خرجنا من مسرحية “شو منلبس؟” ولم نتبادل الكثير من الكلمات، بقي في داخلي ثقل لا يشبه ما دخلتُ به، لم يكن العرض مجرّد مسرحيّة، بل مرآة صدئة لما نجهله، لما مُسح من الكتب والذاكرة. في لبنان، نكبر داخل جزر معزولة، نحفظ أسماء شوارعنا ونجهل المجازر التي حصلت على بُعد خمسين كيلومتراً.
لطالما حاولت حجز تذكرة لمسرحية “شو منلبس؟”، لكنّ العروض كانت دائماً مكتملة العدد. هذه المرّة حالفني الحظ. ذهبت برفقة زميلتي، ابنة الجنوب، وجلسنا في مقاعدنا ننتظر ظهور أنجو ريحان على خشبة المسرح.
ظهرت أنجو، وبدأ العرض. وحدها على الخشبة، تؤدّي شخصيّات عديدة، تحكي من خلالها قصّة “يارا”، ابنة قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني، التي عاشت سنوات الحرب الأهلية، وما تلاها من تهجير واعتقال ومحاولات اغتيال، لتروي عبر شخصيّتها وباقي الشخصيّات حكاية لبنان التائه بين الطوائف والسجون والذاكرة الممزّقة.
المسرحيّة، كما اعتدنا من الثنائي يحيى جابر وأنجو ريحان، لا تكتفي بسرد شخصي، بل تغوص في تفاصيل الطفولة والسياسة والجغرافيا والموروث، وتجمع بين المونودراما والكوميديا السياسية في آن.
في أحد المشاهد، تلفظ أنجو عبارة: “انتفاضة الأضحى”. توقّفتُ عندها. لم أسمع بهذا المصطلح من قبل. شعرت بارتباك حقيقي. أنا التي قرأت كثيراً عن الحرب، وشاركت في جولات ميدانية على ما يُعرف بـ”الخط الأخضر” أو “خط التماس”، الذي لم يكن مجرّد خطّ جغرافي يفصل بين بيروت الغربية ذات الغالبية المسلمة، وبيروت الشرقية ذات الغالبية المسيحية، بل كان شقّاً في قلب المدينة، وحاجزاً نفسياً واجتماعياً امتدّ لسنوات.
بدأ هذا الخطّ من منطقة المتحف الوطني، مروراً بقصقص، وبشارة الخوري، وصولاً إلى منطقة السوديكو والأشرفية، وقسم من الرميل. كان خطّاً غير مرسوم رسمياً، لكنّه مرئي في تفاصيل الحياة اليومية: حواجز، قنّاصات، شوارع مهجورة، وأحياء أصبحت جبهات. ورغم انتهاء الحرب، لا يزال هذا الخطّ حاضراً في الذاكرة الجماعية كرمز للتقسيم والانقسام الأهلي.
بالعودة إلى الانتفاضة، كيف غابت عني هذه الانتفاضة؟ كيف لم تمرّ أمامي ولو لمرّة واحدة؟
بدا عليّ القلق، فتحت هاتفي سريعاً خلال العرض، حاولت البحث: “انتفاضة الأضحى”، “الجنوب”، “الحرب الأهلية”، لكن لم أجد شيئاً ذا صلة. لا مقالات، لا أرشيف، لا توثيق. وكأن الانتفاضة التي ذُكرت للتو لم تحدث أصلاً، أو تمّ محوها من الذاكرة الجماعية عمداً.
استدرت بخجل نحو زميلتي، وهمست: “شو هيدي انتفاضة الأضحى؟”. لم أستطع الانتظار حتى نهاية العرض، فأجابت باقتضاب: “هيدي انتفاضة صارت بمعتقل أنصار بالحرب”.
