الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية». أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواءٌ منَحَنا الحبُّ متعة عظمى أم تسبّب لنا بمعاناة رهيبة، فإنّ قليلين وحسبُ هم الذين ينكرون أنّ الحب هو ما يمنح الحياة معنى وهدفاً جديريْن بالاحترام، وإنّ غياب الحب يحيل الحياة صحراء موحشة. هناك كثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل: كيف يمكن لهذه الخصلة الإنسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟ وإذا كان «الحب هو كل ما تحتاجهAll You Need is Love » كما تخبرنا كلمات أغنية فرقة البيتلز، فلماذا يبدو أحياناً أن الحبّ ينساب في مسارات خاطئة تقود إلى آلام ومعاناة مؤذية؟ وكيف يمكن لشيء مثل الحب، يبدو في غاية الوضوح، أن يتسبّب في آلام وتناقضات على قدر عظيم من الإيذاء؟ يبدو أن السببَ يكمن في أنّنا لا نفهم الحب على قدر وافٍ من الكفاية والتمعّن والاستبصار الفلسفي.
كيركيغارد
كيركيغارد
يبدو الحب نوعاً من دفقة «تسونامي» تضرب كيان الفرد، وتدفعه للإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة. شاعت هذه القناعة لدى كثير من الفلاسفة منذ عصر الإغريق حتى اليوم، ممّن يرون في الحب عرضاً من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام. من المثير في هذا المقام، قراءة المقطع التالي الوارد في كتاب «الحب: مقدّمة موجزة» المنشور عن جامعة أكسفورد للفيلسوف رونالد دي سوسا Ronald De Soussa:
«ثمة صِدامٌ من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى للحب مع المثال السائد عن الحبّ، لأنّ الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة. الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك. ثمة ملحوظة تعني – ربما – أنّ الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي، وربما حتى غير الصحي، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة، قد شجبوا الحب، ورأوا فيه حالة مرضية (باثولوجية)».
طرح الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون في حواراته المعروفة وحتى عصرنا هذا، نظرياتٍ كثيرة حول الحبّ، من شأنها أن تُثير فينا كثيرًا من التساؤلات. إذا كنا نحبّ الناس لصفاتهم، على سبيل المثال، فهل من المقبول أن نحبّ أي شخصٍ له الصفات نفسها، أو أن نُمسِكَ عن حب شخصٍ ما إذا تغيرت صفاته؟ وإذا كنا نُقدّر، بدلاً من ذلك، صفات من نحبّ فقط لأننا نحبّه، فلماذا لا نُوسّع نظرتنا المُحِبّة إلى مزيد من الناس بدلاً من جعلها مخصوصة بفرد واحد؟
الحبّ شعورٌ يصيبنا بإرباك لا يمكننا التفلّت من تأثيراته أو تغافل التفكير فيه. على سبيل المثال، تشيرُ إحصائية حديثة إلى أنّ الناس في الولايات المتحدة يبحثون عن كلمة «حب» على «غوغل» نحو 1.2 مليون مرة كلّ شهر، وأنّ ما يقربُ من رُبْع هذه العمليات البحثية تسأل «ما هو الحب»، أو تطلب «تعريفاً للحب». يبدو الحب خصيصة ملازمة لحياة كلّ كائن بشري.
يُخبرنا علم الأعصاب بأن الحبّ ناتج عن مواد كيميائية (نواقل عصبية) مُعيّنة في الدماغ. على سبيل المثال، عندما تُقابل شخصاً عزيزاً، فيُمكن حينئذ لهرموني الدوبامين Dopamine والنورإبينفرين Norepinephrene، أن يُحفّزا فيك استجابة مكافأة تجعلك ترغب في رؤيته مرة أخرى. الأمر مشابه تماماً عندما تتذوّقُ الشوكولاته وترغب في مزيد منها لاحقاً.
مشاعرك هي نتيجة هذه التفاعلات الكيميائية. عندما تكون بجانب شخص تُعجَبُ به، أو صديقٍ مُقرّب منك، قد تشعر بشيء من الإثارة والانجذاب والفرح والمودّة. تشعرُ بالسعادة عندما ترى من تحبّ يدخل الغرفة التي تجلس فيها. مع مرور الوقت تشعر بالراحة والثقة. يختلف شعور الحب بين الوالدين والطفل عن حبّ رجل وامرأة بالغيْن، ويختلف شكلا الحب هذان عن حبّ الشوكولاته مثلاً. الفرق هو في طبيعة الناقل الدماغي (بمعنى اختلاف التجربة الكيميائية الحيوية التي تجري وقائعها في الدماغ).
ولكن، هل هذه المشاعر الناتجة عن تفاعلات كيميائية حيوية في أدمغتنا هي كل ما يُمثّله الحب؟ هل الحب محضُ شعور أم تجربة حسّية أم عاطفة منبعثة من أعماقنا؟ أظنُّ أنّ المقاربة الاختزالية التي تردُّ الحبّ إلى ناتج تفاعلات كيميائية دماغية تبدو قاصرة عن فهم الحبّ وتمثّلاته في حياتنا، وهذا تماماً ما جعل الحبّ ميدان دراسة فلسفية خارج أنطقة المختبرات والمشاهدات العيانية الصارمة.
