تُعدّ المدونات الفقهية والكهنوتية التي أنتجها الفكر الجهادي عبر مساره التاريخي الحديث إسهاماً فكرياً هائلاً ضمن الأصوليات الدينية المعاصرة. وعلى الرغم من هذه الضخامة الفكرية والأيديولوجية، يسعى هذا المقال إلى طرح تساؤل محوري حول عدم كفاءة قيادات الجهاد في السياق السوري الراهن، الذين باتوا اليوم في مواقع التسلط، في تقديم إجابات شافية “لسؤال المؤسسة” أو “سؤال الدولة” بمفهومها الحداثي. ولعلّ من الدقة بمكان التأكيد أن هذا الفشل في مقاربة تحديات بناء الدولة الحديثة يُمثل جرحاً عميقاً في الفكر الأصولي لم يُفلح في معالجته ضمن شروطه التاريخية المتغيرة. وتُقدم الحالة السورية الراهنة، بما تشهده من واقع تحت حكم القوى الجهادية، مثالاً بليغاً على هذا الإخفاق التاريخي في مسيرة الأصوليات الإسلامية تجاه تحدي الدولة.
وربما من أهم الأسباب البنيوية لهذا الفشل هو التناقضات الدلالية العميقة التي تحيل إليها دالتا “الجهاد” و”الدولة”. ففي حين يستمد مفهوم الجهاد في أدبيات هذه الجماعات شرعيته من نصوص وتأويلات كلاسيكية تهدف إلى إقامة حكم الإله أو الدفاع عن أمة مثالية وفق رؤية مخيالية غالباً ما تنوس شرعيتها من خارج التاريخ، فإن “الدولة” بمفهومها المعاصر تتطلب منظومة من القوانين الوضعية، والاعتراف بالحدود الجغرافية، والتعامل مع مؤسسات مدنية، وقبول بالتعددية، فضلاً عن احتكار شرعية العنف ضمن إطار قانوني محدد. هذا التباين الجوهري بين المرجعية التراثية المقدسة للجهاد والأسس العقلانية والوضعية للدولة الحداثية، يخلق إشكالية جوهرية تحول دون قدرة الحركات الجهادية على الانتقال من فضاء “الجهاد المقدس” كآلية صراع وقهر، إلى فضاء “الدولة” ككيان ناظم للحياة المدنية والسياسية.
وربما نذكر أنه حينما بدأ أحمد الشرع في أحاديثه عن الدولة والمؤسسات أثناء مسيره إلى دمشق بدا للكثير من السوريين كما لو أنه قضى جزءاً من وقته وهو يقرأ في الأدبيات الماركسية وأننا أمام تحول لافت في أدبيات الفكر الجهادي، وتحديداً حينما دعا بوضوح إلى تجاوز “عقلية الثورة” نحو “عقلية الدولة”. وبصرف النظر، عما إذا حدث عند الرجل تخل عن عقلية الجهاد، فإن الآكد أن مثل هذا النمط من القادة الجهاديين لم يسمعوا من الدولة إلا اسمها، وربما في أحسن الأحوال أنهم لم يفهموا من الدولة إلا القبض على السلطة وقهر الآخرين.
وهنا من المهم إدراك أن سؤال العنف والقهر، قهر الخصم في الاستحواذ على الدولة، لهو سؤالٌ رغم قدمه التراثي إلا أنه ما زال يكتسي حضوراً قوياً في العالم الجهادي السوري اليوم. وهذه بالفعل إحدى التركات التي خلفها لنا التراث الإسلامي في مفهومة الدولة التي لم يفهم منها إلا حكم العوائل والقبائل: “دولة بني أمية”، “دولة بني العباس”، “دولة بني عثمان”، “دولة بني زيد” الخ. وإذا كانت مثل هذه المفاهيم تنتمي إلى سياقات تاريخية محددة، وبالتالي من غير الممكن تاريخياً المصادرة عليها، فإنه أيضاً من الخلف التاريخي وراثتها وتوريثها كما فعلت “دولة الأسد”، وما تحاول اليوم “دولة الشرع” وراثته من هذا الفهم المبتسر للسلطة.
