في صباح يوم الأحد، استفاق العراق على فاجعة جديدة، اشتباكات مسلحة دموية بين قوات تنتمي إلى فصائل مسلحة خارجة عن سلطة الدولة وبين الشرطة الاتحادية. اشتبكت القوات الأمنية العراقية مع عناصر مسلحة تابعة للفصائل المذكورة داخل بغداد، وتحديدا ضمن تشكيلات اللوائين 45 و46 من “كتائب حزب الله”، المدججين بالسلاح والمتمركزين في مؤسسة حكومية.
الحصيلة الأولية كانت ثقيلة: أربعة عشر قتيلا من قوات الأمن، إضافة إلى جرحى، وبعضهم من المدنيين الموجودين في المبنى. المشهد كان صادما، لكنه للأسف لم يكن مفاجئا ولن يكون الأخير طالما أن الدولة ما زالت تلوذ خلف ستار “فتح تحقيق”.
فمنذ سنوات، اعتاد العراقيون على تكرار مثل هذه الأحداث، التي غالبا ما تنتهي بعبارة معروفة صارت بمثابة الطقوس الرسمية لكل فشل حكومي: “تم فتح تحقيق”. وكأن الأمر يتعلق بمشاجرة فردية، أو حادث سير عرضي، وليس باشتباك مسلح بين أجهزة الدولة وميليشيات خارجة عن القانون تتحدى سلطة الدولة وسلاحها وهيبتها. مرة أخرى، تُسفك الدماء وتُهان مؤسسات الدولة ويُعتدى على رموز السلطة، ومرة أخرى، يخرج علينا رئيس الوزراء ليعلن فتح لجنة تحقيق. وكأن الدولة العراقية لم تتعلم شيئا من كل تجاربها السابقة، ولم تدرك بعد أن هذا “الإجراء” ليس سوى عباءة تخفي بها عجزها المزمن عن فرض هيبة القانون.
في كل مرة، تُفتح التحقيقات وكأنها بوابة نحو العدالة، بينما يعرف كل مواطن عراقي أن لا شيء يحدث بعدها. الملفات تُركن، والشهادات تُنسى، والمسؤولون يُبدّلون، والضحايا يضافون إلى قائمة طويلة من المجهولين الذين لا يجدون من ينصفهم. إلى متى تظل الحكومة العراقية تتعامل مع الانفلات الأمني والسلاح غير المنضبط وكأنها ظواهر طبيعية تُحلّ بلجان تحقيق؟ هل هناك لجنة تحقيق واحدة في تاريخ العراق الحديث خرجت بنتائج فعلية؟ هل تمت محاسبة جهة نافذة واحدة بناءً على توصيات هذه اللجان؟
إن سياسة “فتح التحقيق” تحوّلت إلى نكتة باهتة، يرددها المسؤولون كوسيلة لامتصاص الغضب الشعبي، لا أكثر. أما الحقيقة فهي أن الدولة، أو من يفترض به أن يمثلها، يفتقر إلى الإرادة السياسية والشجاعة الكافية لمواجهة هذه الجماعات المنفلتة.
في أكتوبر 2019، خلال “احتجاجات تشرين”، خرج عشرات الآلاف من الشباب العراقيين يطالبون بوطن، بالكرامة، بالحياة. وواجهتهم ذات الفصائل، بذات الألوية، بذات الذخيرة الحية
حادثة اشتباك “كتائب حزب الله” مع الشرطة الاتحادية لم تكن وليدة لحظة، بل نتيجة طبيعية لتراكم سنوات من التغاضي والتواطؤ والخوف. هذه الفصائل، وتحديدا الألوية 45 و46 و47، تحوّلت إلى قوى موازية للدولة، تمتلك سلاحا، وقيادة، وتمويلاً، وأجندة، بل وتتمتع بحصانة غير معلنة تُبقيها خارج دائرة المحاسبة. من يراجع سجل هذه الألوية سيجدها حاضرة في كل ملف تجاوز: من قمع الاحتجاجات الشعبية، إلى التهديدات المباشرة للناشطين، إلى عمليات تهريب السلاح والبضائع عبر الحدود، إلى السيطرة على المنافذ الاقتصادية والمناصب الحكومية والأراضي الزراعية.
