… صمتَ برهة، كمن يسترجع صورة غائرة في ذهنه، وتنهد، ثم قال:
– “نحن لا نملك خيار الوقت… ولا فسحة التردد. منذ سقوط النظام، خرائط السياسة تعاد رسمها بسرعة لا ترحم، ومن لا يجد له مكاناً في البداية، سيُداس في النهاية.”
ساد الصمت مرة أخرى، صمت ثقيل كالمساءات التي تسبق العواصف.
بلند، بعينين مرهقتين لكن لا تزال فيهما جذوة يقظة، نظر في الوجوه المتعبة، وجوه رفاقه الذين لم تتغير ملامحهم، لكنها غدت أكثر انكساراً، وكأن كل واحد منهم يحمل فشلاً صغيراً في جيبه…!
“أعلم أن الطريق ليس مفروشاً، بل مملوء بالحفر، بالخذلان، بالمترددين، وبأولئك الذين يقيسون السياسة بميزان الربح والخسارة، لا بميزان المبادئ… لكني لا أزال أؤمن أن صوتنا، المختلف، الحقيقي، يمكن أن يُسمع.”
ثم اعتدل في جلسته وأخرج من حقيبته أوراقاً، رماها على الطاولة أمامه، وقال:
“هذه مسودة رؤية القطب الديمقراطي الذي نطمح لتشكيله. ليست مثالية، لكنها بداية… نحتاج إلى مراجعتها، تطويرها، طرحها على الاصدقاء، واختبار صدقهم، لا مجاملتهم.”
أحد الرفاق، وهو من المقاتلين القدامى، رفع يده وقال بنبرة خشنة:
– “لكنّ معظم القوى تبحث عن سلطة، لا عن مبادئ… الكل يساوم، الكل يناور، من سيقف معنا؟”
أجابه بلند بابتسامة خفيفة لكنها موجعة:
– “من يؤمن بما نؤمن به. حتى لو كانوا قلة. الكثرة ليست معيار الصواب. نحن لا نريد قطيعاً، نريد مشروعاً. نريد أن نقول: نحن هنا، ولسنا ظل أحد.”
بدأوا يقرؤون المسودة، تناقشوا، اختلفوا، لكن شيئاً ما كان يتشكّل بينهم… كأن الحلم القديم تنفّس من جديد.
وفي الأيام التالية، انطلقت محاولات التواصل… كتبوا رسائل، عقدوا اجتماعات مع أطراف أخرى، زاروا مدناً خَفَتَ صوت الثورة فيها لكنها لم تمت، تحدثوا إلى الشباب المتروكين على أرصفة الانتظار السياسي، وطرقوا عشرات الأبواب الموصدة، ووجوهاً مريبة تشكّك في كل شيء.
واجه بلند العقبات واحدة تلو الأخرى:
– حذر السلطة الجديدة من أي حراك مستقل.
– خذلان بعض الرفاق الذين انسحبوا بهدوء بحثاً عن مكاسب شخصية.
– تجريح الإعلام، واتهامات بالخيانة أو المثالية الساذجة.
لكنه لم يتراجع.
في إحدى الليالي، كتب بلند في دفتره:
“لم نُخلق لنكون تابعين، ولا شهود زور على تحالفات واهية. إن فشلنا، فليكن فشلاً شريفاّ، لا انخراطاّ رخيصاّ في مسرح الكذب.”!…
وفي اجتماعهم الأخير، بعد أشهر من العمل المتواصل، قال لهم بلند بصوتٍ ممتلئ بالتعب والأمل معاً:
“لن ننتظر المعجزة. نحن المعجزة إن شئنا. كل ما علينا هو أن نبقى أوفياء للفكرة، ولمن ماتوا دون أن يُقال اسمهم في نشرات الأخبار. لن نكون كثيرين، لكننا سنكون صادقين… وهذا يكفي أحياناً لتبدأ المعركة…!”
هزّ الجميع رؤوسهم، هذه المرة بإصرار لا بهدوء ومجاملة.
وهكذا…
في زمن تتآكل فيه الأحزاب، وتُشترى المواقف، ويُنسى الأمل خلف ملفات المفاوضات.
كان هناك رجل يُدعى بلند،
يحاول أن يشعل شمعة
في نفقٍ طويل
لا يعرف إن كان له آخِر…
لكنّه كان يسير….؟