في اللحظة التي ألقى فيها عزيز رأسه المثقل على الوسادة، لم يكن يريد أن يحلم، بل أن ينسى ؟.
قال لنفسه بصوتٍ بالكاد يسمعه: “ليت هذا الليل ينطفئ بلا ضجيج. ” كان النهار قد عبر جسده كقطارٍ صدئ، محمّلٍ بالغبار والانتظار والأسئلة التي لا تملك أجوبةً …؟
لكن السكون الذي ظنّه ، انكسر بصوت غريب. كان أقرب إلى نداء مائيّ، أو بكاءٍ خافت يتسلل من أنابيب منسية. قفز عزيز من سريره كمن داهمه الطوفان بعد عطشٍ طويل، وفتح باب التراس بتوجسٍ مألوف. هناك، تحت ضوء قمرٍ باهت ، لمح الصهريج يغادر بهدوء، وقد أنهى للتو تعبئة خزان الجيران.
ابتسم بمرارةٍ شديدة . مرّت أسابيع من الجفاف، وأشهر من صبرٍ بلا طعم، وحكاياتٍ عن نهرٍ صار أثراً بعد ماء.
المدينة، الجاثمة على عشرات الآبار الممتلئة ، تعيش على ذاكرةٍ مبتلّة، لا على واقعٍ يروى…!
أما نهر الجغجغ، فقد تحوّل إلى سيرةٍ حزينة، يمرّ في منتصف المدينة كما يمرّ شبحٌ في بيتٍ هجره أهله…!
روائح النتن تعبر الأزقة بلا خجل. الأرض صلبة، مغلقة على الحياة كقبرٍ قديم. والماء حلم، لا يتحقّق إلا لجارٍ يملك “واسطة”، أو لمن يعرف أن ينتظر في الوقت المناسب…؟
قالوا في دائرة المياه إنّ المشكلة في الكهرباء، وإنّ العطب يلتهم المحركات، وإنّ لا حلّ إلا الصبر…!
لكن عصام، الذي يشبه المدينة في قسمات وجهه، لم يحتمل الكذبة المكرّرة…!
وقف هناك، في وجه الموظف الذي تشبه نظرته دَرَجاً لا يؤدي إلى مكان، قال بصوتٍ مبحوح:
“لماذا لا تملكون مولدات؟
أين تذهب أموال الجباية؟
لماذا ندفع ثمن كل شيء… ولا نأخذ شيئاً؟
هل الماء رفاهية الآن؟ أم لعنة على من لا سلطة له؟”
لم يُجب أحد. بل عمّ الصمت، كما لو أن الحقيقة ألقت بنفسها في بئر لا قاع له.
عاد عزيز إلى شرفته. نظر إلى خزّانه الفارغ كما ينظر الأب إلى مائدة خالية في العيد.
وفي داخله، كانت الجمل تتناسل مثل قطرات مفقودة:
“نحن لا نُرى…
ولا نُحسب…
ولا نُروى…”
في ذلك الليل، لم يكن للمدينة شكلٌ واضح. كانت تنكمش في صدره كسعالٍ قديم.
كان يسمع جغجغ يبكي، لا ماء فيه، الا صوتُ من عاشوا حوله ، ولم يروه إلا ميتاً …!
وكان الخزان على السطح، كقبرٍ صغير، ينتظر قطرة لا تأتي.
في اللحظة التي وضع فيها عزيز رأسه من جديد، بعد أيام لا تُعدّ، سمع ذات الصوت…!
قفز مرة أخرى. فتح الباب. خرج إلى التراس.
كان الصهريج نفسه، يغادر…؟
لكن هذه المرّة، لم يكن خزان الجيران ممتلئاً.
ولا خزانه.
ولا اي شيء.
كانت المدينة تشرب ظلّها.
وهكذا، تدور احداث القصة في دائرة مفرغة، حيث تتبدل الوجوه ويبقى العطش. تتغير اليافطات ولا تتبدل الحقيقة: السلطة تحرس عطش الناس، وتحفر بأيديها قاع الجفاف…؟