ملخص
على رغم تحسن العلاقات بين بريطانيا وفرنسا عبر اتفاق “دخول واحد وخروج واحد”، لكن محدودية نطاقه واختلال المصالح بين الطرفين يجعلان من الصعب أن يحدث فرقاً فعلياً في أزمة قوارب المهاجرين داخل القنال الإنجليزي.
كانت العلاقة بين المملكة المتحدة وفرنسا من أبرز ضحايا عملية “بريكست”، وبالتالي فلا بد من أن الحكومة البريطانية تنفست الصعداء بعد النجاح الجلي لزيارة إيمانويل ماكرون الرسمية إلى المملكة واجتماع القمة الذي تلاها.
خصص الرئيس الفرنسي ثلاثة أيام كاملة من جدوله، قضاها في هذه البلاد، وهي مدة تعد طويلة بمقاييس هذا العصر، أما المؤسسات الرسمية في بريطانيا فلم تدخر جهداً في الترحيب به.
سطعت الشمس ورفرفت الأعلام وجاءت النتيجة الحتمية لكل ذلك على شكل تحسن في الأجواء الدبلوماسية من شأنه أن يسهم في جعل بعض التبعات السلبية لـ “بريكست” شيئاً من الماضي، ولئن كان الارتقاء بمستوى العلاقات الدبلوماسية يعزز احتمالات حل نقاط الاحتدام بدلاً من الاكتفاء بتلطيفها، فهذه بداية فصل جديد، ورمز هذا الفصل الذي جرى التلميح إليه قبل أيام من رئيس الوزراء لكن لم يُعلن بشكل رسمي إلا الآن، هو ما سمي باتفاق “دخول واحد وخروج واحد” والمتعلق بعمليات عبور القنال الإنجليزي.
قد يلفت بعضهم إلى وجود مشكلات أكبر بكثير من شأنها التفريق بين المملكة المتحدة وفرنسا من “القوارب الصغيرة” التي يشكل راكبوها عدداً صغيراً نسبياً من إجمال الوافدين الجدد إلى المملكة المتحدة، وقد تشمل هذه القضايا الأهم مسألة الدفاع وولاءات كل منّا، سواء العابرة للأطلسي أو الأوروبية، والتعاون في الملف النووي، وهو في الواقع موضوع اتفاق جديد أُعلن خلال زيارة ماكرون، وقد تكون أهم على المدى البعيد من أية قرارات أخرى.
ستارمر كان مدافعا عن متظاهرين يصفهم اليوم بالإرهابيين
لكن لا مجال للمقارنة بين مسألة القوارب والمسائل الأخرى على الصعيدين الشعبي والسياسي الداخلي، لا بالنسبة إلى الرأي العام البريطاني ولا بالنسبة إلى الحكومة، فبعد تعهدها بوقف تدفق القوارب وضرب عصابات المهربين بيد من حديد وتخفيف استخدام الفنادق لطالبي اللجوء، شهدت هذه الحكومة زيادة تلامس 50 في المئة في عدد القوارب الصغيرة التي وصلت إلى شواطئ البلاد، وهذا من أفدح وأوضح إخفاقاتها خلال عامها الأول في الحكم.
لا عجب إذاً في أن السير كير ستارمر بدا مستميتاً خلال الأيام التي سبقت انعقاد القمة البريطانية – الفرنسية لإبرام اتفاق، أي اتفاق، يتعلق بهذا الشأن مع فرنسا، وفي النهاية توصل الطرفان فعلاً إلى اتفاق وإن محدود، والجانب الإيجابي في الموضوع هو ما يظهر أن المملكة المتحدة وفرنسا قادرتان على التحاور في مواضيع حساسة مجدداً، وهذا يشي باحتمال التعاون في قضايا أخرى.
إنها خطوة صغيرة باتجاه الوضع الطبيعي الذي ساد العلاقات بين البلدين قبل تصويت بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لكن الاتفاق الذي توصل الطرفان إليه وأعلنه ستارمر على أنه ثوري، من دون أن يخفي سعادته به خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع ماكرون، يثير تساؤلات كثيرة حول طريقة تطبيقه عملياً واحتمال أن يشكل أي نوع من الردع في المقام الأول، فبداية لا يعدو الاتفاق كونه مشروعاً تجريبياً، فيما استخدم ستارمر مصطلح “تجريبي” على نحو غير واضح، وهو ما يجعل الالتزام به يبدو أقل من صادق، وفيما يبدو أحد الطرفين في غاية الحماسة لكي ينجح هذا التدبير، بينما الطرف الثاني، أي فرنسا، ربما أقل حماسة للموضوع، فإنه من الضروري أن تكون هشاشة شروط الاتفاق واضحة تماماً.
