حثيثا يمضي مسار التطبيع مع إسرائيل مخترقا جدران الممانعة، بعد أن تسرب إليها الصدع وعلتها الشقوق. وحدها أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول من عام ألفين وثلاثة وعشرين أفلحت في لجم هرولة الدول العربية نحو إسرائيل، ووقف دوران عجلة التطبيع، وقد أدرك زاحفا شبه الجزيرة العربية وقلب العروبة والإسلام.
إذ حققت إسرائيل في السنوات الأخيرة، برعاية من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اختراقات غير مسبوقة بتطبيع علاقاتها مع أربع دول عربية دفعة واحدة، بموجب ما بات يعرف بالاتفاقات الإبراهيمية، على قاعدة تفاهمات سياسية كان من نتائجها المباشرة فك عزلة إسرائيل الإقليمية، وبناء تحالفات إقليمية هجينة. وتنص الاتفاقيات المبرمة بين أغسطس وديسمبر من عام ألفين وعشرين على تعزيز السلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والقضاء على التطرف، وإنهاء النزاعات ودعم التجارة، وتعزيز قيم التسامح والحوار.
على أن اللافت في هذه التفاهمات السياسية هو ارتكازها على اعتبارات ومبررات أمنية وسياسية وتجارية، ومزاعم بتحقيق الاستقرار والرفاه، فيما القاسم المشترك بين بعض هذه الدول هو معاداتها الصريحة للإسلام السياسي (الموقف من حماس تحديدا ومن مشاريع المقاومة في المنطقة بشكل أوسع)، والخشية المتعاظمة من موجة ثانية من الربيع العربي قد لا تبقي ولا تذر. الواضح في هذا المشهد أن لكل دولة من الدول الأربع دوافعها الذاتية وحساباتها الاستراتيجية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، في سياق اتسم على وجه الخصوص بجمود في عملية السلام وانسداد أفق أي تسوية سياسية للقضية الفلسطينية. ومن هذا المنظور سمحت هذه الاتفاقات ببناء تحالف ثلاثي ضد إيران يضم إلى جانب إسرائيل، كلا من البحرين والإمارات العربية المتحدة، يروم ضمن أهداف أخرى تحجيم نفوذ طهران في المنطقة. كما قدمت تطمينات للأقلية السنية الحاكمة في البحرين من أي تغول إيراني مفترض.
وفي المقابل رسخت هذه الاتفاقات مكانة الإمارات العربية المتحدة كمركز دولي للتجارة الدولية والسياحة، وعززت ترسانتها العسكرية بأسلحة وطائرات مقاتلة أمريكية الصنع كانت إسرائيل تمانع في بيعها لأبوظبي. وعلى الصعيد الدبلوماسي، اعتمدت أبو ظبي سفيرا لها في تل أبيب، بينما أبرمت عام ألفين وثلاثة وعشرين اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع إسرائيل. وسرعان ما نجحت إدارة الرئيس ترامب في دفع السودان إلى الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، بعد شطب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات المرتبطة بها. وتلا ذلك انفتاح على المؤسسات النقدية الدولية، ووعود بدعم مالي واقتصادي للخرطوم.
في حالة المغرب، ثمة اعتبارات أخرى أملت التقارب مع إسرائيل، وإن كان بعضها لا يختلف كثيرا عن المسوغات التي ساقتها دول عربية أخرى لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. فالمغرب الذي تعود ارتباطاته السرية والعلنية مع إسرائيل لستينيات القرن الماضي، يرى أن الانفتاح على إسرائيل لا يمس بالتزامه بالقضية الفلسطينية، والرأي عنده أن ذلك سيجعله في موقع يسمح له بخدمة القضية الفلسطينية، وزاد على ذلك بالقول إن الخطوة التي أقدم عليها ليست تطبيعا، بل هي مجرد استئناف لعلاقات دبلوماسية وسياسية تجمدت مع اندلاع انتفاضة الأقصى. لا يمكن أن ينظر إلى هذا التوصيف من منظور علم الدلالات إلا على أنه تحايل لفظي يراد به التخفيف من وقع الفعل الأصلي، انضمت إليه جوقة من أشباه المثقفين والسياسيين لتسويقه والترويج له. ولعل أكبر مكسب سياسي ودبلوماسي حققه المغرب من وراء تقاربه مع إسرائيل، هو انتزاعه اعتراف الولايات المتحدة على عهد إدارة ترامب الأولى بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ظل يستجديه لعقود طويلة.
ومنذ التوقيع على اتفاقية التطبيع، تسارعت خطى التعاون الأمني والعسكري والتجاري بين إسرائيل والمغرب وشمل، من بين مجالات عديدة، افتتاح خطوط طيران مباشرة، والمشاركة في مناورات عسكرية مشتركة، وشراء مسيرات والاستعاضة عن أقمار صناعية للاستخبارات العسكرية فرنسية الصنع بأخرى إسرائيلية، ناهيك عن اقتناء برنامج التجسس بيغاسوس المثير للجدل، وأنظمة دفاع جوي متطورة. وحسب دراسة لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام، فإن إسرائيل أصبحت بحلول عام ألفين وثلاثة وعشرين ثالث دولة موردة للسلاح للمغرب، خلف فرنسا والولايات المتحدة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ صمّت الدول الأربع آذانها عن جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة المستمرة منذ ما يقرب من السنتين، إلا من بيانات شجب وإدانة جوفاء، بل إنها اختارت عن طواعية عدم الترافع أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، أثناء نظرها في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل. ومع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وما رافقها من مشاهد مروعة لقتل وتجويع المدنيين العزل، لم يصدر عن الدول الأربع ما يفيد بنيتها وقف مسار التطبيع، على ما فيها من خطر على الأمن القومي العربي، واختراق للنظام الرسمي العربي، حتى بعد أن بات لها من المسوغات والقرائن ما يجيز لها قطع العلاقات مع إسرائيل والتخلص من هذا الارتباط المعاكس لإرادة الشعوب. الأنكى، أنه بينما تطالب دول غربية على نحو متواتر الحكومة الإسرائيلية بوقف عملياتها العسكرية في غزة وتلوح بعقوبات ضدها، وإعادة النظر في اتفاقات الشراكة المبرمة معها، اختارت الدول المطبعة أن تلوذ بصمت مشبوه تفوح منه رائحة التواطؤ.
وإذ أخفقت إسرائيل، حتى الآن على الأقل، في جر السعودية إلى شرك التطبيع، بما يعنيه ذلك من رمزية، لا يزال الشارع العربي يقاوم أشكال التقارب كافة مع إسرائيل أو التطبيع معها ضمن حراك شعبي جارف لم يسلم هو الآخر من حملات التضييق والقمع.
صحافي وكاتب من المغرب