تباينت العلاقة بين الدولة والمجتمع في سوريا بعد الاستقلال، بدءًا من علاقة وطيدة امتدت إلى حين تولي حزب البعث السلطة في البلاد، لتنتقل هذه العلاقة إلى مرحلة اضطراب امتدت لعقود من الزمن، حيث انعدمت الحياة والمشاركة السياسية، وأُلغي مفهوم المواطنة والدولة المدنية، وساد حكم الديكتاتورية والأحزاب الموالية للنظام الحاكم.
وبعد سقوط النظام المخلوع، ارتفعت أصوات السوريين المطالبين بدولة العدالة والقانون، وسط دعوات لإنتاج وصياغة دستور يحمي حقوق الجميع بالتساوي، والعمل على إعادة نهضة البلاد اقتصاديًا ومعيشيًا بعد أربعة عشر عامًا من الصراع في سوريا.
وفي حوار خاص مع المحلل السياسي الدكتور علاء الأصفري، أجاب فيه عن العديد من الأسئلة حول العلاقة بين الدولة والمجتمع، وأبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتأثيرها في بناء الدولة السورية.
وفيما يلي الحوار كاملاً:
ما هي العلاقة بين الدولة والمجتمع في سوريا من حيث تطور مفهوم المواطنة والمشاركة السياسية؟
مرت العلاقة بين الدولة والمجتمع بعقود من الاضطراب، فمنذ استلام حزب البعث السلطة، سادت علاقة شبه عدائية بسبب الطبيعة الديكتاتورية للنظام، الذي استمر خمسين عامًا. وبذلك، كانت المشاركة السياسية محدودة بأحزاب موالية، ولم تكن هناك أحزاب معارضة حقيقية قادرة على قول “لا” في مجلس الشعب أو في الحكومة. كانت الصورة الإعلامية توحي بوجود تعددية، لكنها في الواقع كانت شكلية، وما زلت أرى أن تلك الأحزاب كانت “كرتونية”، لم تسهم يومًا في اتخاذ قرار أو في معارضة توجه رسمي، نظراً لهيمنة أعضاء حزب البعث على المؤسسات.بالتالي، عاش السوريون تحت حكم ديكتاتوري بغطاء إعلامي، يدّعي وجود جبهة تقدمية وتعدد حزبي، بينما لم تعرف البلاد معارضة حقيقية. وقد دفعنا ثمن ذلك غالياً.واليوم، وبعد التحرير، أرى أن العلاقة بين الدولة والمجتمع يجب أن تُدرس بعناية أكبر، فهناك إقصاء كبير لكثير من مكونات المجتمع السوري، سواء الطائفية أو العرقية أو حتى الخبرات التكنوقراطية التي تم تهميشها. باتت السلطة اليوم ذات طابع “توليتاري”، وأعتقد أن هذا أمر لا بد منه في المرحلة الأولى، لبناء الثقة من جديد. ويجب أن تتجذر هذه العلاقة فوراً، وأن تُبنى على مسارات حقيقية لبناء ديمقراطية حقيقية، بعيدًا عن التخوين وحكم الفرد الواحد.
ما أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها في بناء الدولة السورية ووظائفها الأساسية؟
هناك تحديات اقتصادية كبرى، من أبرزها استمرار العقوبات الاقتصادية. وقد فُوجئنا مؤخراً بتمديد “قانون قيصر” في الولايات المتحدة، مما يشكل عائقاً أمام النمو الاقتصادي المنتظر، ويقلص من أمل الناس في تحسن الأوضاع الاقتصادية، وإعادة الإعمار، وإصلاح البنية التحتية.أما التحدي الثاني، فيكمن في غياب الاستقرار الأمني. فلا يمكن أن يكون هناك استثمار حقيقي — سواء عربي أو خليجي أو دولي — من دون تحقيق الأمن في عموم البلاد. فرأس المال “جبان” بطبيعته، ويتطلب بيئة آمنة، لا عبر القمع، بل من خلال استقرار اجتماعي حقيقي.أما على الصعيد الاجتماعي، فالتحديات جسيمة. هناك مشكلات مع ما يُعرف بـ”الأقليات”، وأنا لا أحبذ هذا المصطلح، فالسوريون، سواء كانوا دروزاً، أكراداً، أو علويين، هم مكونات رئيسية في النسيج الوطني.
