“لم أعرف من قبل أحدًا يُسمح له بأن يكتب شيئًا كهذا!” – بهذا الشطر آثرتُ أن أبدأ هذه المقالة، وهي عبارة عن رؤًى ذاتية لا تخضع لصرامة الموضوعيّ ولا لقيم المنهج الذي أرغب في تحطيمه، حتى لو أدّى ذلك إلى تحطيم نفسي؛ لأنّه، وكما نتحرك حين نتحدث عن القواعد في حيز المتوقّع، يجدر بنا عند تخطيّها أن نُحاذي توتّر غير المتوقع.
وما دمنا في مجال الأخير، فمن البديهي أن نتوقف عند “الصدمة الجماليّة”، أو بتسمية أخرى “صعقة الجمال”، لنُطلّ من شرفة المقيّد على اللامحدود، ومن الزائف على الحقيقي، ومن المسار الخطيّ على انبثاق العمودي، ومن فرحة الاكتشاف على دهشة الاختراق، حيث تسود لحظة الإدراك بأن العالم لم يعُد كما كان.
وهي تجربة خارجة عن المألوف، لا تقتصر على الفن أو الفلسفة، بل تتمثل في كل موقف إنساني. وقد يُحدثها كتاب أو نص فلسفي، عبارة أو شطر من قصيدة. وحين ترتعد الروح، تكون لرؤية تجربة عاطفية: “حبّ صاعق أو هجرٌ مباغت، موت أو فقدان”. وهي تناقض حاد، يعجز فيه الإنسان عن فهم مسألةٍ ما، وتسبقه لحظة إدراك لعجز أدواته التقليدية وملكاته الاعتيادية عن فهم هذا، سواء في الفن أو الحياة أو المعرفة. لكن الأثر هنا يمتدّ من الفن والحياة إلى الروح، كالصعقة.
وهو أشبه باختراق أو قطيعة، على غرار قطيعة باشلار وزمنه العمودي. إنّه انحراف عن العادي، ولحظة انقلاب لا تعني شيئًا واحدًا، ولا تنتهي بالضرورة إلى النتيجة ذاتها. قد تؤدّي إلى تجديد الفن والقطع مع السائد فيه، أو تؤدّي إلى اصطباغ نظرة الإنسان للوجود بلونٍ جديد لا يمكن وصفه، ورؤيته من زاويةٍ مختلفة مفاجئة وغير مخطط لها.
فلم يتخيّل الطفل الذي رافق والده التاجر في جولةٍ على المدن الأوروبية، أن التوقف “بجانب إحدى نوافذ مشفى وسماع الأنين المنبعث منها”، سيجعل منه أحد أهم أساتذة العدميّة، ليصبح آرثر شوبنهاور، مايسترو التشاؤم ومهندسه الأهم.
لقد رأى سارتر في هذه اللحظة لحظةَ مواجهة مع الذات، لا مع الشيء الذي هزّها، وفيها يتجاوز الإنسان الأثر الشاحب للفن، والذي لا يتعدّى كونه استجابة عاطفية سارة ومبهجة. وفي هذا الحيّز تتلعثم اللغة، إذ لا يعود الكلام ناجعًا. ويصبح الصمت أبلغ وأجدى. يمكن أن نفهم حينها لماذا يستطيع نصّ ما أن يُغيّرنا ويؤثّر فينا، بينما يعجز نصٌّ آخر عن ذلك.
وهذا المقال ليس سوى تعبير عن تلك اللحظة الجمالية؛ إذ حفّزت كتابته سلسلة من التذكّرات الأثيرة لدي، حين كنتُ تلميذةً تسعى إلى تثبيت الوجود في وضعية واحدة، على غرار هوسرل الذي وضع في مسار الشعور المتدفّق كُتَلًا صلبة من الماهيات.
وضع هوسرل في مسار الشعور المتدفق كتلًا صلبة من الماهيات (Getty)
كنتُ أريد فهم قانون الوجود والإمساك به بين حدّين أو مقولتين، بين ثنائيات الخير والشر، أو عبر اللغة. إلى أن قرأت عن آلام كيركغارد، جالسًا فوق صخرة يرعى ندمه كما يعتني الراعي بخرافه (معاتبًا السماء، معاقبًا نفسه، والمرأة التي أحبّته بالهجر)، ليكشف موته لاحقًا عمّا هو أعمق: “كان يعبدها”.
