بعد مدّ وجزر، وكرّ وفرّ، تمكّن أحرار سورية من إسقاط واحد من أشدّ أنظمة القهر والاستبداد، فالنظام الذي استطاع الاستمرار أكثر من نصف قرن، ترك خلفه تركةً ثقيلةً وفشلاً عامّاً يتجلّى في وضع اجتماعي صعب للغاية، وقوى استعمارية متعدّدة تستبيح الأرض وتتآمر ليلاً ونهاراً لفرض أجندتها وضمان مصالحها. ولثقل التاريخ والجغرافيا لم يكن ما وقع في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 حدثاً سياسياً أو حسماً عسكرياً فقط، بل هو تحوّل استراتيجي يمثّل نقطة انعطاف مهمة في تاريخ الأمّة، والظنّ أنها استمرار لمجموعة بوارق الأمل التي لمعت أخيراً في سمائنا المظلمة، وتاريخنا المثقل بالهزائم.
فبعد تحرير أفغانستان، وانفجار “طوفان الأقصى”، جاء الانتصار في معركة ردع العدوان الذي نتج منها إقامة الثوار سلطةً جديدةً، وشروعهم في التأسيس لتغيير هادئ فاجأ كثيرين، ولأننا اعتدنا لسعات الهزيمة، خاصّة بعد انتصار الاستعمار الحديث ودخوله بلداننا وقهره شعوبها، اختلط علينا الأمر، وظهر علينا الارتباك في التعامل مع المولود الجديد. هل نفرح به ونتأملّ معه الفرج؟ أم نحمي أنفسنا من صدمة خيبة الأمل من جديد؟ فتجاربنا على مدى القرن الأخير زرعت داخلنا نبتة اليأس ورسّخت أن الأصل فينا الفشل والانهزام، وحتى لو حقّقنا نصراً فهو مؤقّت وإلى زوال. وبعيداً من ثنائية صفر – واحد، نحاول تشريح الوضع الجديد، بين ما هو مأمول تحقيقه، وما هو من المحاذير المتوقّع أن تعترض مسيرة التحرير، ندعو إلى تجاوزها.
شكّل تحرير سورية، بموقعها المتميّز حلقة ربط في منطقة الشرق الأوسط الساخنة بثرواتها وتاريخها، هزّة قوية أحدثت شرخاً في توازن القوى المفروض منذ دخول الاستعمار الغربي الحديث، وفرضت إعادة ترتيب المعادلات في الأرض. ولو أردنا تعداد ما حقّقته هذه الثورة بانتصارها الرائع نقول إنها تمكنت مادّياً من إسقاط قلعة النظام الطائفي، الذي يمثل ركناً أساساً في منظومة الاستبداد القائمة في بلداننا، وفكرياً من تهشيم آخر قلاع التضليل القائمة على العنتريات والشعارات الزائفة، فالنظام البعثي مثّل مرجعية مخادعة خدّرت شعوبنا وأضاعت عليها فرص البناء السليم للانطلاق نحو المستقبل، وإرسال رسالة أمل إلى المنطقة وشعوبها، ومن خلالهم إلى الأمّة، مفادها أن الناس في أصلهم أحرار، وأن شمس الحرية لا تحرق بأشعتها إلا الظلمة المستبدّين، والسفلة الذين استمرؤوا الاستعباد، وتنبيه إلى كلّ مستبدّ ظالم مفادها: لا تفرح كثيراً، واعلم أنك لست مالكاً لأرضها، ولا مستعبداً لشعوبها، وأن إنسان “ما بعد الموحّدين” قد خرج من دائرة التخدير والخوف وأحرق سفن العودة، وإلى الاستعمار الغربي مفادها: أن الأمّة تواقّة إلى التحرّر وأبناؤها، يعملون لأجل مشاريع حكم تقوم على الحقّ والعدل، ولا مستقبل لعملائكم ولا لمشاريع هيمنتكم في خططها المستقبلية، فحدّثْ معايير تعاملك معها. كما منحت الثورة جرعة أمل قوية لكلّ حرّ، وأحالت انتباهه نحو سنن التدافع، فمهما بدا العدو قوياً فلا مستحيل مع الشعوب إن أطّرتها نخبة واعية، مبدعة وفاعلة.
