يعني ذلك بين ما يعنيه، أنّ علنيّة حضور المرشد وظيفة في صلب عمل النظام وليست رفاهية. حضوره العلنيّ المتكرّر جزء جوهريّ من بناء الهيبة وصناعة الشرعيّة، وتجسيد دائم لصفة شبه إلهيّة، وأمارة على الاتّصال المستمرّ بين العالم الأرضي وبين عالم الغيب والغيبة. هذا ما جعل من “ظهور” علي خامنئي المتأخّر نسبيّاً، بعد “اختفائه” التامّ عن المشهد العامّ، خلال وبعد حرب الأيّام الـ12 بين إسرائيل وإيران، خبراً يستحقّ المتابعة.
لم يظهر خامنئي علناً إلّا في 5 تمّوز الجاري، بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الحرب في 13 حزيران. شارك في مراسم عاشورائيّة أُقيمت في طهران، ضمن طقوس الحداد الشيعية السنويّة التي تمتدّ لعشرة أيّام في شهر محرّم، إحياءً لذكرى مقتل الإمام الحسين في كربلاء.
قبل هذه المناسبة، اقتصر حضوره على ثلاثة فيديوهات مُسجّلة، بثّها التلفزيون الرسمي من مواقع غير معلنة، اعتمد فيها المرشد نبرة تحدٍّ واضحة لأميركا وإسرائيل، وإن كان الوهن الجسدي في إحداها بائناً بوضوح. فصورة القوّة والسيطرة التي لطالما ميّزت شخصيّته العلنيّة تراجعت لمصلحة حضور بطيء ومتثاقل، يُظهر علامات تدهور لا تخطئها العين.
ليس جديداً نمط التواري داخل ما يُعرف بمحور “المقاومة”. الراحل أمين عامّ “الحزب” الأسبق حسن نصرالله، مثلاً، اختفى عن الأنظار بعد حرب تمّوز 2006، ولم يظهر في أكثر من مناسبتين أو ثلاث. كذلك الحال بالنسبة لعدد كبير من قادة حركة “حماس” وميليشيا الحوثي وغيرها من باقة الميليشيات التابعة لإيران.
إيران منهكة وتغلي باحتجاجات دوريّة وأجيالها الشابّة متعبة من خطاب الثورة ووعودها
الغموض والسّحر
بيد أنّ هذا التواري لطالما نتج عن إجراءات أمنيّة وقائية أو كان جزءاً من تكتيك صناعة الغموض والسحر الذي لا بدّ أن يقترن بصورة القادة العسكريين من هذا النوع. أمّا اختفاء خامنئي، فلا يكفي تبريره، على هذا النحو، حيث إنّه يتعلّق بالدولة التي يرأسها، والتي يعدّ حضور “القائد” فيها، مقياساً لصورة القوّة والمكانة الرمزيّة للنظام.
والحال، حرص خامنئي على أن يكون “ظهوره” في اليوم التاسع من عاشوراء، في طقس ديني رسمي مشحون بالعاطفة والميثولوجيا والتاريخ، لحظةً مدروسةً بعناية لم تفُتها تفاصيل التفاصيل.
أبرز تجلّيات ذلك، مشاهدة المرشد وهو يهمس في أذن “الرادود” (الشخص الذي ينشد المراثي الحسينيّة)، طالباً “لطميّة” محدّدة، عن “إيران الإلهيّة”، لينقل الطقس العاشورائي من لحظته اللاهوتية إلى طقس تعبئة يمزج القوميّ بالديني.
خامنئي
لا شيء يداري الخسارة التي وقعت على إيران إلّا بدمجها بإطار اللحظة العاشورائيّة وإعادة تدويرها ضمن سرديّة عقائدية وإحالتها إلى نوع من ملحمة كربلائيّة معاصرة. فكما خسر معسكر الإمام الحسين عسكريّاً وانتصر دمُه روحيّاً، بحسب السرديّة الشيعية، تُستدعى هذه الأمثولة للترويج لفكرة أنّ ما جرى في الحرب ليس سقوطاً عسكريّاً، بل لحظة تفوّق أخلاقي وعقائديّ، بصرف النظر عن الحسابات المجرّدة ومعطيات الواقع المعاكسة.
لكنّ اللافت هذه المرّة، أنّ محاولة الاحتماء بالأسطورة، أكّدت ما يُحاول الخطاب السياسي الإيراني إخفاءه. لم تقع الخسائر في ساحات الوكلاء، لا في لبنان، ولا في سوريا، ولا في غزّة. ضُرب قلب إيران نفسها ولحقت الخسارة بهيبة المشروع الإقليمي لطهران، وبجزء من شرعيّته في الداخل.
لئن اتّكأت الجمهورية الإسلامية في إيران دوماً على الرموز، كالرايات السود، والأشهر المقدّسة، وأسماء الشهداء، والمهامّ الإلهيّة، فإنّ الرموز سرعان ما تفقد فعّاليّتها حين يتصدّع الإيمان بالعقيدة وتكبر الهوّة بين الشعائر والاستعارات والواقع.
الظهور الأخير لخامنئي هو إشعار باستمرارية الطقوس الثورية الممانعة، لكنّ الارتباك البائن الذي تعانيه طهران، يذكّر بالمناخات التي لفّت مشهد الشاه في عامه الأخير
إيران منهكة
إيران منهكة وتغلي باحتجاجات دوريّة وأجيالها الشابّة متعبة من خطاب الثورة ووعودها، كما يُظهر العزوف الضخم عن كلّ المشاركات السياسية في كلّ انتخابات جرت منذ ما بعد عام 2009. صحيح أنّ الحديث عن نقطة تحوّل في إيران ما يزال يكتنفه الغموض، وأنّ الظهور الأخير لخامنئي هو إشعار باستمرارية الطقوس الثورية الممانعة، لكنّ الارتباك البائن الذي تعانيه طهران، يذكّر بالمناخات التي لفّت مشهد الشاه في عامه الأخير: قلّة الظهور، تضارب الرسائل السياسية، وانتقال القرار من رأس الدولة إلى الحلقة المحيطة به.
إقرأ أيضاً: معنى أن تكون شيعيّاً بعد الحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة
عليه، لن تُتذكّر حرب الأيّام الـ12 بما جرى في سياقها من وقائع عسكرية وحسب، بل بأنّها الأيّام التي حصلت فيها تعرية فاضحة لنظام سياسي فقد قداسته المصطنعة بعدما نزف طويلاً فعّاليّته السياسية والتنموية، وبات ينتظر فقط ميعاد الغروب.