ملخص
كشفت خطابات ثلاثة، لمرشد ورئيس وأمير، صدرت خلال الأيام الماضية –من طهران وواشنطن والرياض– عن أكثر من تباين في المواقع والمواقف. وفي الواقع هذه الخطابات الثلاثة تكشف عن انزياحات جوهرية في معاني الردع، ودلالات السيادة، ووظيفة القوة، حتى بدت هذه النصوص بالنسبة إليَّ وكأنها مرايا متقابلة لحقيقة مأزومة.
ما زال في جعبتي ما يمكن قوله في هذا المشهد الصعب والمعقد الذي نعيشه جميعاً. في لحظات التحول التاريخي، لا تُقاس قوة الدول فقط بما تملكه من عتاد، بل بما تبوح به خطاباتها ويخفيه صمتها. فالخطاب، في السياق الجيوسياسي، ليس مجرد لغة تفسر الوقائع بل أداة تعيد تشكيلها وتعيد تعريف الذات والآخر. وعليه، فإن أي صراع ممتد –كما هي حال الشرق الأوسط– لا يمكن فهمه عبر تتبع مسارات الصواريخ والمسيرات وحدها، بل في قراءة وتحليل النصوص التي تصدر عن الفاعلين المركزيين، بما تحمله من إيحاءات عدة واعترافات ضمنية واستراتيجيات مغلفة.
لقد كشفت خطابات ثلاثة، لمرشد ورئيس وأمير، صدرت خلال الأيام الماضية –من طهران وواشنطن والرياض– عن أكثر من تباين في المواقع والمواقف. وفي الواقع، هذه الخطابات الثلاثة تكشف عن انزياحات جوهرية في معاني الردع، ودلالات السيادة، ووظيفة القوة، حتى بدت هذه النصوص بالنسبة إليَّ وكأنها مرايا متقابلة لحقيقة مأزومة.
في اعتقادي هذه ليست مجرد خطابات عابرة. إنها لحظة تكشف فيها اللغة عن حدودها، والدور عن تعثره، والحقيقة عن هشاشتها. ومن قلب هذا التناقض يظهر الشرق الأوسط لا كفراغ يملأ بالقوة، بل كمرآة تعكس فشلاً أخلاقياً واستراتيجياً لأقطاب الصراع. فما بدا في الظاهر بياناً سياسياً يُخفي في العمق نصاً مأزوماً يفضح هشاشة التوازنات، ويبشر بتصدعات قادمة وربما انهيارات.
في هذا المشهد الصعب والمعقد المشار إليه أعلاه، والذي تتقاطع فيه وقائع السلاح مع نيات الخطاب، انكشفت خلال الأيام الماضية طبقات أعمق من المأزق الوجودي الذي يعيشه الشرق الأوسط. ثلاثة نصوص صدرت عن ثلاثة أقطاب متخاصمة –خطاب المرشد الإيراني علي خامنئي ورد الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومقالة الأمير تركي الفيصل– بدت في تصوري وكأنها مرايا متقابلة، لكنها لا تعكس الحقيقة بل تشوهها أو ربما تكشفها من حيث لم يرد أحدها الاعتراف.
ما مدى أضرار الضربات الأميركية في البرنامج النووي الإيراني؟
خامنئي، وقد بدا في خطابه كمن يعلن نصراً في معركة لم يخضها فعلياً، لا يقدم سوى نسخة صوتية من مخيال الدعاية الإيرانية. فكل ما قاله لا يتجاوز محاولة فرض سردية فوق ركام الرماد: قصف محدود ضد إسرائيل ورد أميركي محسوب ثم تراجع فوري تحت عباءة الوساطات. نراه يبارك “النصر على الكيان الصهيوني” بينما لم تُذكر غزة في اتفاق وقف إطلاق النار، ولا أشار إلى دماء الأطفال هناك، ولم يدع حتى أنه حمى فلسطين بل حمى منشآته. ومن قلب هذه المفارقة يسقط خطاب الممانعة تحت أول اختبار مباشر. فحين اخترقت الحرب الرمزية جدران العمق الإيراني، تلاشت القدس من الأجندة وغابت غزة عن الشاشة، وصعدت طهران إلى الطاولة لا للتفاوض من أجل فلسطين بل من أجل رأسها.