قلت لها بسرعة، من دون تفكير: “سامعة بهجوم شكّا؟”، كنت واثقة أنها ستجيب: “لا”. أردت إعادة الاعتبار لنفسي، بعد أن فاجأتني قبل قليل بذكر “انتفاضة الأضحى”، التي لم أسمع بها من قبل، لكنّها لم تُجب، سكتت، كانت تفضّل متابعة العرض، بينما أنا أُلحّ بأسئلتي الكثيرة.
في تلك اللحظة، تذكّرت حادثة حصلت بيني وبين جدّي.
كان ذلك في أوائل صيف 2020، في عزّ حزيران، العالم كان ساكناً تحت وطأة جائحة كورونا، أما رأسي فلم يكن كذلك. كنت في السيّارة مع جدّي، جدّو جورج. النوافذ مفتوحة، كان يدخّن، كعادته، لكنّ الصمت بيننا في ذلك اليوم كان ثقيلاً، مختلفاً، يشبه شيئاً عالقاً في الحلق. ربما كان السبب هو الضجر من الإغلاق، أو الهواء المتخم بالخوف، أو ذلك التوتّر الذي عشنا فيه شهوراً خلف الأقنعة وحظر التجوّل.
سألته بنبرة نصفها مزاح ونصفها انزعاج: “أيمتى بلّشت تدخّن أصلاً؟”.
لم يضحك، لم ينظر إليّ، فقط زفر طويلاً، وكأن الدخان حمل الذكرى معه، قال: “من يوم هجوم شكّا”، التفتُّ إليه ببطء، لم أكن أتوقّع أن تتسلّل الحرب بهذه البساطة إلى المقعد الخلفي بيننا.
“الهجوم اللي صار بالسبعينات؟”، سألته، أومأ برأسه إيجاباً. لم أسأله المزيد، لم أحتج إلى تفاصيل.
نشأت في شكّا، تلك البلدة الساحلية المجبولة بالجمال والحزن، لكن حتى تلك اللحظة، لم يخطر لي أن سيجارة جدّي لم تكن عادة… بل بقايا حرب.
في 5 تموز/ يوليو 1976، وقعت مجزرة شكّا، إحدى المحطّات الدامية في الحرب الأهلية اللبنانية، شنّت مجموعات مسلّحة مؤلّفة من مقاتلين فلسطينيين ولبنانيين وعناصر من فصائل متعدّدة الجنسيّات هجوماً على بلدة شكّا الساحلية ذات الغالبية المسيحية، ما أدّى إلى مقتل نحو 150 شخصاً من سكّانها. جاء هذا الهجوم في سياق تصاعد أعمال العنف الطائفي، ويُنظر إليه من قِبل بعض الأطراف على أنه ردّ انتقامي على معركة تلّ الزعتر.
شكّا، التي شكّلت حينها بوابة استراتيجية بين جبل لبنان والشمال، اعتُبرت موقعاً حاسماً في ميزان القوى، وبحسب روايات محلّية، فإن سقوطها كان يعني تهديد الوجود المسيحي في المنطقة.
بعد يومين من المجزرة، وتحديداً في 7 تمّوز/ يوليو، شنّت القوّات المسيحية، وعلى رأسها حزب “الكتائب اللبنانية”، ومجموعات أخرى مثل “حرّاس الأرز” و”الأحرار”، هجوماً مضادّاً بقيادة أمين الجميّل، انتهى باستعادة السيطرة على البلدة، وانسحاب المهاجمين منها.
المعلومات الواردة أعلاه مستقاة من كتاب “شكّا قضيّة بحدّ ذاتها”، للكاتب ابن بلدة شكّا جورج سركيس، بالإضافة إلى موقع حزب “الكتائب اللبنانية”، الذي كان معنيّاً بشكل أساسي بتوثيق تلك الأحداث.
