من الحوار تحت السلاح إلى الاتهام بالانفصال: قراءة في خطاب السلطة تجاه “قسد”
تصريحات أحد المسؤولين الحكوميين السوريين حول التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي جرى تداولها إعلاميًا مؤخرًا، تكشف عن أزمة ثقة متجذّرة بين الطرفين، لكنها في الوقت ذاته تُظهر نوعًا من التناقض والتشويش في خطاب السلطة الانتقالية، خصوصًا في تعاطيها مع ملف يعتبر من أكثر الملفات حساسية لمستقبل سوريا السياسي والعسكري.
اللافت في أولى نقاط التصريحات هو الادعاء بأن “الحوار الوطني الحقيقي لا يكون تحت ضغط السلاح”. وكأنما قسد، وفق هذا التصور، قد هدّدت الحكومة الجديدة بالقوة المسلحة أو حاولت فرض رؤيتها عبر فوهة البندقية. هذا الادعاء، في الحقيقة، يبدو ساذجًا ومفبركًا، إذ أن قسد، وقائدها الجنرال مظلوم عبدي، لم يستخدموا السلاح يومًا وسيلة تهديد في علاقتهم بالسلطة الحالية، بل لطالما كانت دعواتهم المتكررة تصبّ في خانة التفاوض والحوار الشامل، دون شروط مسبقة، من أجل الوصول إلى صيغة توافقية تضمن مستقبل البلاد ووحدة ترابها.
أما السلطة الانتقالية نفسها، فهي من طالما تعاملت مع الحوار على أنه مجرّد واجهة إعلامية، تُستثمر في المؤتمرات والدعاية، لا أداة حقيقية لحلّ النزاعات. فالحوارات كانت سطحية ومحدودة، ولم يُطرح فيها جوهريًا شكل الدولة الجديدة: هل هي دولة مركزية كما في العقود الماضية، أم لامركزية إدارية تتناسب مع تنوع المجتمع السوري؟
وفيما يتعلق بادعاء أن مطالب “قسد” تتناقض مع أسس بناء جيش وطني موحد، فإن هذه الحجة تفتقر للمنطق والواقعية. فقسد لا ترفض فكرة الانضمام إلى جيش سوري، بل تريد أن تنضم إلى جيش حقيقي ووطني، لا إلى تحالف من الفصائل التي تضم بين صفوفها مجموعات غير سورية، وأخرى متطرفة أيديولوجيًا، متورطة في جرائم حرب ضد العلويين والدروز في الساحل والسويداء، فضلًا عن تطهير عرقي ضد الكرد في عفرين وسري كانيه (رأس العين).
ما تطلبه قسد هو ضمان لهيكلها العسكري، الذي يتصف بالتنظيم والانضباط، ويشبه في تشكيله الجيوش النظامية. إذ لا يمكن وضع قسد — ككيان عسكري متكامل — في كفّة واحدة مع فصائل عشوائية أو عقائدية. والأهم أن مطالبها لا تنفصل عن رؤيتها السياسية: اللامركزية لا تعني التقسيم أو الانفصال، بل خصوصية إدارية وتنظيمية ضمن جيش وطني يحترم التنوع.
أما عن النقطة الخاصة باتفاق “الشرع – عبدي”، فالسلطة تُحمّل قسد مسؤولية التعطيل، في حين أن الواقع يقول إن عدم تعاون السلطة في تنفيذ الاتفاق — ولا سيما بند عودة المهجّرين قسرًا إلى ديارهم — هو ما أدى إلى تجميده. من غير المنطقي أن تُنفّذ بعض البنود وتُهمَل أخرى، خاصةً أن الاتفاق يتضمن توازنًا دقيقًا بين القضايا الأمنية والحقوقية.
وفيما يتعلق بالهوية، فإن وصف قسد بأنها ذات “هوية مستقلة تتنافى مع المواطنة” يُعد تعبيرًا آخر عن الأزمة المفاهيمية لدى بعض أطراف السلطة. فقسد، بخلاف فصائل أخرى ذات خلفيات إسلامية أو مذهبية، هي قوة وطنية بكل معنى الكلمة، تضم كُردًا وعربًا وسريانًا وإيزيديين، وتفتح باب الانضمام لأي سوري، دون تمييز.
أما الحديث عن “مظاهر التسلح” وضرورة إنهائها، فالحقيقة أن قسد تحتفظ بسلاحها دفاعًا عن مناطق التعايش في شمال شرقي سوريا، في ظل تهديدات متواصلة من تنظيمات متطرفة، وبعض الفصائل المدعومة إقليميًا، والتي لم تتوقف عن استهداف المدنيين أو تهديد الأمن المحلي.
وأخيرًا، فإن الادعاء بأن السلطة تؤمن بـ”حوار وطني جاد”، يتعارض تمامًا مع ما شهدناه في ما سُمّي بـ”مؤتمر الحوار الوطني”، الذي لم يكن سوى مسرحية سياسية رُوّج لها إعلاميًا دون أن تعكس أي إرادة حقيقية لضمّ الأطراف الوطنية الفاعلة، وعلى رأسها قسد، إلى طاولة حوار متكافئ وجاد.
الخلاصة: إذا كانت السلطة جادة فعلًا في بناء سوريا جديدة، فلتبدأ بإعادة تعريف مفهوم “الوطنية”، بعيدًا عن الإقصاء والتهديد والاتهامات الجاهزة. فالحوار لا يكون باتهام الآخر بالانفصال، ولا بالتشكيك في نواياه، بل بالاعتراف به شريكًا كاملًا في تقرير المصير وصناعة المستقبل.
آلان بيري