حين تناقش الواحد منهم عن خواء نصه من الأفكار الجادة والمثيرة يخرج لك من قبعته السحرية مقولتك أيها المعلم “المعاني مطروحة في الطريق”
أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أيها المعلم الجليل، أدعوك بالمعلم مع أنك كنت دائماً لا تحب مهنة المدرس، نعم أيها المعلم بالمفهوم الذي يطلق على أرسطو، عمت صباحاً أو عمت مساء.
ولأنك رمز العقل والجدل والاجتهاد والجرأة، أكتب إليك اليوم لأعاتبك على مقولة كثيراً ما ضللت النخب، مقولة كلما ذكر اسمك في محفل إلا وذكرت ملحقة به، حتى أصبحت على ألسنة النخب من الجامعيين والنقاد والأدباء والمثقفين، لا يتوقف الواحد منهم عن الاستشهاد بها في كل مكان وفي كل حال، نعم، ألست أنت القائل “المعاني مطروحة في الطريق”؟
هذه المقولة، أيها المعلم الذي لا يحب مهنة المدرس، شوشت على طريق نخبنا كثيراً، نشرت بعض الفوضى في ما بقي من بقية أفكار في أدمغة أحفادك الضائعين المتهافتين.
حين تناقش الواحد منهم عن خواء نصه من الأفكار الجادة والمثيرة، وتكشف له إقامته أدبياً داخل لعبة من قواقع الألفاظ وهراء الإنشاء، يخرج لك على الفور من قبعته السحرية مقولتك أيها المعلم “المعاني مطروحة في الطريق”، يقول ذلك باستخفاف بالأفكار، يقول ذلك، كل ذلك، لكي يخفي الخواء الفكري الذي يعانيه نصه، محاولاً جرّ انتباهك إلى لعبة اللغة الفارغة.
صحيح، أيها المعلم، “الشأن (في الأدب) إقامة الوزن وتخيّر اللفظ” لأن الأدب لغة وبناء وموسيقى، لكن لا لغة ولا بناء ولا موسيقى يمكنها أن توجد أو تعيش بصحة جمالية عالية في غياب مصفوفات من الأفكار والفلسفات القائمة على التمحيص والنقد والتدقيق والمراجعة والمقارنة.
والسؤال المحيّر، أين يجد صاحب “الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ” تلك الأفكار الضرورية التي تشكل روح النص والتي من دونها يظل هيكلاً أو كمشة من قواقع فارغة برنين أصم؟”.
أيها المعلم، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في زمننا الثقافي والفكري والإبداعي هذا، الطرقات أصبحت مخيفة، مقفرة، لا أفكار فيها ولا شجر، ولم تعُد المعاني مطروحة على أرصفتها التي احتلها المهمشون والمهربون والمتحرشون بالنساء والبطالون.
الأفكار الكبيرة المجتهدة التي هي روح النص وعماده علينا البحث عنها في مظان الكتب العظيمة، علينا تصيدها في قراءة النصوص الخالدة المعقدة والمقلقة كنصوصك أيها المعلم، يا أبا عثمان الجاحظ، وعلينا أيضاً البحث عنها في الحياة حين نمتلك لذلك سبيلاً وهو التحكم في منهج قراءة ما يحيط بنا.
زمن التفاهة والعقم
التفاهة يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحاصرنا وتغرقنا وتجرفنا من كل الجهات.
في زمننا هذا، نعم، لقد أصبحت “التفاهة” ماكينة سحرية لتفريخ “الأفكار” ووضعها بغزارة على الطرقات التي نسلكها صباح مساء، نسلكها في الواقع حيث الشوارع والأزقة والحارات والساحات العمومية والأسواق، ونسلكها في الافتراضي على الشاشات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت وسائل التفكك الاجتماعي.
في زمننا هذا، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، من السذاجة التي ما بعدها سذاجة أن يجد الكاتب الأفكار على طرقات مشبوهة ومشلولة، صيد الأفكار كصيد المحار أو أصعب.
مرات، يا أبا عثمان الجاحظ، أتساءل من الأسبق في صناعة النص الجميل والخالد، الفكرة أم الصياغة؟
يبدو لي أن الفكرة، في غالب الأحيان والأحوال، هي رحم الصياغة، هي نوتات موسيقى النص ومتقنة اللغة ومنحت البناء العام، وكلما كانت الفكرة أصيلة وجديدة ومثيرة وواضحة ومتحكماً فيها بصورة بارعة استطاعت أن تدير نظام الكلام على أصوله وترتيب سلسلة الكتابة كما يجب، الكاتب القدير هو من له سحر القدرة على تشبيك حقيقي داخلي بين المعنى/ الفكرة من جهة، واللغة/ النص من جهة ثانية.
اقرأ المزيد
شوارع رام الله… روزا لوكسمبورغ والجاحظ ومانديلا معا
في خلفيات الصراع اللفظي الحاد بين سارتر ولوي فردينان سيلين
لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة
العلاج بالكتب: وصفة طبية أدبية لشفاء النفوس
الفكرة الجديدة هي رحم النص الجديد
أيها المعلم، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في أيامنا هذه، أيام البقر العجاف، نعيش أزمة في الأفكار، ما عادت هناك أفكار جديدة مثيرة، لم يعُد الفلاسفة منذ القرن الـ20 يبدعون أفكاراً جديدة.
أمام فقرنا لرأسمال الأفكار الجادة، العالم المعاصر الذي نحن فيه، ها هو يمشي نحو الخراب، خراب تفرضه التكنولوجيا المتوحشة التي تستثمر في الحروب وثقافة الكراهيات، عالم تجتاحه الجوائح التي تعتاش عليها مخابر طبية مشبوهة همها الربح الهمجي.
زمننا هذا، يا أبا عثمان الجاحظ، يفتقر إلى سلّم الأخلاق، لقد أضحى العالم المعاصر من دون قيم إنسانية سامية، وعادت العبودية في صورة جديدة وعاد الاستعمار في حلة أخرى، وما عادت العنصرية إدانة، لذا نحتاج إلى مصفوفة جديدة من الأفكار الشجاعة لأخلقة السياسة والمال والثقافة والحروب والأديان، فأي طريق هذا الذي نعثر على أرصفته ما يداوي هذا الجرح المفتوح الذي يشبه الغرغرينا الخطرة التي تهدد وجود البشرية برمتها.
هذا الزمن، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، هو زمن أصحاب “إقامة الوزن وتخير الألفاظ” الجدد، من الداعية الخطيب، إلى السياسي المفوّه، إلى الشاعر النائح، إلى الروائي المحبر، إلى الإعلامي المأجور. إن عملية “إقامة الوزن وتخير الألفاظ” الراهنة، على حد قولك، هي عملية فارغة من المعنى ومن القيم، وأمام هذا بدا الطريق موحشاً مليئاً باللصوص وشذاذ الآفاق من السياسيين وتجار الأديان والكتاب والإعلاميين الذين يشبهون السلعة البائرة.
يا أبا عثمان الجاحظ، في زمننا هذا، موسم جفاف الأفكار وجفاف الروح، لم يعُد بإمكان أي شخص الوصول إلى سلم الأفكار العميقة، كلما هو معروض علينا وأمامنا مشبوه، أو أكثره، في الإعلام وفي كتب التنمية البشرية وكتب الفتاوى وكتب الأدب وكتب التاريخ وحتى في كتب الجغرافيا.
التفاهة أغرقت الذكاء
أيها المعلم في زمنا هذا ولأن الطريق ما عاد مثمراً بالأفكار الجادة، فالعالم من حولنا يهوي، والروح تتفسخ قبل الجسد.