بعد ضربِ الطائرات الأميركية مفاعلات إيران قال الرئيس ترمب: «دمّرنا مفاعلات إيران»، وعندما قصفت الطائرات الإسرائيلية دفاعات إيران وقتلت قادتَها صرح نتنياهو: «سنرسم خريطة الشرق الأوسط»، وعندما أخرجت إيران مفتشي الأمم المتحدة من أراضيها احتجاجاً على ضرب مفاعلاتها قال وزير خارجيتها: «نحن قادرون على إعادة بناء ما تهدم من برنامجنا النووي». هذه التصريحات تؤكد حقيقة واحدة أن إيران كما كانت، وينصب اهتمامها الآن على حماية نظامها وترميم دفاعاتها، وكيفية التفاوض مع ترمب دونما أن تفقد ماء الوجه. في المنطقة لم تعد إيران لاعباً مؤثراً، وهناك لاعبان مهمان: إسرائيل وتركيا، وهما يتنافسان الآن على مناطق نفوذ، وقد يتقاتلان إذا لم يفرمل الرئيس ترمب إغراءاتهما بالتوسع. وسارعت إسرائيل بعد سقوط الأسد إلى احتلال مناطق سورية في الجولان، وثبتت مناطق نفوذ في الجنوب مع الدروز، ودمرت قواعد عسكرية، ومعدات، لكي تحرم سوريا من إمكانية الدفاع عن أراضيها ومصالحها. هذا التحرك الإسرائيلي يُعيد المنطقة إلى ما يسمى «أحزمة النفوذ» (Spheres of influence) التي كرسها الرئيس الأميركي جيمس مونرو عام 1823، وتُعرف بمبدأ مونرو. وبموجبه لا يحق لدول أوروبية أن تتدخل في أميركا اللاتينية، وكُرّس كذلك في مؤتمر برلين 1884-1885، وفي اتفاقية مالطا عام 1945، وبه ستتذرع تركيا، وربما غداً دول أخرى.
نتنياهو يؤمن بنظرية انتهاز الفرصة، وتكريس وقائع على الأرض، لكنه بعد إخراجه إيران فتح الباب أمام إردوغان، وبالتالي أصبح يتنافس معه على الكعكة السورية، والأهم على رسم مسار المنطقة. هذا التنافس أوصلهما بعد ضرب إسرائيل للدولة السورية الوليدة إلى شفا المواجهة لولا تدخل الرئيس ترمب، وتهديده لنتنياهو بالتوقف عن مواجهة إردوغان، وحذره بأن إردوغان صديقه، ونصحه بأن يعود إليه عند الاختلاف على أحزمة النفوذ. بهذا القول الحاسم أصبح واضحاً أن المايسترو الجديد للشرق الأوسط هو الرئيس ترمب، وأن الصراع في المنطقة على أحزمة نفوذ ليس مسموحاً به، وأن ترمب وحده يوزع صكوك النفوذ في منطقة تتشكل من جديد. وبالفعل رتب ترمب لهما خطاً عسكرياً ساخناً لكي يتفاهما بسرعة قبل أن يدخلا في معركةٍ تبعاتها خطيرة على إسرائيل، وبالذات على مشروع ترمب للسلام في الشرق الأوسط.
أمام ترمب الآن فرصة ثمينة في المنطقة حيث لا نفوذ روسياً ولا إيرانياً، بل أميركي بامتياز، والعقبة الوحيدة أمامه هي نتنياهو، ورؤيته لـ«إسرائيل الكبرى»؛ لذلك قال وزير خارجية تركيا فيدان في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي مؤخراً: «لا يوجد مشكلة فلسطينية ولا لبنانية ولا سورية ولا يمنية، بل مشكلة إسرائيلية». هذا يعني أن الأتراك يرفضون أن تكون إسرائيل المهيمن في المنطقة، بل يريدونها أن تكون دولة مثل غيرها، وأن يتشارك الجميع عرباً وأتراكاً وإسرائيليين في خيرات وتنمية المنطقة وأمنها. في المقابل، ترى الدول العربية المؤثرة أن لا «إسرائيل الكبرى» مقبولة، ولا نظرية «القرن التركي» لإردوغان مرغوبة، بل إن الحل تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، واحترام سيادة الدول، والابتعاد عن نظرية الأحزمة الأمنية التي ستنزل بالدول العربية المجاورة أكبر الضرر، وهي لم تتعافَ بعدُ مما حدث. ويبدو أن ترمب يميل إلى نزع فتيل غزة، ثم طرح حل للقضية الفلسطينية، ويعتقد أنه قادر على جر كل الأطراف إلى توقيع اتفاقية جديدة قد تكون تطويراً لـ«الاتفاق الإبراهيمي».
بالرجوع لتاريخ الشرق الأوسط، ثمة حقيقة ثابتة أن الانتصار في حرب لن يعقبه بالضرورة سلام، وأن رمال المنطقة المتحركة ابتلعت آمالاً كباراً، وفيها غرقت دول، وعلى الرئيس ترمب أن يتعظ بهذا الماضي، ويستلهم حلاً لا يستبعد أحداً من التسوية الكبرى. ويكمن الخوف في استجابته لنتنياهو الذي ينتظر صرف انتصاراته العسكرية سياسياً، بتسويق اتفاقيات منفردة مع دول عربية، وهو مطلب قديم تمسكت به إسرائيل، وبه مزقت قدرات العرب التفاوضية؛ لذلك فإن قبول ترمب بهذا المسار سيرتب أخطاراً كبرى على رؤيته للسلام، وأي توجه منه لإجبار سوريا «الوليدة» دونما مراعاة لمصالح تركيا، ودونما موافقة عربية، سيكون بمثابة السير في حقل ألغام، وكذلك أي حل لا يُشرك الدول الأوروبية والإسلامية، وبالذات روسيا والصين، ولو شكلياً، سيكون انتقاصاً لهيبة الكبار، وربما سيوفر لتلك الدول ذريعة لتفخيخه، ثم تفجيره في المستقبل.
الآمال كلها معلقة الآن على ترمب؛ لأنه الوحيد القادر الآن على صناعة السلام العادل، ودفن مشروع «إسرائيل الكبرى»، وإلغاء «القرن التركي» بعدما أزاح مشروع إيران الثوري. إن ترمب يقف على عتبة التاريخ؛ فإما أن يفرض السلام العادل ويخلده التاريخ، أو ينصاع لرغبات نتنياهو فيغرق في رمال المنطقة كما غرق قبله ملوك وأباطرة ورؤساء عظام.
كُتّاب الشرق الأوسط
المزيد
الأكثر قراءة
اليوم
الأسبوع
11 أمراً لا تسأل عنها «تشات جي بي تي»
1
11 أمراً لا تسأل عنها «تشات جي بي تي»
2
احذر فنجان القهوة الصباحي قد يسبب العمى
3
طبيب يكشف عن عاداته اليومية للمحافظة علي شبابه والوقاية من الشيخوخة
4
ما أفضل الأطعمة لصحة الدماغ بعد سن الأربعين؟
5
هذه العلامات قد تعني أن حرقة معدتك تخفي مرضاً خطيراً