وافق الرادا الأعلى (البرلمان) الأوكراني، أمس الخميس، على تعيين يوليا سفيريدينكو البالغة من العمر 39 عاماً لقيادة الحكومة الأوكرانية الجديدة، بعد يوم من موافقة الرادا على إقالة سلفها دينيس شميهال، مطلقاً مرحلة جديدة في السياسة الأوكرانية ينصب التركيز فيها على القضايا الدفاعية وكسب ودّ الإدارة الأميركية عبر تعديلات تضمن صعود شخصيات مقربة من إدارة الرئيس دونالد ترامب. ورغم امتلاك يوليا سفيريدينكو، جميع المؤهلات لتصبح رئيسة وزراء ناجحة، فإنها تواجه مشكلات عديدة، أهمها إنعاش الاقتصاد في بلد مزقته الحرب، ونقص الكوادر الحاد، وتراجع أهمية المنصب على حساب هيمنة مكتب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بقيادة أندريه يرماك، على مركز القرار في النظام السياسي منذ بداية الحرب مع روسيا، في فبراير/ شباط 2022.
تغييرات في الحكومة الأوكرانية
وفيما شغل شميهال منصب رئيس الوزراء لأطول فترة في تاريخ أوكرانيا بعد السوفييتية، وقاد عمل الحكومة الأوكرانية لأكثر من خمس سنوات وأربعة أشهر، فإن سفيريدينكو ستكون ثاني امرأة تقود الحكومة بعد امرأة أوكرانيا الحديدية، يوليا تيميشينكو (2005 ثم بين 2007 و2010). ورغم أن التعديل الحكومي الحالي هو الأضخم منذ بداية الحرب، إلا أنه ليس الأول من نوعه. فقد تغيّر الطاقم الوزاري عدة مرات؛ إذ إن حملة التطهير صيف العام الماضي وحدها، أدّت إلى تغيير نصف الوزراء. وبحلول يوليو/ تموز الحالي، لم يبقَ من الحكومة سوى رئيس الوزراء نفسه، ونائبه للشؤون الرقمية ميخايلو فيودوروف، وأولغا ستيفانيشينا نائبة رئيس الوزراء لشؤون الاندماج الأوروبي.
الأرجح أن دور رئيس الوزراء لن يبرز حتى نهاية حكم زيلينسكي
لم تشكل إقالة شميهال ووزرائه الحدث الأبرز في الحياة السياسية للبلاد رغم أنه وفقاً للدستور، فإن أوكرانيا جمهورية برلمانية رئاسية، بما يعني أن الحكومة هي مركز السلطة الرئيسي في البلاد، وأن رئيس الوزراء هو الشخص الأقوى في السياسة الداخلية والاقتصاد. والأرجح أن دور رئيس الوزراء لن يبرز حتى نهاية حكم زيلينسكي (انتُخب في 2019، لكن ولايته انتهت في مايو/ أيار الماضي، فيما أقر البرلمان أخيراً بقاءه رئيساً للبلاد طالما استمرت الحرب مع روسيا) الذي تعلم من الدروس السابقة للرؤساء السابقين وتجربته الشخصية. ويوصف شميهال على أنه تكنوقراط، وموال للرئيس، وليس لديه أي طموح سياسي ما ضمن بقاءه الطويل في المنصب، وعدم بروز صراعات كما حصل بين الرئيس ليونيد كرافتشوك ورئيس الوزراء ليونيد كوتشما (1991- 1994)، أو بين الرئيس فيكتور يوشينكو ورئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو (2005-2010).
وبعد تجربة قصيرة سلّم فيها رئاسة الوزراء لمجموعة الإصلاحيين بقيادة أليكسي غونتشاروك (تسلم الحكومة الأوكرانية بين أغسطس/ آب 2019 ومارس/ آذار 2020)، قرر زيلينسكي الرهان على حكومة من المنفذين المحترفين للإصلاحات السريعة التي تضمنها برنامجه الانتخابي. وسهل وجود أغلبية حزبية في البرلمان (لحزب خادم الشعب) هذه المهمة، حيث لم تكن ثمة حاجة للتفاوض مع شركاء ائتلافيين بشأن تشكيل الحكومة التي بات عليها فقط تنفيذ قرارات مكتب الرئيس. وتحولت إلى ملحق للمكتب ينظر إلى إنجازاتها على أنها نجاحات الرئيس، فيما تتحمّل مسؤولية الإخفاقات.