أما ترمب، فيقابل هذا الزيف باستعلاء فج ومكشوف حد الوقاحة، يستخدم فيه لغة النصر ليمرر خيبته. يدعي أنه أوقف الضربة الكبرى ثم يلوح بأنه أنقذ خامنئي من “موت بشع”، ويشكو من “الخطاب الكريه” الذي تلقاه كرد على نيته تخفيف العقوبات. إنه ترمب ذاته الذي أطلق العنان لإسرائيل لتقصف دولة أخرى ذات سيادة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة (وهو ما أدانته دول الخليج العربي وأولاها السعودية كموقف مبدئي وشجاع)، ثم تراجع حين لمح الهاوية تفتح فمها، لا لأن المبادئ تفرض التراجع بل لأن الكلفة السياسية والأمنية بدت أثقل من ثمن “الاستئصال”. وفي لحظة تبدو كاستثناء عابر داخل خطابه الفوضوي، يلوح ترمب -دائم التقلب- بما يشبه الإقرار بأن فائض القوة لا ينتج فائض طمأنينة، وأن منطق “العسل خير من الخل”، الذي بدا لعقود كعبارة أخلاقية زائدة، هو في جوهره تعبير عن عقل استراتيجي مفقود. غير أن هذا الإدراك، وقد جاء متأخراً، لم يكن كافياً لترميم انهيار الثقة في الدور الأميركي، إذ لم يكن الخلل في الأفعال وحدها، بل في اللغة ذاتها التي لم تعد تطمئن الحلفاء ولا ترعب الخصوم.
وفي مفترق بين هذا الزيف وذاك الاستعلاء، تأتي مقالة تركي الفيصل لتضع الإصبع على جرح النظام العالمي. تفضح ازدواجية المعايير، وتذكر بأن إسرائيل التي تدعي الدفاع عن وجودها تملك أسلحة نووية خارج رقابة العالم، وتواجه إيران بقصف منشآتها تحت مبرر نيات لم تتحقق. وهنا تظهر الفجوة الأخلاقية في قلب “النظام الدولي القائم على القواعد”، الذي ينهار بتناقضاته الصادمة والمحبطة في آن. لا يدافع الأمير عن النظام الإيراني، بل يعري بشجاعة فكرية نادرة العطب البنيوي في توازن القوى، إذ تعاقب دول وتكافأ أخرى على الأفعال نفسها. يدعو إلى الدبلوماسية لا استرضاءً لطهران بل التزاماً بالمنطق، ويتخذ من مقاطعة شخصية للولايات المتحدة تحت حكم ترمب رمزاً لمعنى السيادة الأخلاقية في زمن التنازلات الكبرى.
لكن الأهم من كل هذا في اعتقادي هو ما تكشفه هذه الخطابات مجتمعة عن جوهر الصراع. لم تعد القضية الفلسطينية مركز هذا الصراع، بل أصبحت مقياساً لاختلاله. ولم تعد إيران تتاجر باسمها فحسب، بل صارت واشنطن تبيعها كذريعة، فيما تستخدمها إسرائيل كسيف لشرعنة أفعالها. كل طرف يدعي الانتصار، بينما الواقع هو سلسلة من الانكشافات المتبادلة: إيران تنكشف كقوة طائفية لا أخلاقية، أميركا كقوة جبانة تعجز عن الحسم على رغم جبروتها، وإسرائيل كدولة نووية فوق القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة تزداد عزلة على رغم حلفائها.
أعتقد أننا إزاء خريطة يُعاد رسمها، لا بحبر المعاهدات بل برماد المجازر. في المدى القريب سيستمر الصراع ضمن حلقات متكررة من الردع والهشاشة، لكن على المدى البعيد فإن سقوط الخطاب الإيراني من الداخل، وتآكل الصدقية الأميركية، وتضعضع الإجماع الدولي حول “الاستثناء الإسرائيلي” كتهديد وجودي لدول الشرق الأوسط والخليج العربي، سيضع المنطقة على مسار مفتوح لاحتمالات لم تعد فيها الحرب آخر الفصول، بل ربما بدايتها.
فحين تسقط أوراق التوت التي تخفي العجز أو تتستر على الزيف، لا يعود ثمة ما يحجب الحقيقة عن العيان، حتى وإن بدت هشة في بنيتها أو ضعيفة في صوتها. فالحقيقة لا تقاس بسطوة المظاهر ولا بزيف الشعارات، بل بقدرتها على البقاء عارية دون أن تنهار. وحده العري الكامل في اعتقادي يكشف جوهر الأشياء: من يتكئ على الزيف يسقط حين ينكشف، ومن يعجز عن الرد ينهار حين يُمتحن. وفي لحظة تتراكم فيها الخطابات من مرشد مأزوم إلى رئيس غاضب إلى أمير يحسن التذكير، تتكشف خريطة الصراع على حقيقتها: ليست معركة كلمات بل معركة إرادات، والذين لا يملكون إلا الشعارات لا يصنعون التاريخ، بل يتأخرون عن موكبه.