ثانياً، في السياق نفسه، هناك انعدام توازن ضخم في المصالح السياسية في هذا الإطار، ويقع على عاتق الحكومة البريطانية أن تثبت أنها تسيطر على موضوع القوارب، وهو ما يعني ضرورة تسجيل انخفاض في أعداد الوافدين، لكن المصالح الفرنسية مختلفة بعض الشيء، فعلى فرنسا أن تثبت، في أفضل الأحوال، أن أعداد مخيمات المهاجرين وما تولده من بؤس وعنف في تراجع، لكن في الوقت الذي تعتبر فيه هذه المخيمات مصدر امتعاض محلي، فهي ليست قضية بارزة على المستوى الوطني على غرار قضية القوارب الصغيرة في المملكة المتحدة.
وهذا يعني، ثالثاً، أن قضية القوارب مشكلة بريطانية أولاً وأخيراً، وهي مشكلة تنبع من عدد الأشخاص الذين لديهم “حلم بريطاني”، كما أنها مشكلة تتعلق بالأمن البحري البريطاني.
يروق للساسة في بريطانيا أن يلقوا باللوم على الفرنسيين ويتهمونهم بسوء ضبط النظام على الجانب الثاني من القنال، لكن قد يقال إن مغادرة المهاجرين تصب في مصلحة الفرنسيين، وعموماً، أي دولة متحضرة تمنع الأفراد من مغادرتها؟
ربما سُرّت حكومة ستارمر، كما الرأي العام، الأسبوع الماضي لمشهد قيام الشرطة الفرنسية بتمزيق قارب قابل للنفخ في مياه القنال، لكن ماذا لو أقدمت تركيا أو روسيا على تمزيق القوارب لمنع الناس من الرحيل؟ من الصعب ألا نرى مشكلة أخلاقية ومشكلة سلامة أساس هنا، لكن اتفاق “دخول واحد وخروج واحد” بالكاد يلامس هذه القضايا حتى.
ورابعاً، إن أعداد الأشخاص المعنيين بهذا المشروع التجريبي بشكل أو بآخر ضئيلة، وحتى لو أعيد العدد الأقصى من الأشخاص الذي جرى الكلام عنه، وهو 50 شخصاً، لفرنسا كل أسبوع، فهذا العدد لا يشكل سوى نقطة في بحر آلاف يصلون البلاد حالياً.
وحتى في حال تطبيق “دخول واحد وخروج واحد”، حيث تقوم بريطانيا في مقابل كل شخص ترحله إلى فرنسا باستقبال شخص منها، بزعم لم شمله مع عائلته في المملكة المتحدة، فمن الصعب أن ترى كيف سيثني هذا المخطط كثيرين عن المجيء، أو أن يضر بـ “نموذج العمل” الذي تقوم عليه القوارب.
أما خامساً فنأتي إلى موضوع لم الشمل في المملكة المتحدة، فبعض الأشخاص القادمين إلى البلاد على متن قوارب صغيرة لديهم صلة قرابة بأشخاص موجودين هنا بالفعل لكنهم غير قادرين على كفالتهم، إما لأنهم لا يملكون إقامة قانونية أو بسبب قصور في إمكاناتهم المالية أو بسبب بعد الصلة العائلية بينهم، وهذه النقطة تثير مسألة أخرى، فهل يخلق هذا الاتفاق طريقة جديدة لأفراد العائلة غير المؤهلين في حالات أخرى للقدوم إلى المملكة المتحدة، فيقوض القوانين المرعية حالياً؟
لا شك في وجود اعتبارات أخرى على المدى البعيد أيضاً، ومن الصعب أن نرى الغاية الرئيسة من اتفاق “دخول واحد وخروج واحد” على أنها أشبه بتمرين في العلاقات العامة لمحاولة إقناع الرأي العام البريطاني بأن العمل جار فعلاً في هذا الموضوع، ومع أن الكفة اليوم لمصلحة ستارمر، فقد يترتب على ما يحدث الآن كلفة سياسية، فإن لم تفض سياسة “دخول واحد وخروج واحد” إلى حدوث أي تغيير أو نتج منها تغيير في المنحى الخاطئ، فيسجل هذا الاتفاق على أنه خطأ إضافي في القرارات السياسية التي يتحمل مسؤوليتها من يشغل منصب رئيس الوزراء حالياً، والسؤال الذي سيُطرح حينها هو: كم من الأخطاء يمكنه أن يتحمل بعد؟
© The Independent