يجب إشراك الجميع في عملية إعادة الإعمار، في إطار مجتمع آمن وسلمي، لأن الإقصاء سيؤدي حتماً إلى مزيد من الانقسام وعدم الاستقرار.
هل هناك تأثير للانقلابات العسكرية في سوريا منذ الاستقلال حتى عام 1970 على مفهوم الدولة؟
بالتأكيد، فقد كان للانقلابات العسكرية أثر سلبي كبير على سوريا الحديثة. فمنذ الاستقلال، لم تعرف البلاد الاستقرار السياسي، بسبب تنازع القوى الفاعلة على السلطة. فشهدنا سلسلة من الانقلابات حتى عام 1970، حين دخلت البلاد في مرحلة حكم ديكتاتوري قمعي في ظل الأسدين (الأب والابن).لكن المشكلة الأكبر من الانقلابات ذاتها كانت في القضاء التام على أي حياة سياسية أو مدنية حقيقية، وعلى وجود معارضة ناضجة كما في الدول الديموقراطية. وجود المعارضة، حتى وإن لم تكن حاكمة، يشكل عنصرًا أساسيًا في تطور الدول، بشرط أن تعمل ضمن إطار سلمي لا عنفي، خلافًا لما شهدناه حين انسدت الأفق السياسية ولجأ العسكريون إلى القوة.
لذلك، فإن الانقلابات العسكرية دمرت ما تبقى من الحياة السياسية التي عرفتها سوريا في أربعينيات القرن الماضي.
هل تصنيف سوريا كدولة فاشلة بعد عام 2011 له تأثيرات على الأوضاع الحالية؟
نعم، فالنظام الديكتاتوري وفرض السلطة بالقوة العسكرية أوصلنا إلى حالة الدولة الفاشلة. وقد تمزق المجتمع بعد عام 2011، وبدأت الثورة تأخذ منحًى عسكريًا، وظهرت مئات الفصائل والتوجهات، ما عمّق حالة الفشل.ومع التحرير الذي بدأ في أواخر عام 2024، تقع على عاتق الدولة الجديدة مسؤولية استخلاص العبر من كافة مراحل الفشل منذ الاستقلال وحتى اليوم، والعمل على بناء نظام ديمقراطي مدني، يشارك فيه الجميع دون إقصاء.
فأي محاولة لإلغاء مكون وطني هي محاولة خطيرة لن تؤدي إلا إلى مزيد من التوتر والانقسام.
وعليه، يجب على القيادة الجديدة أن تعي تماماً لماذا فشلت الدولة السورية، لتتجنب تلك الأسباب وتسد الذرائع. ويمكن تحقيق ذلك إذا ما تم الحفاظ على السلم الأهلي، وانخرط الجميع في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حينها فقط يمكننا بناء سوريا ناجحة.
هل دستور عامي 1946 – 1949 هو الأنسب في الوقت الحالي، خاصة أنه ركّز على بناء الدولة الوطنية الحديثة والتجربة الدستورية المبكرة؟
أعتقد أن الدستور الذي صاغه نخبة من السياسيين المخضرمين، وعلى رأسهم ناظم القدسي في أربعينيات القرن الماضي، هو الأقرب لما تحتاجه سوريا اليوم. فقد كان دستوراً ديمقراطياً، مدنياً، ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، ويحفظ الحريات الفردية والعامة.وأراه بمثابة اللبنة الأساسية لبناء دستور جديد، لا بالضرورة أن يُؤخذ كما هو، بل يمكن تطويره والبناء عليه كنواة صلبة.
كما يجب أن نستفيد من تجارب دول أخرى، مثل ماليزيا، فرنسا، أو إنجلترا، التي تمتلك دساتير عريقة. أما إذا تمسكنا بعقلية الإقصاء، فسنتجه مجدداً نحو دولة فاشلة.لذلك، من الضروري صياغة دستور يضمن حقوق الجميع، ويهدف إلى دمج كافة المكونات في السلطة، مع مراعاة أن التنوع العرقي والطائفي في سوريا هو مصدر قوة، لا ضعف، خاصة وأن سوريا دولة مركزية ومهمة في الشرق الأوسط.