أسوأ ما في جدلية سلاح “حزب الله” التي تورط لبنان في إحيائها، بعدما كانت تسير طوال تسعة أشهر مضت، نحو مكانها الطبيعي في الذاكرة الوطنية، أن ثمة خللاً سياسياً جدياً طرأ في الأسابيع القليلة الماضية، وهو يمس شرعية السلطة اللبنانية الحالية، المعاد تشكيلها وفق جدول أعمال سياسي محدد بوضوح شديد، وبرنامج عسكري وأمني أشد وضوحاً..يتسق مع المتغير الإقليمي الأبرز، وهو نزع مختلف “الأسلحة غير الشرعية”.
وكما ثبت عملياً، فإن “حزب الله” كان الحلقة الأضعف في “المحور المقاوم”، منذ أن تعرض في الخريف الماضي لضربة خاطفة، وتكاد تعتبر قاضية، لقيادته وأسباب قوته، أسفرت عن اتفاق إذعان مريع، لم يوقف الاعتداءات الإسرائيلية، لكنه سحب الكثير من أسلحة الحزب ومخازنه في الجنوب والضاحية الجنوبية ومعظم أنحاء البقاع.
كانت عملية سحب السلاح تسير على ما يرام، وكان العدو يراقب ويتابع و”يحدد” بعض مهمات الجيش اللبناني الخاصة بضبط مخازن الأسلحة ومصادرة محتوياتها لا سيما في الجنوب والضاحية. وفي حينه جرى تداول معلومات أميركية وإسرائيلية بان حزب الله، سلم ما يقارب 90 بالمئة من سلاحه، وأشاد الاميركيون والاسرائيليون أكثر من مرة بأداء الجيش اللبناني الذي فاق التوقعات.
فجأة، توقفت العملية برمتها، الشهر الماضي، وعاد لبنان الى المربع الأول، الى ما قبل وقف النار، وبدا أنه وقع في مكيدة ، أو مصيدة، لا يمكن ان تنسب فقط الى سؤ المبعوثيَن الاميركييَن مورغان اورتيغاس وطوم براك، ونفاقهما، بل صلفهما في التعامل مع الملف اللبناني. كان هناك توجه رسمي من السلطة اللبنانية بالتباطوء في تنفيذ بنود اتفاق وقف النار، واكبه موقف مفاجىء من “حزب الله”، الذي جاهر أمينه العام نعيم قاسم، للمرة الأولى منذ ذلك الاتفاق، بان السلاح ما زال موجوداً، ولن يسلّم إلا بشروط، أهمها وقف الاعتداءات وانسحاب قوات العدو من الأراضي اللبنانية وإعادة الاعمار.
وبما أنه كلام حق لا شك فيه أبداً، سواء كان صادراً من السلطة والحزب، بالتفاهم او التواطؤ، أو حتى التورط، ويراد منه بالتحديد إلزام العدو بتنفيذ ما لم ينفذه من إلتزامات وقع عليها في اتفاق وقف النار.. لم يجادل أحد في ذلك المسعى اللبناني الطبيعي لتحقيق هذا الهدف السامي الذي يفترض أنه يحظى بالاجماع.. والذي شرحه الرئيس جوزف عون في خطاب عيد الجيش، وما تضمنه من الإفصاح عن طلب مساعدة مالية سنوية للجيش بقيمة مليار دولار، لمدة عشر سنوات، والالحاح على عقد المؤتمر الدولي لاعادة الاعمار في الخريف المقبل.
يمكن أن ينسب هذا الموقف “الجريء” الى ان لبنان الذي أعيته الحيلة لوقف الاعتداءات الإسرائيلية وانهاء الاحتلال للحزام الحدودي، قرر على ما يبدو، ان يجرب المساومة على مواصلة تجريد الحزب مما تبقى لديه من سلاح، مقابل الحصول على ضمانٍ بتنفيذ الالتزامات بوقف الاعتداءات الاسرائيلية وانهاء الاحتلال، وضمان تنفيذ الوعود (الأميركية)، بإعادة بناء الجيش اللبناني ووحداته القتالية بمبلغ عشرة مليارات دولار..
لكن المشكلة أن تلك “الجرأة” اللبنانية، المبنية طبعاً على النوايا الحسنة، لم تصمد طويلاً. فقد بات لبنان مدعواً مجدداً الى تقديم كشف حساب كامل بما فعله منذ وقف النار حتى اليوم، وتقديم جردة ب”موجودات” حزب الله، بما فيها ربما أسلحة الصيد، والاعلان عن جدول زمني لتسلمها في مهل واقعية.. تتقارب مع المهل المحددة لنزع سلاح حركة حماس في غزة.
هي خطوة كبرى الى الوراء، حيث لن يكتفي العدو فقط بنزع السلاح، بل بإشهار عملية تسلمه من الحزب، ونشر فيديوهات وصور ووثائق لم تكن مطلوبة في الفترة السابقة. وهو ما يبدو بمثابة إمتحان جديد لصدقية السلطة اللبنانية، وربما شرعيتها، أكثر مما هو إختبار ل”حزب الله” ومدى قدرته على المناورة بسلاح غير قابل للاستخدام ضد العدو، أو حتى المساومة على دوره في صد الخطر الآتي من الشرق السوري، حيث تمضي قدماً عملية نزع سلاح الحركات الخارجة على الدولة الإسلامية في سوريا، سواء كانت حركات كردية أو علوية أو درزية..
بيروت في 4 / 8 /2025