ما زال الهجوم محفوراً في الذاكرة الجماعية لأهالي شكّا، كعلامة دامية على هشاشة العيش المشترك في لبنان، وعلى وحشية الحرب التي لم تستثنِ مدينة أو طائفة. وما نعرفه عنه اليوم، نحن أبناء البلدة، لا نجده في الكتب المدرسية والمناهج، بل نلتقطه من روايات الأهل والجيران، ومن القصص التي تُقال على عتبات البيوت. لا أنسى دهشتي حين صادفت صورة في كتاب La guerre des graffiti: Liban 1975–1978 للكاتبة ماريا شختورة، تُظهر جدارية كُتب عليها: “شكّا ستعلّم عصابات المعماري كيف يكون القتال”. يومها، تساءلت: من هو “المعماري” هذا؟ وكيف يمكن أن أجهل تفاصيل حدث بهذا الحجم وقع في بلدتي؟
لكن ما الذي يجعلني، أنا التي نشأت في شكّا، أكتشف هول هجوم 5 تمّوز من سيجارة جدّي، وأقف حائرة أمام “انتفاضة الأضحى” في عرض مسرحي؟ ما الذي يجعل كلاً منّا يعرف فقط ما جرى داخل منطقته، ويتجاهل، أو يجهل، ما حصل في مناطق الآخرين؟ ليست المشكلة في ذاكرتي الشخصية وحدها، بل في غياب سردية وطنية جامعة، وفي غياب كتب تاريخ تقول لنا، بوضوح، ماذا حدث فعلاً، ولماذا.
لم أجد “انتفاضة الأضحى” في كتب أو أرشيف أو حتى محرّك بحث، ولم أقرأ عن هجوم شكّا يوماً في كتاب مدرسي. نعرف الحرب الأهلية اللبنانية كعنوان عامّ، لكنّ تفاصيلها الدقيقة موزّعة ومقطّعة، محصورة داخل الجدران الطائفية والمناطقية. كلّ طائفة تروي ما خسرته، كلّ منطقة تحفظ ما عاشته، وكلّ فرد يحمل ذاكرة من دون أن يجرؤ على تحويلها إلى سرد مشترك.
هذا الانقطاع في السرد لا يترك فقط ثغرات في معرفتنا، بل يوسّع الشرخ بين الناس، ويعمّق الشعور بالاغتراب داخل الوطن الواحد. كيف نبني مجتمعاً واحداً إذا كنّا لا نعرف وجع الآخر، ولا نصدّق روايته، ولا نجدها في كتبنا الرسمية؟
في غياب هذه الكتب، وفي ظلّ هذا الإنكار الجماعي، يصبح التاريخ الشفهي، بكلّ ما يحمله من هشاشة وصدق، ضرورة لا ترفاً. ما قاله جدّي عن شكّا، وما جسّدته أنجو ريحان على الخشبة عن الجنوب، ليسا مشاهد عابرة. هما شهادتان، وثيقتان من لحم ودم.
في ظلّ غياب الرواية الرسمية، تبقى الذاكرة الشفوية، ولو متقطّعة، أداة لمقاومة النسيان، وفرصة لفهم أعمق لما جرى، ولما لا يزال ينخر هذا البلد من داخله.
خرجنا من المسرح ولم نتبادل الكثير من الكلمات، بقي في داخلي ثقل لا يشبه ما دخلتُ به، لم يكن العرض مجرّد مسرحيّة، بل مرآة صدئة لما نجهله، لما مُسح من الكتب والذاكرة. في لبنان، نكبر داخل جزر معزولة، نحفظ أسماء شوارعنا ونجهل المجازر التي حصلت على بُعد خمسين كيلومتراً.
“شو منلبس؟” هو سؤال أكبر من الثياب، هو سؤال عن الهوّية، عن ماذا نختار أن نروي، وماذا نقرّر أن ننسى.
في بلاد لا تاريخ رسمي فيها، يصبح المسرح أرشيفاً، والذاكرة الشفوّية وثيقة، وكلّ حكاية غير مكتوبة احتمالاً لعدالة مؤجّلة.