وعرفتُ أن ولادة أعظم الأعمال تلي هذه اللحظة التي عبّر عنها إيمانويل كانط مرةً: “لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوغمائيّ”. فمن هذه التجربة وُلد مؤلفه “نقد العقل المحض”، ولمواجهة الشكوك التي أسّسها هيوم، سيأتي كتابه الأهم: “نقد ملكة الحكم”.
وهذه التجربة دفعت الروائي الياباني ياسوناري كواباتا إلى تدوين رائعته “الجميلات النائمات”، إذ يخترع شخصية رجل يراقب نساء فاقدات للوعي. لقد رأى نسر الموت يخطف جميلات عائلته: أمه، أخته، حبيبته. فلم يعُد يرى الجمال إلّا مغمضَ العينين. وبهذا يمكن فهم كيف تنشأ تفضيلاتنا، إذ لا تخضع لمنطقٍ أو وضوح. كان التحديق في وجه امرأة حيّة يثير رعب كاتب “الجميلات النائمات”، كما ألِفت حدقة عينه رؤية الجمال ممتزجًا بالموت.
“كان لقاء فريدريك نيتشه بعمل فيودور دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” انقلابًا في رؤيته للخير والشر”
كما أظهرت أعمال كافكا لماركيز ما وصفه “باختراق حدود مشابهة الواقع”. يقول إنه، وحينما قرأ افتتاحية “المسخ”: “عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح، وجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة عملاقة”، سقط من السرير.
كما كان لقاء فريدريك نيتشه بعمل فيودور دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” انقلابًا في رؤيته للخير والشر.
ومن هنا تأتي “لحظة التجديد والتنوير”، كما وصفها إتيان سوريو في مؤلّفه “الجمالية عبر العصور”. وهي قد تسلك طريق المروع والمخيف في حالات نادرة، فالحقيقة تصعق من يلمسها ليخلق حقيقته، كالحقيقة التي أدركها موسى إذ نادى ربه يريد رؤيته:
“قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قَالَ لَنْ تَرَانِي، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا”. (*)
إنها تجربة تخصّ المرء وحده، إذ يتحقّق الجمال عبر إشراق، أو حدوس فلسفية، أو نقلة روحية، تتجاوز الإدراك الحسي إلى ما يفوقه، إلى وضعية أشبه بميتافيزيقية. وإذا كان لا بدّ من تحويلها إلى صورة، يمكن القول إنها أقرب إلى مفهوم “الجليل” بالمعنى الكانطي.
تُقابل في طريقك كلّ يوم آلاف الوجوه، ثم في وقت لا تتوقعه ولا تنتظره، يأتي وجهٌ ويغيّرك. وتقرأ على مدار حياتك الكثير من الكتب، تراكم بها المعرفة كمن يبني جدارًا؛ ثم يأتي كتاب أشبه بصعقة، أو ريحٍ تهدم ذلك الجدار، كتاب يكشفك لنفسك. يحدث لك هذه الرجة ليصبح ذلك، كالحياة – بتعبيرٍ أشد دقّة: كالحب.
ثمة كتب وُجدت لتنقذك، وأخرى لمواساتك، وثالثة لتعلّمك. لكن ثمة كتابًا واحدًا وُجد، كانبثاق خاطف، أو وميض، لن تعود بعده كما كنت. كتب أحدهم: “الفارق بين الجمال والفن أن الفنّ يتعلّق بمن يقدّمه، بينما يتعلّق الجمال بالناظر إليه”.
الصدمة الجماليّة، بتعبيرٍ أبسط، هي انقلابٌ على الذات وإدراك الواقع بطريقةٍ جديدة. وهي معادل للإيقاظ، ورسالة مضمونها: “الواقع يمكن رؤيته من زاوية أخرى”. يزعم آرثر دانتو أنه بغياب هذا البعد، لن يعدو الفنّ أن يكون أكثر من “متناظرات مادية أو مجرّد أشياء”.
يصف ماركيز في كتابه “عشتُ لأروي” الليلة التي جاء بها زميله في السكن بثلاثة كتب اشتراها للتوّ، قائلًا: “لقد أعارني أحدَ هذه الكتب لمساعدتي على النوم، ولكن حدث العكس، لم أنم بعدها مطلقًا”.
وبالعودة إلى الجزء المتمّم للعبارة التي افتُتِح بها هذا المقال، إذ ابتدأ بتساؤل ماركيز لحظة مطالعته أدب كافكا عن الحدّ الفاصل بين المسموح وغير المسموح في الكتابة، فإنه يتابع قائلًا: “ولو كنت أعرف هذا، لبدأتُ الكتابة منذ زمنٍ طويل”.
* كاتبة سورية.
(*) سورة الأعراف – الآية 143.