها تترك آثارا واقعية بالغة الخطورة على الدول والمجتمعات والمؤسسات الحيوية.
الحرب السيبرانية ليست خرقا تقنيا عابرا، بل هي نمط من الصراع المنظَّم، يهدف إلى الإرباك والتخريب والتجسس، وقد يصل إلى مستوى الشلل الكامل للبنية التحتية لدولة ما. وتتميز هذه الحرب بأنها تتيح للفاعل أن يضرب في العمق دون أن يتقدم بوصة واحدة داخل أراضي الخصم، ودون أن يُعرّف نفسه، أو أن يتحمّل الكلفة السياسية المباشرة لأي عدوان. ويُعد غموض الفاعل السيبراني، أو ما يُعرف بـ”الإنكار المعقول”، أحد أقوى الأسلحة في هذا النوع من الحروب، لأنه يربك عملية الرد ويُعقّد الحسابات السياسية والدبلوماسية والعسكرية.
وفي حين أن الحروب التقليدية كانت تحتاج إلى إعلان نوايا واعتراف ضمني أو صريح من الطرفين المتحاربين، فإن الحرب السيبرانية تقوم على النفي والمراوغة، وتُدار بمنطق الهجوم من تحت العتبة، أي إن الطرف المعتدي يتعمّد البقاء تحت عتبة الردع العسكري التقليدي، كي يحقق أهدافه من دون أن يواجه برد مباشر. ولهذا فإن الحرب السيبرانية تخلخل مفهوم السيادة، لأنها تحاول أن تُظهر هشاشة الحدود الوطنية حين تُخترق البنية المعلوماتية، وتسيطر على الاتصالات، أو تُعطّل أنظمة البنوك، أو تُشوّه أنظمة المراقبة، وقد يصل الأمر إلى تسيير البنية التحتية الحيوية عن بُعد.
وتتعدد أدوات الحرب السيبرانية، من البرمجيات الخبيثة (malware) إلى هجمات حجب الخدمة (DDoS)، ومن التلاعب بالخوارزميات إلى سرقة قواعد البيانات، وصولا إلى التدمير الكامل للأنظمة التشغيلية كما في فيروس “ستاكس نت” الذي عُدّ أول سلاح سيبراني حقيقي استُخدم لتدمير المنشآت النووية في إيران. كما تشمل الحرب السيبرانية ما يُعرف بالحرب المعلوماتية، أي نشر الأخبار الكاذبة، وبث الإشاعات، وتفتيت الرأي العام في دولة الخصم من خلال حملات منسقة تُوظف الإعلام والمنصات الرقمية للتأثير على الوعي الجمعي. وهكذا لا تبقى الحرب السيبرانية مجرد مسألة أمن تقني، بل مسألة سيادة شاملة تتداخل فيها الأبعاد التقنية والنفسية والسياسية معا.
القدرات الوطنية السيبرانية تمثّل العمود الفقري لأي استراتيجية أمنية معاصرة، إذ تتيح للدولة الدفاع عن بنيتها التحتية الرقمية والرد على التهديدات الخفية بفعالية
إن أخطر ما في الحرب السيبرانية أنها تعيد تعريف مفهوم القوة. فلم تعد القوة فقط هي القدرة على الردع التقليدي، بل أصبحت مرتبطة بالتحكم في المعلومات، والقدرة على الحماية، والمرونة أثناء الصدمة، والقدرة على الانتعاش السريع بعد الهجوم. وفي هذا السياق، فإن الدول التي لا تملك سيادة رقمية، أي لا تتحكم في أنظمتها وبنيتها التحتية السيبرانية، تصبح مكشوفة أمام خصومها، بل وتتحوّل إلى رهينة لموازين قوى لا تُدركها إلا بعد فوات الأوان.
