–
سبق أن استخدمت العنوان أعلاه في مقال سابق نشره “العربي الجديد” (19/3/2025). منذ ذلك الحين، جرت مياه كثيرة في النهر، وحصلت تطوّرات كبرى بعضها إيجابي والآخر سلبي. إيجابياً، رفعت الولايات المتحدة عن سورية جزءاً مهمّاً من العقوبات، التي لعبت الدور الأكبر في تدمير الطبقة الوسطى، التي تفتقدها البلاد اليوم في معركتها من أجل بناء دولة المواطنة والقانون، بعد أن حطّمت تلك العقوبات السوريين، وحوّلتهم جماعةً من الأشباح، همّهم الرئيس تأمين رغيف الخبز، أو أسطوانة غاز، أو ساعة من الكهرباء، أو قليل من الماء الصالح للاستخدام الآدمي. من الأحداث السلبية التي حصلتْ (منذ ذلك الوقت) انفلات الاحتقان الطائفي من عقاله، خصوصاً بعد أحداث السويداء الدامية، والانتهاكات التي ارتكبتها مختلف الأطراف بحقّ المدنيين في أثنائها، وعبّرت بالتوازي مع الخطاب الذي رافقها عن مخزون مخيف من العنف والكراهية. الأخطر من ذلك كلّه أن بعض السوريين بدأوا يتقبّلون فكرة أنهم غير قادرين على العيش المشترك في وطن واحد، ما يعني أن الدولة باتت مهدّدةً فعلياً بالتفكّك، في ظلّ دعمٍ إسرائيلي لهذا التوجه. ومن المظاهر السلبية التي تبلورت أيضاً خلال الشهور الأربعة الماضية، بين أحداث الساحل وأحداث السويداء، أن السلطة الجديدة بدأت تصبح أكثر انفتاحاً في التعبير عن نفسها باعتبارها حكومة بعض السوريين، وليس كلّهم، بعد أن كانت تنفي ذلك دائماً في خطابها السياسي، باعتراف أحد قياديّيها أخيراً، لدى تبريره ممارسات السلطة بأنه “حكم المنتصر” (يقصد هيئة تحرير الشام)، التي أصبحت تقدّم نفسها من دون مواربة الممثّل الحصري والوحيد للسُّنّة السوريين العرب، في أجواء طائفية مشحونة.
اللافت فوق ذلك أن السلطة الجديدة تمارس الحكم بثقة مفرطة، وبصلاحيات مطلقة، وليس على قاعدة أنها انتقالية، بل أبدية، تحكم مثل نظيرتها في العراق باسم الأغلبية الطائفية، ويتجلّى ذلك في تبنّيها سياساتٍ داخليةً وخارجيةً ذات طبيعة مصيرية، من دون أدنى اكتراثٍ بمواقف السوريين ورأيهم فيها، وتفويضهم لها، بدءاً بمفاوضات السلام مع إسرائيل، والتوجّه نحو قوننة الوجود العسكري الأجنبي في الأراضي السورية (قواعد تركية وأميركية، فضلا عن الروسية)، والقبول بمنطقة منزوعة السيادة في الجنوب، وصولاً إلى بيع أصول للدولة على شكل استثمارات أجنبية، مروراً بتصميم هويَّة بصرية جديدة للدولة السورية، تنسجم مع هويتها الطائفية، والعقيدة القتالية للجيش “الخاصّ” الذي تؤسّسه. تتأتى هذه الثقة من عاملين رئيسَين، يتمثّل الأول بالدعم والاحتضان الخارجي الذي تحظى به هذه السلطة (من بعض دول الخليج وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة)، ولأسباب تخصّ مصالح الداعمين، بعد أن نجحت السلطة الجديدة بإقناعهم بقدرتها على تأدية بعض الأدوار الوظيفية المهمّة مثل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومواجهة حزب الله وإيران، وتأمين حدود إسرائيل، وصولاً إلى تطمين الخائفين بأن لا تصدير للأيديولوجيا الإسلامية، من جهة، ولا ديمقراطية في سورية من جهة ثانية. العامل الثاني، يتجلّى في نجاح السلطة الجديدة في إقناع جزء معتبر من السُّنّة السوريين العرب بأنها تمثّلهم، تحمي مصالحهم، وتحكم الدولة باسمهم بعد إقصائهم عنها ستّة عقود.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، تعرّضت السلطة الجديدة لهزّة عميقة، قد تكون أيقظتها على حقيقة أنها ربّما أفرطت الثقة في نفسها، كما أفرطت في الاتكال على جدار الدعم الخارجي والداخلي الذي حازته عقب نجاحها المشهود في إسقاط نظام الأسد البائد. تبيّن نتيجة أحداث السويداء أن الدعم الخارجي ليس غير مشروط، وأن الفوضى التي يخشاها العالم في سورية هي تماماً ما ستقود إليه سياسات العنف والطائفية والإقصاء والاستئثار. كما تبيّن، وللسبب نفسه، أن الدعم الداخلي ليس معطىً ثابتاً ومضموناً، بدوره، خصوصاً بعد أن وُضعت مكوّنات الشعب السوري (على خلفية أحداث السويداء) في مواجهة بعضها (العشائر ضدّ المليشيات المحلّية في السويداء) ما قد يفضي إلى حرب أهلية شاملة، وتدخّلات خارجية واسعة (إسرائيلية خصوصاً قد تجرّ تركيا وغيرها)، في وقتٍ باتت فيه طموحات توحيد البلاد أبعد من أيّ وقت مضى. لن تنجح حالة الإنكار التي تعيشها السلطة، ولا حملات التخوين، التي يقودها المخلصون من أتباعها في وسائل التواصل الاجتماعي، في حجب حقيقة التغيير الذي طرأ في الأسابيع الأخيرة على المزاجين السوري والدولي العام، وبداية تبلور إجماع وطني على ضرورة مراجعة المسار، ببساطة لأن سورية لن تُحكَم هكذا.