نجحت مجموعة من الشخصيات العامة السورية في تحريك مياه السياسة الداخلية الراكدة، وإنعاش الحوارات والتفاعلات بشأن القضايا الوطنية، وذلك بعد أشهر من صدور قرار حلّ الأحزاب والهيئات السياسية، كأحد مخرجات مؤتمر “النصر”، وما نجم عنه من توقّف شبه كامل في الحياة السياسية، ودخولها في حالة سبات طويل.
وتزامناً مع اندلاع الحوادث الدامية في السويداء، شهدت الساحة السورية طرح مبادرتين منفصلتين: الأولى باسم “مبادرة الإنقاذ الوطني” في 16 من الشهر الجاري، والثانية باسم “مبادرة المئوية” في 21 منه.
وساهمت الأجواء التي فرضتها حوادث السويداء في زيادة التفاعل الشعبي مع المبادرتين، ولا سيما منهما الثانية، نتيجة الشعور العام بخطورة المرحلة التي تمرّ بها البلاد، واحتمال انزلاقها نحو خيارات غير مرغوبة، خصوصاً خطر التقسيم، الذي بدا أقرب من أي وقت مضى.
وقد يكون تقارب توقيت إطلاق المبادرتين قد ساهم في حدوث التباس لدى البعض بينهما، إلا أن انتشار هذا الخلط على نطاق واسع بدا كأنه مفتعل من جهات منظّمة.
وفي هذا السياق، لم يستبعد حازم داكل، المنسق الإعلامي للمبادرة المئوية، في حديث إلى “النهار”، أن “يكون هناك من حاول استغلال هذا التزامن لبث الشكوك أو تصفية حسابات سياسية أو لإضعاف أي حراك وطني مستقل وجامع”، لكنه يشدد في المقابل على أن “وجود مبادرات سورية أخرى لا يُعدّ أمراً سلبياً”.
وقد عزز من الشكوك أن البعض استحضر تجربة “جبهة الإنقاذ المصرية” التي أطاحت الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، لإسقاطها على هذا الخلط بين المبادرتين، وهو ما نقل النقاش من مجرد تفاعل وجدال إلى حالة من الاصطفاف والاستقطاب، انتهت بانسحاب عدد من الموقّعين على المبادرة وسط حملات إعلامية استهدفتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى، بشكل غير مباشر، إلى منح المبادرة زخماً وقوة إضافيتين.
ومع ذلك، فإن حوادث السويداء لم تكن الدافع وراء إطلاق “المبادرة المئوية”، بل كان العمل عليها قد بدأ قبل أسابيع من اندلاعها، إذ كانت غاية القائمين عليها إطلاقها تزامناً مع الذكرى المئوية للثورة السورية الكبرى، التي صادف أنها وقعت في خضم التصعيد العسكري في السويداء، وهو أمر لم يكن في حسابات المنظّمين، بحسب ما يؤكد داكل، مشيراً إلى أن اختيار التوقيت كان فعلاً رمزياً يهدف إلى “تذكيرنا بجذور نضالنا الوطني الطويل، وبأن خلاص سوريا لن يأتي من بوابات الطائفية أو الهيمنة، بل من مشروع وطني جديد يعيد الاعتبار للحرية والكرامة”.
واكتسبت المبادرة زخمها الأولي من توقيع نحو 200 شخصية سورية بارزة عليها، معظمهم من رجال الأعمال والمثقفين والناشطين السياسيين والفنانين المعروفين، من بينهم: رجل الأعمال أيمن الأصفري، وأحمد برقاوي، وجمال سليمان، وفارس الحلو، وإياد شربجي، وبسام بربندي، وجورج صبرا، وفايز سارة، وميشيل شماس، ورياض سيف. وقد تجاوز عدد الموقّعين لاحقاً ألفي شخص بعد فتح باب التوقيع على المبادرة.
ولعلّ أبرز مطالب المبادرة، والذي يحدّد توجهها الإصلاحي البحت بعيداً من أي أجندة انقلابية، هو الدعوة إلى عقد “مؤتمر وطني سوري عام وشامل” خلال ثلاثة أشهر كحد أقصى، على أن يُراعى فيه التمثيل العادل.
وتنصّ المبادرة على أن تكون من مهمات المؤتمر: تشكيل مجلس عسكري–أمني من خمسين عضواً، مهمّته إعادة بناء الجيش والجهاز الأمني على أسس وطنية، تلتزم العقيدة الوطنية فقط، تحت إشراف قيادة الجيش الحالية. وإجراء تعديلات عاجلة على الإعلان الدستوري. وتشكيل لجنة جديدة للسلم الأهلي. إضافة إلى تأليف لجنة دائمة لإدارة الأزمات.
وفي هذا السياق، يقول داكل: “مبادرتنا وثيقة وطنية سلمية، لا تدعو إلى انقلاب ولا إلى تمرّد ولا إلى استبدال شرعية بأخرى، بل تدعو إلى مراجعة وطنية مسؤولة، ودفع المسار السياسي نحو إصلاحات عاجلة”.
غير أن التطورات في السويداء دفعت القائمين على المبادرة إلى إدخال بنود إضافية تتعلق بضرورة وقف النار، ومحاسبة جميع المتورطين في الانتهاكات، من خلال لجنة تحقيق مستقلة.
ويتابع: “التزامن مع حوادث السويداء خلق التباسات وشحناً عاطفياً أدى إلى سوء فهم المبادرة من البعض الذي قرأها كأنها انحياز لطرف ضد آخر، رغم أنها دعوة صريحة الى محاسبة جميع من ارتكبوا جرائم، بلا استثناء”.
وكان من أبرز المنسحبين من المبادرة على خلفية الحملات الإعلامية التي طاولتها، فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الذي برّر انسحابه بضرورة الحفاظ على حياده في ضوء طبيعته الحقوقية، من دون أن يشير إلى تراجع عن موقفه المبدئي من المبادرة.
يقرّ داكل بحدوث بعض الانسحابات، لكنه يوضح أن عددهم لا يتجاوز 20 شخصاً، أي ما نسبته 1% فقط من الموقعين.
ويضيف أن “الانسحابات لم تكن نتيجة ضغوط من السلطة، بل بسبب مناخ عام يسوده الخوف والارتباك”، مشيراً إلى أن “البعض خاف التأويلات أو ردود فعل الشارع، أو الزج باسمه في صراع لا يرغب في خوضه”. ويبدى داكل تفهّمه لهذه المخاوف قائلاً: “ما حصل في السويداء، والانقسام في الرأي العام، جعلا حتى الراغبين في الحوار يشعرون بالتهديد، وهذا أمر مؤسف، ويؤكد حاجتنا إلى مبادرات تخفف من حدة الاستقطاب، لا أن تضاعفه”.
وفي ختام حديثه، يشدد على أن “المبادرة ليست نصاً مقدساً، بل وثيقة مفتوحة قابلة للتطوير والنقد والتعديل. ونحن نرحّب بكل رأي مخلص، ونأمل أن يكون الحوار حولها بداية حقيقية لنقاش وطني واسع، لا بوابة لشيطنة جديدة”.