وحسب المادة العاشرة من قانون الأحكام العرفية الساري في أوكرانيا منذ بداية الحرب، يحظر إنهاء صلاحيات الحكومة في شكل صريح، أو تنظيم انتخابات برلمانية، ما أدى إلى جمود سياسي. ومنذ بدء التسريبات حول التعديلات الحكومية، اقترح الرئيس السابق بوروشينكو، تشكيل حكومة وحدة وطنية ائتلافية متعددة الأحزاب. ولم يلق هذا الاقتراح قبولاً لدى فريق زيلينسكي الذي اختار طريق إعادة تدوير النظام القائم، مع محاكاة شكلية للتجديد. وتعد التغييرات الحالية نموذجاً لمناورة سياسية تسمح بالالتفاف على الحظر القانوني المفروض على استقالة الحكومة الأوكرانية في ظل الأحكام العرفية، إذ أصبحت نائبة رئيس الوزراء الأولى، يوليا سفيريدينكو، رئيسة للوزراء. يُذكر أن من بين التغييرات رشح زيلينسكي، شميهال ليكون وزيراً للدفاع خلفاً لرستم عميروف. كما أعلن، على وسائل التواصل الاجتماعي أمس، أنه اختار أولغا ستيفانيشينا، التي تركت لتوها منصبها كوزيرة للعدل، لتكون سفيرة كييف المقبلة لدى الولايات المتحدة، خلفاً لوكسانا ماركاروفا، التي واجهت اتهامات من كبار الجمهوريين الأميركيين بأنها منحازة إلى الحزب الديمقراطي. ويعد ترشيح ستيفانيشينا بمثابة تحول مفاجئ، إذ كان زيلينسكي قد أشار في وقت سابق إلى أن وزير الدفاع المنتهية ولايته رستم عميروف، الذي شارك في المفاوضات مع روسيا، قد يكون السفير الأميركي المقبل.
نفوذ المكتب الرئاسي
ربما يُفسَّر هذا التغيير برغبة رئيس ديوان الرئاسة أندريه يرماك، في تعزيز نفوذه أكثر. فرغم ولاء شميهال، إلا أنه لم يكن تابعاً ليرماك، ولذلك كان لا بد من استبداله. وكانت محاولات استبعاده تُواجَه سابقاً بمعارضة دافيد أراخميا، رئيس كتلة “خادم الشعب” في البرلمان، ما هدد بظهور مركز قوة بديل. شعر يرماك بأنه بحاجة إلى تعزيز سيطرته على السياسة الداخلية، خصوصاً في ظل صعوبات العلاقات مع واشنطن، وهكذا حُسم مصير شميهال. وتعد يوليا سفيريدينكو الخيار المفضّل لدى يرماك، وهي نائبة رئيس الوزراء، ووزيرة الاقتصاد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وعملت قبلها نحو عام في منصب نائب رئيس ديوان الرئاسة. قطعت سفيريدينكو مسيرة طويلة، بدأت من موظفة محلية في مقاطعة تشيرنيهيف شمال شرقي أوكرانيا، حيث أصبح الإقليم في عهدها رائداً في جذب الاستثمارات الأجنبية، وتعلمت اللغة الصينية خصوصاً لجذب المستثمرين الصينيين.
وأعلنت سفيريدينكو، أمس، أن حكومتها ستبدأ تدقيقاً كاملاً للمالية العامة لتحقيق “توفير حقيقي”، مشددة على ضرورة تسريع عمليات الخصخصة على نطاق واسع. وأضافت على منصة إكس، أن أولوياتها في هذا المنصب ستكون ضمان إمدادات للجيش وتوسيع إنتاج الأسلحة المحلية. وتملك سفيريدينكو كل المؤهلات لتكون رئيسة وزراء ناجحة، بقدر ما تسمح به ظروف بلد مزّقته الحرب. لكن منذ البداية، يخيّم على ولايتها شبح الجمود السياسي ونقص الكفاءات. وربما تكمن المشكلة الأساسية في أن رئيس الوزراء لم يعد له وزن فعلي في النظام السياسي الأوكراني الحالي، وبات واضحاً أن الإدارة الرئاسية هي الطرف المهيمن على القرارات السياسية والخطط الاقتصادية. وفي هذا الإطار من المستبعد أن تسلك سفيريدينكو مساراً خاصاً بها يتناسب مع الصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء، أو حتى أن تكون أكثر ولاء للرئيس من سلفها شيميهال.