ومع هذا التفاؤل المستحقّ، ومع شروع العهد الجديد في إعادة بناء دولة شبه منهارة، وترتيب البيت الداخلي، تبرز جملة تحدّيات وصعوبات سياسية واقتصادية، زادت من صعوبتها تعدّد وتعاضد التهديدات المحيطة بمشروعها الطموح، فالاستقرار قلق والأعداء كثر والكلّ يطمع ويعتقد في نفسه القوة لفرض أجندته. وممّا يخشى على سورية وشعبها أمرَان هما، ثورة مضادّة أو عمل على تفتيت وحدتها، لكن خطر ثورة مضادّة تعيد سورية إلى مربّع الاستبداد (كما حدث مع مصر وتونس) يبقى احتمالاً وارداً، لكنّه ضعيف، لأسباب منها طبيعة النظام البائد الذي كان قائماً بالأساس على جيش طائفي، لم يهتم كثيراً بإنشاء دولة عميقة يلجأ إليها ساعة الحاجة، وهذا ما عجّل ويسّر سقوطه، في وقت كنا نظنّه قوياً، ومن الصعب على بقاياه تنظيم عودة قوية وما تجربة تمرّد الساحل إلا تأكيد لذلك، وانشغال حلفائه بأزماتهم، فروسيا غارقة في حرب استنزاف في أوكرانيا، وإيران وأذرعها غارقون في لعنة انتصارهم للظلم والظلمة على حساب أشلاء السوريين ودمائهم، ما أحدث وضعاً جيوسياسياً لا يخدم هذا الخيار بالمطلق، وامتلاك العهد الجديد للقوة اللازمة والكافية لردّ أيّ تحرك من هذا القبيل.
يبقى خطر التقسيم أحد أبرز المخاطر القائمة، مند أول يوم لانتصار الثورة، لاح تهديد التقسيم، وكان المشروع واضحاً وتعمل لأجله أو تستعمله ورقة ضغط عدّةُ جهات أو قوىً ذات مشاريع مختلفة، وحتى متناقضة، وأعلاها صوتاً التهديد بتفتيت سورية على أساس عرقي وطائفي (تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد) بحيث يشيعون أنهم سيقتطعون كياناً كردياً في الشمال، وآخر درزياً في الجنوب، وثالثاً علوياً في الساحل. ومع بعض التفصيل، نجد الكيان العلوي خياراً أحرق آخر أوراقه بعد هزيمة أنصاره في ما عرف بتمرّد الساحل، الذي لم يستطع الصمود كثيراً نظراً إلى القوة التي جوبه بها، التي فاجأت أنصاره في الداخل، والأهم فقدانه الدعم الخارجي. والكيان الدرزي، وهو الخيار الذي يدعمه ويرعاه الكيان المحتلّ (ومن ورائه الغرب المنافق)، ويطمح من خلاله إلى فرض عمق أمني داخل الأراضي السورية يجنّبه أيّ تهديد مستقبلي، وهذا الخيار في حقيقته أجندة خارجية بحتة تفتقد السند الداخلي، وهذا ما جعل أصحابه في وضع هشّ، وليس كلّ قادة الدروز مع هذا الخيار، وحتى مرجعياتهم في الخارج تنتصر لخيار الدولة الموحّدة.
يمكن ملاحظة تحرّك القيادة السورية لفكّ هذا اللغم بذكاء ومرونة كبيرَين، فبعد استنفاد مسعى المصالحة والحلّ السلمي تحرّك الجيش لتأديب المتمرّدين وفرض الأمن، وكانت ردّة فعل الكيان (المتوقّع) المدعوم أميركياً قوياً بطائراته، ولأن العهد الجديد لا يتحرّك بردّات فعل، غيّرت الحكومة تكتيكها في تسيير المعركة، فسحبت الجيش الرسمي، وأرسلت جحافل كبيرة لإتمام العملية باسم قوى العشائر، وأعتقد أن كسر التمرد وإسقاط الخيار الدرزي وحسم الملفّ، قضية وقت فقط، ولن تستطيع أميركا ولا كيانها المفبرك فرض أيّ شيء.
تأتي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن السياقات نفسها، حتى وقت قريب كان هذا التهديد هو الأشدّ على الوحدة السورية، والأقرب إلى التجسيد لأن أصحابه يملكون القوة العسكرية والحاضنة الشعبية داخلياً، كما توفّر لهم أميركا وغيرها الرعاية والدعم الخارجي، أضف إلى ذلك موقعهم الذي وفّر لهم عمقاً أمنياً يضمنه أنصار المظلومية الكردية في تركيا والعراق، ولخطورة هذا الملفّ سارع قادة العهد الجديد من أول يوم إلى فكّ ألغامه بالتفاوض والحوار، وحقّقوا خطوات مهمة لم تكتمل بسبب نقض الأكراد عهودهم، لكن التطوّرات التي عرفتها القضية الكردية في تركيا (تطوّرات حزب العمّال) أضعفت سردية انفصاليّي سورية وأفقدتهم دعماً قوياً. وهذا الوضع الجيوسياسي الجديد يخدم خيار الدولة الواحدة، ويخفّف الضغط عن الحكومة، ويسهل مساعيها حتى ولو لجأت إلى القوة.
صحيحٌ أن النظام البائد نجح في زرع مجموعة أفخاخ متكاملة هدفها إرباك المشهد وتشويه البدائل، أشدّها خطراً تكريس الهُّويَّات الفرعية بديلاً من الهُويَّة الجامعة وتكريس الخطاب الطائفي والمناطقي لتفتيت النسيج المجتمعي. مع ذلك ثمّة أمل كبير بزرع ثقافة جديدة تقوم على فكرة أن الوطن مساحة مشتركة للجميع، نتقاسم فيه السلطة والثروة على قدم المساواة، بعيداً من مفاهيم الزعامة والتفويض الأعمى، والحلّ الأمني.