وقد بات واضحا أن القوى الكبرى تعتبر الحرب السيبرانية جزءا لا يتجزأ من منظومتها الدفاعية والهجومية. لذا طورت وحدات سيبرانية عسكرية متخصصة، تعمل على مدار الساعة لحماية المصالح الحيوية وشن هجمات استباقية عند الحاجة. كما أن التحالفات الدفاعية التقليدية، مثل حلف “الناتو”، بدأت تعترف رسميا بالهجوم السيبراني باعتباره سببا كافيا لتفعيل المادة الخامسة، أي اعتباره هجوما على كل دول الحلف.
لكن التحدي الأكبر في هذه الحرب هو غياب الإطار القانوني الدولي الصارم. فالقانون الدولي لم ينجح حتى الآن في وضع تعريف جامع للهجوم السيبراني، ولا في تحديد المسؤولية القانونية عن الأفعال التخريبية، ولا في فرض قواعد ملزمة على الدول. وهذا يفتح المجال أمام فوضى استراتيجية، تُستغل فيها الحرب السيبرانية لتصفية الحسابات، أو اختبار قدرات الخصم، أو حتى التأثير على نتائج الانتخابات واستقرار المجتمعات.
لذلك، فإن الحرب السيبرانية تفرض اليوم على الدول أن تعيد رسم أولوياتها الأمنية، وأن تتعامل مع السيادة الرقمية كقضية مصيرية، إذ إنها ليست ترفا تقنيا. وهذا يشمل بناء بنية تحتية مؤمّنة، وتطوير كفاءات وطنية للاعتماد عليها، وتعزيز أنظمة الردع الرقمي، وتوطين البرمجيات، وتقليص الاعتماد على الأنظمة المستوردة التي قد تحتوي على أبواب خلفية. كما ينبغي خلق ثقافة رقمية مجتمعية، تعزز من وعي الأفراد تجاه التهديدات السيبرانية، وتمنع تحويل المواطنين إلى نقاط ضعف في شبكة الأمن الوطني.
القدرات الوطنية السيبرانية تمثّل العمود الفقري لأي استراتيجية أمنية معاصرة، إذ تتيح للدولة الدفاع عن بنيتها التحتية الرقمية والرد على التهديدات الخفية بفعالية. وتشمل هذه القدرات الكفاءات البشرية، والتقنيات المؤمّنة، والسيطرة على شبكات الاتصال والبيانات. من دون تطوير ذاتي لهذه القدرات، تبقى الدولة عرضة للاعتماد على الخارج، مما يعرّضها للاختراق أو الابتزاز. كما أن امتلاك قدرات هجومية موثوقة يمنح الدولة قوة ردع حقيقية، ويُعيد التوازن في بيئة استراتيجية لم تعد تعترف بالحدود التقليدية.
باختصار، الحرب السيبرانية لم تعد خيارا مستقبليا يُنتظر، بل واقع يومي يتسلل بصمت إلى كل بيت ومؤسسة ودولة. وهي حرب لا تُخاض بجيوش نظامية، بل بخوارزميات ومهارات بشرية خفية، ومراكز عمليات افتراضية. ومن لا يملك فيها دفاعا وهجوما، يصبح مهددا ليس بالخسارة فحسب، بل بالانكشاف الكامل، وربما التلاشي الصامت في خريطة النفوذ العالمي.
في عصر لم تعد فيه الحدود تُخترق بالدبابات بل بالشيفرات، تُعيد الحرب السيبرانية تعريف السيادة والردع والمعنى الكامل للقوة. فهي تُمكّن الدول والفاعلين من شن هجمات دون إعلان، وتخريب البنى التحتية دون تحمّل التبعات، وزعزعة المجتمعات من الداخل عبر المعلومة لا السلاح. وبينما تزداد أدوات الهجوم تطورا وانخفاضا في الكلفة، يبقى الدفاع السيبراني هشا ومعقّدا وباهظا. ولهذا، فإن مستقبل الأمن الوطني مرهون اليوم بالسيادة الرقمية، والجاهزية الأخلاقية، والقدرة على الرؤية الاستراتيجية في ميدان لا يُرى.