إزاحة نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني والتعامل مع المتغيّرات والمتطلّبات الإقليمية الجديدة والحديث اليومي عن ذلك في سوريا وإسرائيل ستفتح الطريق أمام تفاهم سلام سوري–إسرائيلي، عاجلاً أم آجلاً. لكنّ هناك متطلّبات وترتيب أولويّات لا بدّ من تحقيقها قبل ذلك.
كشف الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال لقاء شعبي محلّي، عن جهود تُبذل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية عبر حوار غير مباشر مع إسرائيل. لن تتجاهل “صفقة القرن” تطوّرات المشهد السوري وارتداداته في المنطقة. العرض الأميركي المقدَّم للشرع لا يقلّ أهميّة: انضمام سوريا إلى الاتّفاقات الإبراهيمية كجزء من سياسة واشنطن الجديدة في الشرق الأوسط.
بالمقابل لن يسمح ترامب لأنقرة وتل أبيب بمواصلة حرب النفوذ على هذا النحو، خصوصاً بعد إزاحة العقبة الإيرانية. تركيا هي التي كانت تقدّم الخدمات قبل عقدين من الزمن على طريق التفاوض السوري–الإسرائيلي، فلماذا تعارضه اليوم إذا ما كان سيعزّز من نفوذها الإقليمي؟
إزاحة نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني والتعامل مع المتغيّرات والمتطلّبات الإقليمية الجديدة والحديث اليومي عن ذلك في سوريا وإسرائيل ستفتح الطريق أمام تفاهم سلام سوري–إسرائيلي
محاولة معكوسة؟
عندما أوفد الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1982 فيليب حبيب، ابن زحلة، مبعوثاً خاصّاً إلى المنطقة، كان هدفه البحث عن صيغة تسوية إسرائيلية–فلسطينية توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتمهّد لاتّفاق سلام لبناني–إسرائيلي. نجح في المهمّة الأولى، وفشل في الثانية لأنّ دمشق عرقلتها في اللحظة الأخيرة.
عندما قرّر الرئيس الأميركي الحاليّ دونالد ترامب إرسال توم بارّاك الزحلاوي أيضاً، ذي الجذور اللبنانية، بصلاحيّات استثنائية إلى الشرق الأوسط، كانت مهمّته العلنيّة تصحيح مسار العلاقات التركية–الأميركية الدائمة التوتّر. لكنّ الهدف الآخر غير المُعلن قد يكون المساهمة في صناعة اتّفاق سلام سوريّ–إسرائيليّ يُطبخ على نار هادئة بعد سقوط نظام الأسد.
بدأ حراك بارّاك لتنفيذ الخطّة منذ اليوم الأوّل لتسلّمه مهامّه، من خلال التصريحات الإيجابية التي أطلقها باتّجاه أنقرة، وانتقاداته لاتّفاقات سايكس–بيكو قبل قرن، ورسائله الانفتاحية إلى القيادة السوريّة الجديدة ورئيسها أحمد الشرع، وزيارته لدمشق ولقاءاته هناك. لكنّ مصافحة ترامب–الشرع في الرياض كانت الخطوة المؤثّرة في دفع القناعة الأميركية الجديدة إلى ضرورة مساعدة سوريا على الخروج من أزماتها.
تختبر واشنطن نفسها من جديد في مسألة صناعة اتّفاق سلام لا يبتعد كثيراً عن مسار الاتّفاقات الإبراهيمية، لكن عبر التواصل مع الجانب السوري أوّلاً وليس مع اللبناني هذه المرّة.
يعوّل البعض على نجاح بارّاك في المهمّتين، فتركيا ستكون مفتاح واشنطن في الملفّ السوري وجسرها للتواصل مع القيادة السورية الجديدة. وقد تدعم هدف ترامب عندما تتأكّد أنّ تل أبيب راغبة في سلام حقيقي يختلف عن أساليب وألاعيب القيادات الإسرائيلية منذ السبعينيّات حتّى اليوم.
خطّة واشنطن هي إنهاء حالة الحرب بين إسرائيل وسوريا، وتفعيل ترتيبات سياسية وأمنيّة حدوديّة مرتبطة بحلّ موضوع الجولان وانسحاب القوّات الإسرائيلية من الأراضي السوريّة، مقابل ضمانات وتعهّدات أمنيّة وسياسية واقتصادية يتمّ الترتيب لها على مراحل. صحيح أنّ الظروف القائمة في سوريا اليوم تمنح الأطراف فرصة استراتيجيّة من هذا النوع، خصوصاً مع انحسار الدور والنفوذ الإيرانيَّين في المنطقة، لكنّ الطريق للوصول إلى هذه الأهداف لا بدّ أن تسبقه تهدئة تركيّة–إسرائيلية وتفاهمات ثنائية وإقليمية على الملفّات الخلافيّة بدعم وتشجيع أميركيَّين.
