حتى ولو أن فلاديمير نابوكوف صاحب رواية لوليتا” التي ربما يمكن اعتبارها العمل القصصي الأشهر في القرن الـ20، وتحديداً بفضل الفيلم الذي اقتبسه عنها ، ثم لاحقاً عند نهاية القرن الـ20، وبصورة أقل أهمية بكثير، بفضل كتاب الإيرانية هزار نفيسي “قراءة لوليتا في طهران”، كان يعتبر نفسه أميركياً من أصل روسي يشعر بالحنين إلى بلده الأصلي ولغته الأم بين الحين والآخر، فإن نقاد الأدب الأميركيين، بخاصة، ظلوا يتعاملون معه بوصفه كاتباً روسياً حقيقياً عاش سنوات طويلة في بلادهم، ومن هنا كان لافتاً ليس فقط عنوان كتاب للمؤرخ الأدبي برايان بويد “سنوات نابوكوف الأميركية”، بل كذلك ما نشر لمناسبة صدور هذا الكتاب، قبل 30 عاماً من الآن، من دراسات عدة حول تدريس نابوكوف الأدب الأوروبي في الجامعات الأميركية، ولا سيما في جامعة “كورنيل”، حيث قدم لطلابه سلسلة محاضرات بالغة الأهمية جمعت لاحقاً في ثلاثة مجلدات وترجمت إلى عديد من اللغات، ولعل الأطرف من بين ما كتب من تعليقات حول تلك المجلدات، الذكريات التي نشرها الصحافي الأميركي إدوارد إبشتاين حول المرحلة التي كان يواظب فيها “من دون اهتمام كبير على أية حال” و”من طريق الصدفة وحدها أول الأمر”، كما قال، على حضور الدروس التي كان يلقيها نابوكوف، بخاصة منها دروسه حول الأدب الروسي “الذي كان يحفظه بجمله الحوارية عن ظهر قلب” و”يجد لذة في كل مرة نطق أمامنا بجملة من تورغينيف أو أخرى من تولستوي، أن يعيد نطقها بروسيته الأرستقراطية
نقد مغرض
وإذ يشير إبشتاين إلى أن نابوكوف حين يصل الأمر إلى مقارنة كان لا بد منها في أحيان كثيرة بين أدب تولستوي وأدب دوستويفسكي، كان يبدي تحيزاً واضحاً لصاحب “آنا كارينينا” و”الحرب والسلام” مصحوباً بقدر لا بأس به من العداء تجاه صاحب “الإخوة كارامازوف” و”الجريمة والعقاب”، وكان من الواضح كما نوه إبشتاين أن أرستقراطية تولستوي المتناغمة مع أصول نابوكوف التي لا تقل عنها أرستقراطية تلعب دوراً في ذلك التفضيل، ومهما يكن من أمر فإن نابوكوف كان من عادته أن ينسى ذلك كله حين يغوص في تحليل الأعمال الأدبية الروسية، بل كذلك أعمال أخرى لكتاب أوروبيين كان يدرس أعمالهم، ومنهم بصورة خاصة فرانز كافكا الذي يشغل فصولاً عديدة من مجلد آخر غير المجلد المخصص للأدب الروسي بين الثلاثة التي تضم دروس نابوكوف الجامعية.
نفور البداية متبادل
ويروي إبشتاين في ذكرياته التي نشرها في مجلة “نيويورك تايمز أوف بوكس” أن تعرفه على نابوكوف ودروسه، كان في عام 1954 حين “التحقت صدفة بسلسلة محاضرات تحت عنوان عام هو (الأدب الأوروبي في القرن الـ19) يلقيها أستاذ لم أكن سمعت به من قبل يدعى فلاديمير نابوكوف”، وفي ذلك الحين، لم يكن إبشتاين قد أضحى صحافي تحقيقات معروفاً كما لم يكن نابوكوف قد اشتهر بعد، وبفضل السينما تحديداً.
ويقول الطالب السابق إن أول ما لفت نظره حين دخل إلى قاعة المحاضرات، في اليوم الأول، وجود سيدة جالسة قبالة الأستاذ ذات شعر أبيض مهيب كان الأستاذ يعرفها بأنها مساعدته “لندرك لاحقاً فقط أنها في الحقيقة زوجته فيرا”. ويضيف إبشتاين أن الأستاذ أفهم طلابه، منذ اليوم الأول، أنه ليس ثمة مجال لرفع الكلفة بينه وبينهم على الطريقة المعهودة في التدريس الجامعي الأميركي “فهذا أمر لا أستسيغه على الإطلاق”، وانطلاقاً من هنا “استنكف نابوكوف تماماً عن مناداتنا بأسمائنا مكتفياً بمناداتنا تبعاً لأرقام مقاعدنا ومن هنا كان اسمي أنا 121″، وعدا عن ذلك “قال لنا إنه ليس لديه أية قواعد في التعامل معنا عدا عن قاعدة واحدة يريد أن يتمسك بها وهي أننا ممنوعون منعاً باتاً من مغادرة الصف قبل انتهاء المحاضرة. ونحن ممنوعون، بالتالي، حتى من الذهاب إلى المرحاض إلا إذا جئنا بشهادة موقعة من الطبيب”.