أشاد زيلينسكي بخبرة سفيريدينكو الكبيرة في دعم الإنتاج الأوكراني
في حديثه أمام البرلمان قبل التصويت، شكر زيلينسكي شميهال على خدماته، مشيراً إلى أن هناك حاجة إلى نهج جديد للعلاقات الدبلوماسية مع واشنطن في ضوء الاتفاقيات الثنائية المقبلة. وذكر زيلينسكي أن على الحكومة الأوكرانية مراجعة جميع الاتفاقيات مع الداعمين العسكريين لأوكرانيا. وفي مطلع الأسبوع، أشاد زيلينسكي بخبرة سفيريدينكو الكبيرة في دعم الإنتاج الأوكراني. لعبت سفيريدينكو دوراً محورياً في التوسط في صفقة المعادن التاريخية مع الولايات المتحدة (إبريل/ نيسان الماضي تتعلق بإدارة الموارد الطبيعية الأوكرانية). وفي هذا الإطار تعكس التعيينات الجديدة حاجة أوكرانيا المُلِحّة لزيادة الإنفاق على مجهودها الحربي، وتعزيز علاقاتها مع إدارة الرئيس الأميركي. وأقر الرادا الأربعاء، مشروع قانون يُعدّل ميزانية عام 2025 لزيادة الإنفاق الدفاعي بمقدار 412 مليار هريفنيا (10 مليارات دولار) هذا العام. وتواجه البلاد عجزاً قدره 40 مليار دولار لتغطية احتياجاتها المالية الخارجية، بما في ذلك رواتب العام المقبل. وعلى سفيريدينكو استغلال علاقاتها من عملها السابق مع الولايات المتحدة، لقيادة حملة أوكرانيا للحصول على المزيد من الدعم الاقتصادي.
ويجب على شميهال في منصبه الجديد كوزير للدفاع تنظيم صناعة الأسلحة الأوكرانية لضمان الصمود في وجه الجيش الروسي، والتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين لتوطين الصناعات الدفاعية في أوكرانيا، أو نقل الخبرات الأوكرانية لصنع الأسلحة في أوروبا. ويعكس توسيع نطاق اختصاص وزارة الدفاع الأوكرانية الأهمية المتزايدة لإنتاج الأسلحة المحلي، الذي يغطي حاليا 40% من احتياجاتها الميدانية. وبينما تبلغ ميزانية المشتريات الدفاعية حوالي 12 مليار دولار، فإن قطاع الصناعات الدفاعية في البلاد قادر على إنتاج معدات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. إلا أن هذا القطاع يفتقر إلى التمويل الكافي.
وقال زيلينسكي في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، أول من أمس الأربعاء، إن إنتاج الأسلحة المحلي في أوكرانيا يجب أن يزيد بنسبة 50% في الأشهر الستة الأولى من الحكومة الأوكرانية الجديدة. وواجه وزير الدفاع السابق رستم عميروف انتقادات واسعة في أوكرانيا لعدم قيادة الوزارة بكفاءة في الشهور الأخيرة، لقيادته، رغم أن السبب الأساسي هو تكليفه بقيادة وفد بلاده التفاوض مع روسيا في مفاوضات إسطنبول (جولتين في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران الماضيين). وفي أواخر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، حققت الوكالة الوطنية لمكافحة الفساد مع عميروف بتهمة سوء استخدام السلطة بعد تجاوز قرار مجلس إدارة في ملف المشتريات. وجاء التحقيق بعد نحو أسبوع من موافقة مجلس الإشراف على وكالة المشتريات الدفاعية بالإجماع على تمديد تعيين المديرة الحالية مارينا بيزروكوفا لعام إضافي. وحينها خالف عميروف قرار المجلس، وأعلن أنه لن يجدد عقد بيزروكوفا في رئاسة الوكالة. وعزا عميروف قراره إلى نتائج غير مرضية، وعيّن بدلاً منها أرسين جوماديلوف، الذي يدير أيضاً شركة “مشغل اللوجستيات الحكومية”، وهي الشركة المكلفة بشراء الإمدادات للجيش الأوكراني، إلى جانب مهام أخرى.