بعد تراجع نفوذ الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وضرب أذرعها، أصبح واضحاً أنّ الصراع في المنطقة هو بين المملكة العربيّة السعوديّة، التي تسعى إلى دعم دول المنطقة وازدهارها، وإسرائيل التي تعمل على إبقاء دول المنطقة ضعيفة وتصفية القضيّة الفلسطينيّة.
تستغلّ إسرائيل حرب غزّة والانتصارات التي حقّقتها على المحور الإيرانيّ لفرض نفوذها على المنطقة أو لتكون شرطيّها (كما كتب الزميل عبدالرحمن الراشد في صحيفة الشرق الأوسط قبل أيّام). تعمل في فلسطين لاستكمال احتلال الأرض وضمّها وطرد السكّان منها. وتستكمل في لبنان ضرب “الحزب” واستهداف المسؤولين العسكريين فيه، وفي الوقت نفسه تُبقي على احتلالها النقاط الخمس التي يتّخذها “الحزب” ذريعة لعدم تسليم سلاحه. وتعمل في سوريا لتقسيم البلاد من خلال دعم الدروز للمطالبة بالفدراليّة أو الحكم الذاتي أو الانفصال، وتقيم أفضل العلاقات مع الأكراد في الشرق الذين يسعون إلى الحفاظ على مكتسباتهم من خلال المطالبة بنظام فدرالي، وإذا لم يتمكّنوا فنظام لامركزيّ. وتمارس إسرائيل الضغوط من أجل فرض تغيير ديمغرافي على دول أخرى مثل الأردن (وبنسبة أقلّ مصر) من خلال فرض توطين الفلسطينيين الذين تريد تهجيرهم من الضفّة والقطاع.
عبّر بنيامين نتنياهو أكثر من مرّة عن هذا المشروع في العديد من تصريحاته، وتطرّق إليه في خطاباته في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وعرض خريطة المنطقة مظهراً فيها الصراع بين محور الشرّ الذي تقوده إيران وبين محور الازدهار الذي تعمل من أجله إسرائيل، وضمناً ستقوده الدولة اليهوديّة. ولكنّ في الواقع مشروع إسرائيل هو أبعد ما يكون عن الازدهار. فهو يسعى إلى السيطرة على المنطقة بالحديد والنار. إنّه مشروع حروب مستمرّة. وبذلك لا يختلف المشروع الإسرائيليّ عن المشروع الإيرانيّ الذي أضعف بعض دول المنطقة على مدى أربعة عقود وفرض سيطرته عليها من خلال ميليشياته ونشر فيها الفقر والفساد والتخلّف والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعزَلَها عن محيطها الجيوسياسيّ والمجتمع الدوليّ.
تستغلّ إسرائيل حرب غزّة والانتصارات التي حقّقتها على المحور الإيرانيّ لفرض نفوذها على المنطقة أو لتكون شرطيّها
المشروع السّعوديّ
مقابل المشروع الإسرائيليّ التدميريّ، يبرز المشروع السعوديّ الذي يسعى إلى دعم دول المنطقة والحفاظ على خرائطها وازدهارها اقتصاديّاً واجتماعيّاً. وهي سياسة المملكة منذ تكوُّن الدول في العالم العربيّ.
في فلسطين، أعادت المملكة تأكيد ثوابتها من القضيّة الفلسطينيّة وعمادها دولة فلسطينيّة وعاصمتها القدس الشرقيّة. وتدعم السلطة الفلسطينيّة وتجديد قيادتها بحيث تستعيد ثقة الداخل الفلسطينيّ والخارج الإقليميّ والدوليّ، وتعمل لاستبعاد التنظيمات المتطرّفة سياسياً وعقائدياً التي جلبت الخراب للقضيّة الفلسطينيّة.
في سوريا، تتمسّك المملكة بوحدة الأراضي السوريّة وترفض أيّ تقسيم لها أو المساس بحدودها الجغرافيّة، وتدعم النظام الجديد فيها، وتساعده على إعادة بناء الدولة السوريّة ومؤسّساتها الإداريّة والأمنيّة والعسكريّة، وعلى إعادة بناء المجتمع المفكّك والاقتصاد المدمّر. وأبرز دليل على ذلك عقد المنتدى الاستثماري السوريّ – السعوديّ بعد أيّام على اندلاع الأحداث في السويداء واستهداف إسرائيل قلب دمشق، وإعلان استثمارات بأكثر من 6 مليارات دولار.
