–
يتعيّن قراءة ما جرى في منطقة السويداء بسورية، وقبل ذلك ما جرى في الساحل السوري من مواجهات عسكرية دموية وتصفيات جسدية اتخذت الطابع الطائفي في إطار أوسع، والنظر إلى الأمر من زاوية المخطّط الشرير الذي يجاهر به أصحابه، وهو “صناعة” شرق أوسط جديد، تكون إسرائيل، بدعم أميركي، اللاعب الأكبر والأقوى فيه. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تفكيك (وتفتيت) الكيانات القائمة على شكل دول عربية، لا تكاد واحدةٌ منها تخلو من فسيفساء عِرقية ودينية ومذهبية، ما يسهّل افتعال النزاعات بين الهويات الفرعية، الغالبة والمغلوبة، وسيلة لتحقيق هذا التفكيك. وأخيراً، وفي إطار التباهي، عقد رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو مقارنةً بما كان عليه الموقف العربي لحظة تأسيس الكيان الإسرائيلي، وما هو عليه اليوم. ففيما اتحدت الدول العربية يومها ضد هذا الكيان المصطنع، نراها اليوم متفرّقة، منقسمة، وباتت أراضيها مستباحة من هذا الكيان، يجتاحها أو يقصفها ساعة يشاء، كما يفعل حالياً في سورية ولبنان وغيرهما.
لم يبدأ تأجيج الهويات الفرعية ودفعها إلى الاقتتال اليوم. بدأ ذلك قبل عقود، ولعلّ الحرب الأهلية اللبنانية أبرز الشواهد، ومنذ يومها ومفكرون ونشطاء عرب يحذّرون من خطر”اللبننة” الذي ستواجهه دول عربية أخرى، ولم تكن تلك نبوءة، بقدر ما كانت توقّعاً منطقياً بُني على أساس قراءات لواقع الحال العربية، وللمخطّطات المعدّة لدفع العرب نحو هذه المآلات، بما فيها الغزو العسكري، على النحو الذي فعلته الولايات المتحدة عندما غزت العراق واحتلّت أراضيه، وأرست قواعد المحاصصة الطائفية والعرقية فيه، بعد أن حلّت الجيش الوطني وفكّكت مؤسّسات الدولة.
يسّرت تداعيات ما شهده العالم العربي من أحداث عاصفة في عام 2011، المضي في مخطّط التفكيك. صحيحٌ أنّه لا يمكن التعميم هنا، فلكلّ بلد من البلدان التي طاولتها موجة ما عرف بـ”الربيع العربي” خصوصيّته في مقدّمات ما جرى ومساراته، لكن الأمر انتهى في بلدين على الاقل، ليبيا واليمن، إلى تفكّكهما وقيام حكومتين في كل واحد منهما، على أسسٍ مناطقيةٍ وجهويةٍ وما إليها. ولا ينفصل الوضع السوداني عن السياق نفسه، بدءاً من تقسيمه إلى دولتين، جنوبية وشمالية، وتطوّر الأمر إلى الانقسام الحاصل اليوم داخل المؤسّسة العسكرية وأذرعها التي وأدت المسار الديمقراطي في بداياته، لينتهي الأمر، هناك أيضاً، إلى وجود سلطتين متحاربتين، والضحية هي المدنيون الأبرياء، فضلاً عن دفع البلاد إلى مزيد من الإفقار والمعاناة، وتدمير ما فيها من بنى تحتية على ضعفها.
يمكن اعتبار ما جرى في سورية بسقوط النظام السوري السابق، ومجيء السلطة الجديدة النسخة المؤجّلة من 2011، وكان متعيّناً أن يتمّ هذا السيناريو، أو ما يشبهه، يومذاك، على غرار ما جرى في تونس بسقوط زين العابدين بن علي، وفي مصر بسقوط حسني مبارك، وفي ليبيا بسقوط معمّر القذافي، وفي اليمن بسقوط علي عبد الله صالح، ولكن اعتباراتٍ جيوسياسية دولية وإقليمية حالت دون سقوط نظام الأسد، في مقدّمتها دعما روسيا وإيران له، لاعتبارات تخصّ مصالح البلدين بدرجة أساسية. استطاع النظام البقاء كلّ هذه السنوات، ولكن سورية تفكّكت بالفعل، فكثير من أراضيها لم تكن تحت سلطة الدولة، واحتضنت إدلب القوى المعارضة المسلحة بغطاء ودعم تركيين، وغضّ طرف دولي، ومع مكابرة الأسد في رفض أي حلّ سياسي ينهي الأزمة، أزفت اللحظة التي أصبح سقوطه فيها حتميّاً، خصوصاً مع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا وتغيّر أولوياتها، وما نتج من زلزال 7 أكتوبر (2023) من تبعاتٍ حاسمة، قلبت المعادلة في المنطقة.
تسلمت السلطة الجديدة الحكم في دمشق والبلد مفكك، من دون أن تملك هذه السلطة البوصلة الصحيحة لمواجهة التحدّيات الكبيرة أمامها، خصوصاً أنّ قوامها مجموعات مسلحة بتكوين “جهادي” متطرّف، مشبع بروح الثأر، لا يؤهلها للتعامل مع نسيج وطني متعدّد ومتنوع، بطريقة تفرّق فيها بين من تصفهم “فلول” النظام السابق، والمكوّنات المجتمعية، لنصل إلى مرحلة “تفتيت المفتّت”. تجلى هذا في طريقة تعاملها مع ما جرى في الساحل السوري وما جرى، أخيراً، في السويداء، وليس أبلغ مما كتبه الناشط وائل النبواني في وصف هول ما جرى: “أكثر الڤيديوهات انتشاراً المشاهد المروّعة للجثث في المستشفى الوطني.. الدروز ينشرونها على أنّها مجازر السنة، والسنة ينشرونها على أنّها مجازر الدروز.. والحقيقة أنّها جثث ثلاثة أيام من الاقتتال اختلطت فيها جثث الجميع”.