“كتائب حزب الله” تحديدا، والمعروفة بقربها الشديد من إيران، أثبتت في أكثر من مناسبة أنها لا تعبأ بالدولة، بل تراها مجرد غطاء لشرعية وجودها. في عام 2020، عندما قامت القوات العراقية باعتقال مجموعة من عناصر “الكتائب” بعد اتهامهم بإطلاق صواريخ على قواعد أميركية، حاصرت “الكتائب” المنطقة الخضراء وهددت بإسقاط الحكومة. وقتها، رضخت السلطة وأطلقت سراح المعتقلين دون محاسبة. تلك الحادثة وحدها كانت كافية لتعرية هشاشة القرار العراقي، لكنها لم تكن الأخيرة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019، خلال “احتجاجات تشرين”، خرج عشرات الآلاف من الشباب العراقيين يطالبون بوطن، بالكرامة، بالحياة. وواجهتهم ذات الفصائل، بذات الألوية، بذات الذخيرة الحية. تم قنص العشرات، وخُطف المئات، وتعرض الآلاف للضرب والتهديد. وحتى اليوم، لم يُحاسب أحد، ولم تُعرف نتائج التحقيقات التي قيل إنها فُتحت حينها. هل تتذكرون ذلك البيان الرسمي الذي تحدث عن “عناصر مندسة”؟ لقد كان البيان الأول في سلسلة طويلة من الأكاذيب التي استخدمتها الدولة لتغطي فشلها في حماية مواطنيها من سلاح الخارجين عن القانون.
اليوم، نرى المشهد يتكرر: عناصر مسلحة تابعة للواءين 45 و46، تدخل مؤسسة حكومية، تعتدي على الشرطة، تفتح النار، تسقط قتلى، ثم تعود إلى مقراتها. ورد الحكومة هو بيان باهت يتحدث عن “فتح تحقيق”، وكأن الحادثة خلاف إداري داخل شركة خاصة، وليست هجوما مسلحا على سيادة الدولة. بل الأسوأ من ذلك، أن البيان لم يجرؤ حتى على تسمية الكتائب والألوية المتورطة، في محاولة جديدة لإرضاء الجميع وعدم إغضاب “الشركاء في الوطن”، حتى لو كانوا شركاء في الفوضى والدم.
فصائل مثل “كتائب حزب الله”، والألوية 45 و46 و47، باتت تهدد موظفي الدولة علنا، وتفرض قرارات التعيين، وتمنع التغيير الإداري
رئيس الوزراء، وهو القائد العام للقوات المسلحة، يحمل اليوم مسؤولية تاريخية. لا يمكنه أن يختبئ خلف لجان التحقيق بعد الآن. لا يمكنه أن يُخدر الرأي العام بعبارات فضفاضة. لا يمكنه أن يستمر في الحديث عن هيبة الدولة بينما تُداس على عتبة الوزارات. ما حدث في بغداد ليس مجرد حادث أمني، بل إعلان صريح بأن هناك من يرى نفسه فوق القانون، وأقوى من الدولة، وأقدر على فرض إرادته بالسلاح لا بالدستور. والسؤال الحقيقي: ماذا سيفعل رئيس الوزراء؟ هل يرضخ كما فعل من قبله، أم يتصرف كقائد فعلي؟
رئيس الوزراء مطالب اليوم ليس بفتح تحقيق، بل باستخدام كامل صلاحياته الدستورية والقانونية لضبط السلاح المنفلت، ومحاسبة كل من يرفع السلاح بوجه الدولة، بغض النظر عن انتمائه أو غطائه السياسي أو الديني. العراق ليس حقل تجارب. دماء الشهداء ليست أرقاما تُضاف إلى إحصائيات الفوضى. إذا لم تُستخدم القوة الشرعية للدولة الآن، فمتى؟ وإذا لم يكن هناك موقف حاسم وشجاع في مثل هذه الكوارث، فمتى سيحدث؟ وهل نحن بحاجة إلى أن نودّع المزيد من الجنود وضباط الشرطة قبل أن تُتخذ خطوة حقيقية؟
لقد سئم العراقيون من الشعارات والبيانات الجوفاء. ما يحتاجه العراق اليوم هو دولة تُثبت أنها تمتلك قرارها، وهيبتها، وسلاحها. لا دولة تُصدر بيانات تحقيق بينما تُقصف هيبة مؤسساتها على يد جماعات تتصرف وكأنها دول داخل الدولة. العراقيون لا يريدون لجان تحقيق، بل يريدون عدالة. يريدون محاسبة. يريدون قرارات حازمة تليق ببلد يعيش على حافة الانفجار. إن السلاح المنفلت، خاصة بيد فصائل الحشد غير المنضبطة، لم يعد يمثل تهديدا أمنيا فقط، بل هو تهديد لوجود الدولة ذاتها. هذه الفصائل لا تقاتل الإرهاب، بل صارت شكلا جديدا منه: إرهاب مغطى براية وطنية، ويعمل باسم المقاومة، ويخطف قرارات الدولة من الداخل.