في لبنان، تستكمل المملكة جهودها في دعم الدولة اللبنانيّة لاستعادة سيادتها على أراضيها بقواها الذاتيّة. وتدعم الحكم الجديد فيه لتفكيك المنظومة العسكريّة والأمنيّة لـ”الحزب” الذي أضعف الدولة اللبنانيّة وعَزَلها عن محيطها العربيّ والمجتمع الدوليّ. وتنتظر خطوات عمليّة في هذا المسار كي تنتقل إلى الدعم الماليّ والاقتصادي لإعادة بناء الاقتصاد اللبنانيّ المنهار من خلال الاستثمارات.
في العراق، تنتظر المملكة تحرّر بغداد من العباءة الإيرانيّة وتفكيك ميليشياتها. وتدعم الدولة المركزيّة في استعادة سيادتها الكاملة على كلّ أراضيها. وتنتظر من الحكومة العراقيّة استكمال محاربة الفساد والقضاء عليه. على خلاف سوريا ولبنان وفلسطين، لا يحتاج العراق إلى الدعم الماليّ والاقتصاديّ، فهو يمتلك خامس احتياط نفطي في العالم. ولا ينقصه سوى دولة قويّة خالية من الفساد لإعادة بناء اقتصاده وازدهاره.
قوّة المشروع السعوديّ في أنّه يرتكز على أسس قوميّة وسياسيّة ودوليّة واقتصاديّة وماليّة صلبة. في المقابل يفتقر المشروع الإسرائيليّ، باستثناء القوّة العسكريّة، إلى كلّ عناصر القوّة
أساسات قويّة وصلبة
قوّة المشروع السعوديّ في أنّه يرتكز على أسس قوميّة وسياسيّة ودوليّة واقتصاديّة وماليّة صلبة. في المقابل يفتقر المشروع الإسرائيليّ، باستثناء القوّة العسكريّة، إلى كلّ عناصر القوّة.
الرابطة القوميّة العربيّة لها دور كبير في دعم الدور السعوديّ في الدول العربيّة التي ذكرناها وفي كلّ العالم العربيّ ودوله. بينما إسرائيل هي دولة غريبة عن المنطقة. فشلت على مدى سبعة عقود في بناء علاقات ثقة مع دول المنطقة وشعوبها على الرغم من معاهدات السلام واتّفاقات أبراهام.
سياسيّاً، يرتكز المشروع السعوديّ على قوّة المملكة وحضورها السياسي على الساحتين الإقليميّة والدوليّة. بينما زادت حروب إسرائيل الأخيرة من عزلتها الإقليميّة والدوليّة. وهذا ما بات يحذّر منه حلفاؤها وقيادات فيها، خاصّة بعد انعقاد المؤتمر الدوليّ من أجل حلّ الدولتين في نيويورك.
ترتكز سياسة المملكة في المنطقة على القوانين والقرارات الدوليّة. من هذا المنطلق جاءت دعوة المملكة إلى المؤتمر الدوليّ من أجل حلّ الدولتين في فلسطين، التي كانت حصيلته الأوّليّة تعهّد فرنسا (وهي شريك في عقد المؤتمر) على لسان رئيسها الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، وإعلان بريطانيا، التي أعطت “وعد بلفور” منذ أكثر من قرن، على لسان رئيس وزرائها، عزمها الاعتراف أيضاً بالدولة الفلسطينيّة، إذا لم توقف إسرائيل حربها في غزّة. ووقّعت 15 دولة، بينها كندا وأستراليا، على إعلان يؤكّد العزم على “الاعتراف بدولة فلسطين” ويدعو إلى انضمام باقي الدول إلى إعلانهم هذا. في المقابل سياسات إسرائيل وحروبها تخالف القوانين الدوليّة. وهي الدولة الأولى في العالم من حيث عدم تنفيذها للقرارات الدوليّة.
يرتكز المشروع السعوديّ على رؤية اقتصاديّة عمادها “رؤية 2030” وهدفها ليس فقط تطوير الاقتصاد السعودي وتنويعه، وإنّما جعل المنطقة العربيّة قطباً اقتصاديّاً في غرب آسيا وفي شرق المتوسّط له حضوره العالميّ. وتملك المملكة القوّة الماليّة وشبكة العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة التي نوّعتها في العقد الأخير لتحقيق هذا المشروع. في المقابل، تهدف إسرائيل إلى الهيمنة الاقتصاديّة على دول المنطقة من خلال التفوّق التكنولوجيّ.
إقرأ أيضاً: بن سلمان يُصدّع جدار الحماية الدولية لإسرائيل
أيّ مشروع سينتصر؟
نحن في بداية الصراع. ولكنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ المشروع السعوديّ هو المنتصر، خاصّة أنّ دول المنطقة وشعوبها تريد أن يتحقّق.