إن هذا الفهم الضيق للدولة، الذي يختزلها إلى التسلط ويحولها إلى أداة للقهر وفرض الإرادة على الآخر، يعكس استمرارية “التناقضات الدلالية” الكامنة في قلب الخطاب الجهادي تجاه مفهوم الدولة الحديثة. فبينما تتطلع الدولة المعاصرة إلى احتكار العنف ضمن إطار قانوني لحماية الحقوق وتسيير شؤون المجتمع بأسره عبر مؤسسات تشاركية، فإن المقاربة الجهادية للدولة تظل أسيرة لمنطق عنف المقدس والمدنس والتغلب والانتصار للآلهة وأمم مخيالية. هنا تتحول إدارة الحكم إلى استمرار للصراع، ويسود منطق “أهل الشوكة” أو قل منطق “الغالب والمغلوب” (في سياق الشرع: “من يحرر يقرر”) في التعامل مع المكونات المجتمعية المختلفة ومحاولة قهرها، كما تجلى مؤخراً في محاولات السلطة الجهادية مع الطائفة العلوية، ثم الدرزية (وما يحاولونه مع قسد) وإجبارهم على القدوم إلى بيت الطاعة، “دولة الشرع”. هذا المسلك العنفي لا يرى في الدولة كياناً محايداً أو جامعاً يعكس إرادة المجتمع وتنوعاته، بل أداة لتطبيق رؤية تسلطية أحادية بالقوة، مما يقوض أي محاولة حقيقية لبناء استقرار دائم أو عدالة شاملة تستند إلى المواطنة المتساوية.
فالخطاب الجهادي، المتجذر في مفاهيم “الولاء والبراء” و”الحاكمية” الإلهية التي غالباً ما ترفض التشريعات الوضعية والتعددية السياسية، يجد صعوبة بالغة في التوفيق بين أسسه الكهنوتية وأسس الدولة المدنية الحديثة. لذا، فإن الدعوة التي تتكرر اليوم على ألسنة أهل التسلط في دمشق من مجاهديها إلى “الدولة” قد تبدو في ظاهرها كما لو أننا نعيش في “دولة”، إلا أنها في جوهرها محاولة لقولبة الواقع ضمن إطار خطاب تسلطي جديد يخدم أهداف السيطرة وتثبيت النفوذ، دون أن يعني ذلك بالضرورة استيعاباً كاملاً أو التزاماً حقيقياً بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة.
من هنا، يمكن القول إن الأصولي عموماً، ومجاهدي دمشق خصوصاً، يعيشون حالة من التمزق الوجودي؛ فهم كائنات ممزقة بين لاشرعية الدولة الحديثة التي يعايشونها – وهو ما عبرنا عنه بـ “جرح الدولة” – وبين شرعية يبتغونها من مرجعية تتجاوز الواقع التاريخي الراهن، مستمدة من قمقم الأسطورة أو الماضي المثالي. وهذا ما يفسر لماذا قامت معظم الحركات الأصولية كمشاريع لا تهدف إلى بناء الدولة، بل إلى الإجهاز على الدولة: كمفهوم سياسي أولاً، وككيان موضوعي ثانياً.
بالتالي، فإن مشروعية جهادي دمشق لا تنبع من داخل إطار شرعية الدولة، ولا تُقام من أجلها، بل من خارجها. فأدلجتهم ما زالت أدلجة “على” الدولة، لا من أجل الدولة. لكن طالما ثبت مخيالية القمقم الأسطوري واستدعاء خيوطه إلى واقعنا التاريخي (والأصوليون قبل غيرهم يعلمون ذلك) فلا بأس بأن يتجلى هذا التناقض بوجه آخر، ألا وهو مسعى هؤلاء إلى طلب الشرعية من الفاعلين الخارجيين، وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية (العدو اللدود لهم ما قبل مرحلة التسلط)، وذلك في استمرار التناقض في تغييب البحث عن الشرعية الحقيقية من الإرادة الشعبية السورية، مما يبرز عمق الأزمة التي في محاولات بناء الدولة.
وختاماً، طالما أن حوامل الدولة الحقيقية غائبة، وطالما أن حواملها اليوم في سوريا هم ثلة من مجاهدين قادمين من “اللامكان” يرتكز فهمهم للسلطة على منطق أهل الشوكة والقهر التسلطي، فإن مشروع “الدولة” سيبقى مؤجلاً.