من غير المعقول أن يظل رئيس الحكومة يلوذ بالصمت أو بالبيانات الدبلوماسية. فصائل مثل “كتائب حزب الله”، والألوية 45 و46 و47، باتت تهدد موظفي الدولة علنا، وتفرض قرارات التعيين، وتمنع التغيير الإداري، بل وتسيطر على مؤسسات بأكملها تحت ذرائع شتى. وما لم تتم مواجهتها بحزم، فستتوسع أكثر، وتُسقط ما تبقى من سلطة الدولة على الأرض.
ما حدث في بغداد ليس سوى صفحة جديدة في كتاب الفشل الرسمي، ولكن يمكن أن تكون الصفحة الأخيرة… إذا قررت الدولة أن تقول “كفى”
العراق بحاجة إلى موقف. إلى إرادة سياسية تُفضي إلى أفعال، لا بيانات. ماذا تنتظر الحكومة بعد؟ أن تُقتحم الوزارات جميعا؟ أن يُعلَن استقلال الميليشيات في المحافظات؟ أن يُحكَم العراق من داخل مقرات كتائب خارجة عن القانون؟ المشهد واضح، والخطر صارخ، ولا مجال للمواربة. من لا يستطيع أن يحمي رجال الشرطة في بغداد، كيف له أن يدّعي أنه يحكم العراق؟
على رئيس الوزراء أن يخرج من صمته، أن يسمي الأشياء بأسمائها، أن يواجه “كتائب حزب الله” مباشرة، وأن يُعلن انتهاء زمن الميليشيات التي تتخفى خلف رايات “الحشد الشعبي”، لتنفذ مشاريع خارجة عن الوطن. “الحشد الشعبي” مؤسسة دستورية قاتلت الإرهاب، لكن بعض فصائله تحولت إلى سرطان في جسد الدولة. والوقت قد حان لاستئصاله. لا أحد يريد الصدام مع “الحشد” ككل، بل مع من خرجوا عن القانون. مع من يرفعون السلاح في وجه رجال الدولة. مع من يتاجرون باسم الدين والمقاومة بينما يمارسون أبشع أنواع الابتزاز والفساد والعنف. إن السماح باستمرار هذه الفوضى هو خيانة لدماء الشهداء، ولكرامة الدولة، ولمستقبل الأجيال القادمة.
لقد سئم العراقيون من العيش في دولة يتساوى فيها القاتل والضحية، وينجو فيها المعتدي بلجنة تحقيق. يريد العراقيون دولة تحكم، لا دولة تُحكم. دولة يُطبَّق فيها القانون على الجميع، لا دولة يُفتح فيها التحقيق عند كل كارثة ثم يُنسى. دولة يقودها رئيس وزراء لا يكتفي بإدانة الميليشيات في المجالس المغلقة، بل يواجهها علنا، ويأمر بإلقاء القبض على من يتحدى سلطته، لا من يعارضه سياسيا فقط.
ما حدث في بغداد ليس سوى صفحة جديدة في كتاب الفشل الرسمي، ولكن يمكن أن تكون الصفحة الأخيرة… إذا قررت الدولة أن تقول “كفى”. وإذا قرر رئيس الحكومة أن يكون قائدا حقيقيا، لا موظفا ينتظر تعليمات التوازنات.
هل سيفعل؟ أم ننتظر الاشتباك القادم، والتحقيق القادم، والشهيد القادم، والبيان القادم؟