تختبر واشنطن نفسها من جديد في مسألة صناعة اتّفاق سلام لا يبتعد كثيراً عن مسار الاتّفاقات الإبراهيمية، لكن عبر التواصل مع الجانب السوري أوّلاً وليس مع اللبناني هذه المرّة
أقلّ من سلام وأكثر من هدنة
هناك تحوُّل لافت في السياسة الأميركية بالشرق الأوسط، لا يثير قلق إسرائيل كما يردّد البعض، لأنّ التنسيق متكامل ويعكس وجود تفاهمات إقليمية مصحوبة بخطّة أولويّات تشمل سوريا، خصوصاً بعد قرار ترامب رفع العقوبات الأميركية عنها. فالإدارة الأميركية الجديدة تتطلّع لتحويل الساحة السورية إلى فرصة تهدئة إقليمية، ومجال لعقد صفقات سياسية واقتصادية تُشرك أطرافاً متعدّدة.
قد يكون تراجع الضربات الإسرائيلية في سوريا مؤشّراً إلى تسهيل مهمّة ترامب، بهدف سدّ الفجوة بين تل أبيب وأنقرة أوّلاً، ثمّ التقريب بين دمشق وتل أبيب ثانياً. لكن دون اتّضاح أهداف إسرائيل الجديدة في سوريا، في ضوء المتغيّرات الإقليمية، وشكل خارطة التطبيع وتفاصيلها السياسية والأمنيّة والاقتصادية، ودون حصول التفاهمات الإقليمية التي تُسهّل ضمان اتّفاق سياسي من هذا النوع، لن تُقدم دمشق على خطوة بهذا الاتّجاه.
إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر لاستعداد إسرائيل للتطبيع مع سوريا، شرط الاحتفاظ بمرتفعات الجولان المحتلّة، مناورة سياسية لجلب الطرف السوري إلى الطاولة، وليس من أجل إبعاده. فواشنطن لن تسمح بعرقلة خطّتها الإقليمية التي يبدو أنّ تركيا وبعض العواصم العربية تدعمها. لكنّ الداخل السوري غير جاهز بعد لعقد صفقات سياسية من هذا النوع وبهذه الأهمّية.
يستدعي أيّ مسار سلام سوري–إسرائيلي تثبيت وقف إطلاق نار دائم بضمانات دولية، بما يهيّئ لمرحلة ترتيبات أمنيّة حدودية تشمل انسحاباً إسرائيليّاً تدريجيّاً من الأراضي السوريّة، مقابل التزامات واضحة من دمشق. غير أنّ ترسيخ هذا السلام يتطلّب ربطه بالمبادرة العربية للسلام، لضمان عدم تفكيك القضايا الإقليمية الكبرى وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، وتفادي عزل سوريا عن محيطها العربي في مرحلة ما بعد الاتّفاق.
بمقدور الشرع، الذي يتحدّث عن مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، أن يعقد تفاهمات وتسويات تشمل بعض التعهّدات السياسية، مقابل انسحاب إسرائيلي تدريجي من الأراضي السورية، لكنّه لا يملك مفتاح عقد اتّفاق سلام مع إسرائيل قبل إنجاز التحوّلات السياسية والدستورية في سوريا، والخروج من المرحلة الانتقالية، وتولّي البرلمان السوري الجديد والمؤسّسات الدستورية لمهامّها عبر مشاركة سياسية وشعبية واسعة.
إقرأ أيضاً: من الشّرع إلى جعجع: هل تبدأ إيران مرحلة الاغتيالات؟
ستواجه حكومة الشرع صعوبات وتحدّيات كبيرة في محاولة إقناع الشعب السوري الرافض لأن يكون موضوع السلام مع إسرائيل بين أولويّاته، على حساب ملفّات سياسية ودستورية واقتصادية واجتماعية ينتظرها الداخل السوري. وأبعدُ ما يمكن طرحُه وقبولُه اليوم هو وثيقة وقف إطلاق نار وتعهّدات متبادلة بتبنّي مسار الحوار نحو السلام الدائم بين البلدين.
يبقى السؤال الذي ينتظر الإجابة: هل ما فشل فيه فيليب حبيب يُنجزه توم بارّاك، لكن بطريقة معكوسة لمسار اتّفاق 17 أيّار… سوريا أوّلاً، وبعدها لبنان؟