اهتمّ الفلاسفة – بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة – بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ، وهم (الفلاسفة) يتشاركون قناعة بأنّ الحب أوسعُ من مجرد شعور مستثار بدافع كيميائي.
اعتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ الحبّ قد يُولّد مشاعر كالانجذاب والمتعة، وهي مشاعر خارجة عن سيطرتك؛ لكنّ هذه المشاعر – العامّة وغير الموجّهة تجاه فرد بعينه – أقلّ أهمية من علاقات الحب التي تختار تكوينها بسلوك قصدي، وربما تشير هذه الحقيقة إلى خاصية أنانيّة متأصّلة في الحب الحقيقي: لا ترغب في أن يشاركك أحدٌ فيمن تحب.
اهتمّ الفلاسفة ــ بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة ــ بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ
وبالمثل ولكن بمقاربة محدّثة، ادّعى أرسطو، تلميذُ أفلاطون، أنّه على الرغم من شيوع العلاقات المبنية على مشاعر كالمتعة والانجذاب؛ غير أنّها أقلُّ فائدة للبشرية من العلاقات المبنية على حسن النية والفضائل المشتركة. السبب في ذلك اعتقاد أرسطو أنّ العلاقات المبنية على المشاعر تدوم فقط طالما استمرت المشاعر، ولا تملك خاصية التشارك الأخلاقي الذي يسمو على الزمان ومحدّدات الظروف والتغيّر المتوقّع في الرغبات والأمزجة الذهنية والتوجهات النفسية: تخيلْ مثلاً أنك شرعت في علاقة ثنائية مع شخص لا تجمعك به سوى حقيقة أنكما تستمتعان بلعب ألعاب الفيديو. إذا حصل وتوقّف أيٌّ منكما عن الاستمتاع بالألعاب، فلن يبقى أي شيء يُبقي العلاقة بينكما متماسكة. هذه هي الحقيقة الواضحة: كلُّ علاقة تتأسّسُ على المتعة المجرّدة فإنّها تزول مع زوال العنصر المسبّب للمتعة لدى أحد الأطراف، أو لدى الطرفيْن معاً. قارن علاقة المتعة هذه مع علاقة الحب. الفارق بيّنٌ وشديد الوضوح. يرغب الطرفان اللذان تجمعهما علاقة حبّ بالبقاء معاً؛ ليس بدافع متعة مشتركة بل لإعجابهما بعضهما ببعض كما هما.
يقدّم دليل أكسفورد المرجعي لفلسفة الحب The Oxford Handbook of the Philosophy of Love، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2024، مجموعة واسعة من المقالات الأصلية حول طبيعة الحب وقيمته. جمع المحرّران كريستوفر غراو Christopher Grau وآرون سموتس Aaron Smuts (وهما فيلسوفان جامعيان لامعان) كتابات نخبة من الفلاسفة من بينهم باحثون بارزون وشباب يشرعون في تشكيل مسارهم الفلسفي. يضمّ الكتاب ثلاثة وثلاثين عنواناً (موزّعة على خمسة أبواب) تتناول قضايا الحب ومعضلاته، بالإضافة إلى فلاسفة بارزين أسهموا في فلسفة الحب، مثل أفلاطون وكيركيغارد وشوبنهاور وآيريس مردوك. تتراوح الموضوعات المتناوَلَة بين القضايا المحورية حول طبيعة الحب وتنوعه، وإمكانية تبريره عقلانياً، وما إذا كان شعوراً، وأهمية الحب في القانون والاقتصاد والأخلاق والإرادة الحرة. كما يتضمن المجلّد مقدمة للموضوع، فضلاً عن مقالات حول علاقة الحب بالغيرة والدين والمعرفة والتكنولوجيا الحيوية، وكثير من الموضوعات الأخرى. اختصّ المحرّران الجزء الأخير من الدليل، وعنوانه تقاطعات Intersections، لبحث العلاقة المشتبكة بين الحب وموضوعات أخرى؛ مثل: الحب والقانون، والحب والمعرفة، والحب والأدب، والحب والدين، والحب والحرية. سيكون هذا الدليل الشامل مرجعاً أساسياً للمتخصّصين في فلسفة الحب، ودليلاً مفيداً لمن يتطلّعون إلى معرفة المزيد عن هذا المجال من غير ضرورة مسبّقة لأن يكونوا فلاسفة متمرّسين.
أرى أنّ جزءاً حيوياً من أهمية هذا الكتاب (وسواه من كتب الدليل المرجعي Handbooks) يكمن في أنّه يوفّرُ للقارئ طيفاً واسعاً من العناوين التي يستطيع انتقاء ما يشاء للاستزادة من قراءتها والتفكّر فيها. تتعاظم هذه الأهمية في عصرنا المتفجّر بفيوض لا تنقطع من المعلومات والمعرفة اليومية، التي بمستطاعها إغراقُنا في سيول من العناوين المفكّكة غير المترابطة التي لا ينتظمها خيطٌ معرفي.
مواضيع