(وهي ملاحظات مُهمةٌ، سواء صَمَدَ الاتفاق، أم لم يصمُد)
في غياب الإمكان السياسي لتحقيق الذات، أو ضعفه، يميل البَشرُ عادةً إلى مساعدة بعضهم بعضًا على تحقيق حالة من اللحمة العاطفية اليقينية، يسميها عالم الاجتماع الشهير إميل دوركهايم “الجَيَشَان” (Effervescence). وهي لحمةٌ هائِلة، قد تكون قاتلة، ومع ذلك يأمل الناس تحقيقَ ذواتهم بوساطتها.
في منتصف هذه اللحظات “الجَيَشَانِيَّة”، ومن واقع هذا الجَيَشَان، تُولَد الفكرة الطائفية، وهذا ما يحدث في سورية الآن؛ فـ “الجَيَشَان الطائفي” الناتج من استمرار غياب السياسة هو الذي يُنتِجُ الطائفيةَ، وليس العكس. يعني سورية ليس فيها طائفية، لكنَّ مرضَها نقصُ السياسة الذي يُولِّد الجَيَشَان، ومن ثم؛ فإن معرفة أسباب هذا الجَيَشَان بدِقَّة، والعمل على إيقافه، يعني، بالضرورة، الانتصار للإنسان السوري، والحفاظ على حياته، ووأد الفتنة، وتقليل احتمالات المواجهات الطائفية.
إذا بدأنا من ذواتنا الفردية جميعًا، واتفقنا على الفكرة الآتية، يمكن أن نُكمل النقاش بسهولة بعد ذلك.
الفكرة تقول:
كل سلوكٍ، أو فكرة، أو خطاب، يحطُّ من قيمة الفعل بالسلاح، ويرفع قيمة الفعل بالكلمات، وقيمة السياسة، هو العقل بعينه.
نُدرك جميعنا أن ثمة في البلد، من لا يريد أن يرفع قيمة الكلمة ويحطُّ من قيمة السلاح. وبطبية الحال، ليس لهؤلاء نوجه هذه القراءة.
استنادًا إلى هذه المنهجية السابقة، نطرح تَرِكَة الأسبوع الماضي في النقاط الآتية:
1) أخفقت الجهات الرسمية (إلى الآن) في واجبها المتمثل في حماية حياة السوريين، وفي تقليل الجَيَشان الطائفي إلى ما دون عتبة القتل بالحد الأدنى. وأخفق الخطاب الرسمي في حل المشكلات العالقة، مع أنه يُفيد دائمًا حسنَ النيات.
2) أخفق الشيخ الهجري، في إدارة الملف الذي تَنَطَّع له. ولم يبدِ الرجل رغبةً في السياسية التي تؤدي إلى تقليل الجَيشان الطائفي. وسار بدلًا من ذلك في طريق “الدرزية السياسية”، مستهلكًا رصيد أبناء السويداء الوطني المُشرِّف. ولذلك ثمة ضرورة للفصل بين الهجرية والدرزية، كما نفصل بين الدين وأيدولوجياته.
3) في الأيام المتوترة القليلة الماضية، كان أكثرُ الناس استعدادًا للطائفية أقلَّهم معرفةً بالدين الذي يتَّبِعونَه، وأكثر الذين ساهموا في الحشد الطائفي، وحث الناس على القتال، هم من الفئة الأقلِّ تدينًا، والأقل معرفةً بالدين، والعكس أيضًا صحيح.
4) الأغلبية الساحقة في السويداء، يعتقدون أن من بديهيات الحياة، بسيطة الإدراك، أن السوري (أيًا كانت طائفته) أقرب إليهم، وأبقى، من الدرزي الإسرائيلي الذي يقتل الفلسطينيين مع الجيش الإسرائيلي، والذي يقصف بلدهم، ويقتل شبابها، ويدمر بيوتها ومنشآتها؛ ومن “موفق طريف” الذي يُشجِّع على ذلك، ومن منتفعاته من الدروز السوريين الذين يستقوون بإسرائيل، والذين يُغريهم هذا العَلف الطائفي الذي يشترونه بدماءِ أبنائِهم.
5) خيرُ الأمورِ أوسطها، ودينُ التوتر العالي قد يحرق الأخضر واليابس، ورفع جهد الطائفيين أمرٌ لا يُستهان به، لأنه قد يسحق فكرة سورية عن بكرة أبيها؛ فهذه لعبةٌ خطيرة، لا ينبغي أن نجربها، لا في مستوى السياسة، ولا الأمن، ولا الإعلام، لأنها مسألةٌ قد تنهي فكرة سورية كلها، وعندها، ننتهي كلنا معها، من دون استثناء.
6) عندما تقع السياسية الرسمية في فخ فهم الشعب السوري بوصفه مجموعات من الأديان والطوائف، وتتبنى مثل هذه المقاربة؛ فهي تساهم، بالضرورة، في التأسيس لتوترٍ أهلي قد ينزلق إلى حرب، حتى وإن كانت نِيَّات القائمين على هذه السياسة صافية.
7) نحتاج مفهوم الحماية في منطقة بعيدة عن التي نضعه فيها هذه الأيام، الحاجة المُلحة إلى الحماية، تكون في حماية عقولنا، وقلوبنا، من الأيديولوجيات والأوهام والكراهية، وحماية ذواتنا من نفسها الأمارة بالسوء، وهذه الحماية لا تحتاج إلى دولة، بل إلى تفكير، لا شيء غير قليلٍ من التفكير، وبناء الأسئلة: لماذا أقتل؟ لماذا لا أتبادل الحياة مع الناس بدلًا من تبادل الموت؟ لماذا لا نمارس الحب بدلًا من الحرب؟ وهكذا. مفهوم الحماية في سورية يكون هنا حيث نُمعِنُ في هذا الحوار الصامت مع الذات أكثر، وأكثر.
تولدت لدي رغبة بإعادة نشر هذا النص المنشور منذ ثلاثة شهور مضت، حين تم الإعلان عن الوصول إلى اتفاقٍ في السويداء، وقراءته في ظل ما يحدث الآن. ليس من أجل ما مضى، بل من أجل القادم. نضال الديس