ذوبان الجليد
وتالياً في مقاله، سيروي إبشتاين حكايته الطريفة المتعلقة بكيف أن الجليد قد زال بينه وبين الأستاذ ليصبحا لاحقاً صديقين “خلال واحدة من محاضراته الأولى، طلب إلينا الأستاذ نابوكوف أن نقدم وصفاً حياً، بل مسهباً لمحطة القطار التي تلتقي فيها آنا كارينينا بفرونسكي في رواية ليون تولستوي الكبرى التي يحمل عنوانها اسم تلك السيدة، ووقعت في مأزق أنا الذي لم أكن في الحقيقة قد قرأت الرواية، لكني تمكنت من أن أنفد بجلدي، إذ تذكرت أنني كنت قد شاهدت قبل أيام فيلماً حققه الفرنسي جوليان دوفيفييه عن الرواية، فاستعدت الفيلم في ذاكرتي ورحت أصف محطة القطار واللقاء فيها وصفاً لا يخلو من حيوية، وكانت المعجزة أن الوصف قد راق لنابوكوف حتى وإن كان قد فهم لعبتي، ومن هنا، لم يكتف لفرط إعجابه بأن يعطيني أعلى علامة، بل انتحى بي جانباً وسألني عما إذا كان يمكنني أن أقدم له خدمة دائمة مقابل 10 دولارات في الأسبوع، وكانت الخدمة تقوم على أن أشاهد، في كل أسبوع، الأفلام الأربعة الجديدة التي تعرض في الصالات بدءاً من كل أربعاء وخميس، ثم أصفها له صباح يوم الجمعة كي يقرر بناءً على ما أصفه أية أفلام سيشاهد في العطلة الأسبوعية”.
ويقول إبشتاين إن تلك كانت واحدة من أجمل الذكريات التي لا تزال في باله عن الفترة التي كان فيها طالباً في “كورنيل” يدرس الأدب الأوروبي، في القرن الـ19، عند ذلك الأستاذ الذي سيعد لاحقاً واحداً من كبار روائيي القرن الـ20 “بخاصة أنني كنت أتمتع بصداقته لأكتشف أن صورته الحقيقية تختلف تماماً عن تلك التي أحب لنا أن نعتقدها أول الأمر، ناهيك بأنني، بفضله، صار بإمكاني أن أشاهد أفلاماً عدة، كل أسبوع، وهو ما جعلني محباً حقيقياً للسينما”.
ريادة جامعية
والحقيقة أن هذه الذكريات، عدا عن أنها ترسم صورة من الداخل لذلك الكاتب الكبير، تذكرنا بأنه إلى كونه مؤلف ما لا يقل عن دزينة من الروايات، وإلى كونه جامع فراشات كان ينفق على جمعها واصطيادها مبالغ طائلة ووصل الأمر هنا إلى حد أن ثمة في عالم الفراشات نوعاً كان هو مكتشفه، ويعرف حتى اليوم باسمه، كان باحثاً مجداً في تاريخ الأدب من دون أن يعتبر نفسه أكاديمياً موضوعياً في هذا المجال، والحقيقة أن ما جاء أول هذا الكلام حول تفضيل تولستوي على دوستويفسكي تفضيلاً يخرج عن سياق الواجب التعليمي الجامعي، يكاد ينطبق على آراء كثيرة كان نابوكوف يوردها بصدد عدد كبير من أدباء أوروبيين حلل أعمالهم ودائماً من موقع ذاتي لم يدع له أية علمية على الإطلاق، بل يقول بعض الذين حضروا دروسه من غير طلابه المعتادين، إنه كان لا يتورع خلال إلقاء محاضرة من محاضراته عن شتم هذا الكاتب أو تلك الرواية لكاتب آخر بلغة لا تخلو من بذاءة ثم يضحك مبتسماً في نوع من الاعتذار قائلاً للطلاب: “لا عليكم أن تحذفوا هذا وتعتبروا كأنني لم أقله، أليس كذلك؟”، وعن هذا بالتحديد يقول صاحب كتاب “فلاديمير نابوكوف: السنوات الأميركية” إن الطلاب الذين قصدوا قاعة المحاضرات في جامعة “كورنيل” للإصغاء إلى ما يمليه نابوكوف سرعان ما اعتادوا أسلوبه الطريف هم الذين لم يكونوا بعد قد دخلوا عالم سنوات الـ60 الذي رفعت فيه الكلفة تماماً بين الأستاذ وتلاميذه، ومن هنا تعاملوا مع الأسلوب الجديد والمليء بالتناقض الذي جاء به الأستاذ الروسي كنوع من الريادة ودرس في الحرية التي لا تكتسب إلا بالتدرج، وتحديداً الحرية التي تبدو أول الأمر نوعاً من الصرامة المثيرة للنفور لتنتهي كنوع من أسلوب تتعايش طرافته مع أهميته خالقاً تلك العلاقة الإنسانية التي كانت الجامعات الأميركية رائدة فيها حتى ولو من طريق أستاذ روسي مستعد لدفع 10 دولارات لواحد من تلامذته كي يشاهد أربعة أفلام في الأسبوع.