–
كُثر من كتبوا أو قالوا عن زياد الرحباني، في حياته وبعد مماته، إنّهم يحبّون أغانيه وموسيقاه، ولكنّ مواقفه السياسية لا تعجبهم. يطرح هذا سؤالاً وجيهاً: هل يمكن الفصل بين زياد الفنّان وزياد الموقف السياسي، إذا ما نُظر إلى الأمر من أوجهه المختلفة، في سياق المرحلة التي برزت فيها موهبته، وتألقت فيها تجربته؟ هل كان سيتحقّق لزياد الحضور الفنّي والشعبي الذي أصبح له (وسيبقى) بعد رحيله جسداً من الدنيا، لو كان له موقف آخر غير الذي كان له وتمسّك به حتى رمقه الأخير، وذاد عنه بما عُرف عنه من صراحة ووضوح، وبسخريته التي اعتادها محبّوه، وقرّبته من قلوبهم؟
الإجابة الراجحة، في تقديرنا، هي النفي، فالقاعدة الواسعة من محبّيه أحبّت مواقفه مثلما أحبّت فنّه. ورث زياد عبقريته الموسيقية التي لا يجادل أحد في أمرها من عائلته، لكن اشتباكه بالحياة مدافعاً عن القيم الخيّرة التي آمن بها جعله قريباً من الناس. كان لسان حالهم بكلمات أغانيه وحوارات مسرحياته وبرامجه الإذاعية وببساطته وزهده، وبما يجاهر به من مواقف من دون مواربة، غير آبه بردّات الفعل، متسقاً مع نفسه، من دون أقنعة، فما يقوله في حياته اليومية، وفي محيط معارفه القريبين، هو ما تقوله كلمات أغنياته ونصوص مسرحياته وحواراته الإعلامية، بل إنّه استلهم كلمات كثير من أغانيه (ذاع صيتها وأحبّها الناس) من تجارب حياته الشخصية جدّاً، وإخفاقاته العاطفية التي لم يجد حرجاً في الإفصاح عنها.
كان زياد متمرّداً منذ صباه الباكر، تمرَّد أولاً على بيئة العائلة التي نشأ فيها، ثم تمرّد على المحيط الذي نشأ فيه، وانتقل إلى بيروت الغربية في ذروة الحرب الأهلية في منتصف السبعينيّات، ليكون في قلب البيئة اليسارية التي ناسبت هواه الفكري والسياسي الذي انحاز إليه باكراً، مُعبّراً بالكلمة واللحن والموقف عمّا يراه صحيحاً، وظلّ حتى رحيله قريباً من موقف الحزب الشيوعي اللبناني، رغم تراجع دور اليسار وصعود تيارات جديدة، ورغم ما شعر به زياد من إحباط جرّاء ما آلت إليه أوضاع وطنه لبنان والوضع العربي عامّة.
شرح زياد، في أحد حواراته الكثيرة، كيف نشأ عنده هذا الانحياز الفكري، من دون أن يدلّه عليه أحد، أو يقرأ عنه في كتاب، فعندما كان تلميذاً في أولى سنوات دراسته الابتدائية، يأخذه سائق العائلة إلى المدرسة كلّ صباح، لاحظ أنّ صبيّاً في مثل عمره يستغلّ وقوف السيارات عند إشارة المرور، فيدقّ على زجاج السيارات، بما فيها السيارة التي تقلّ زياد إلى مدرسته، وهو يقول متوسّلاً ومتسوّلاً: “بدّي مصاري”، ما جعل زياد يتساءل عن التفاوت الاجتماعي والطبقي في المجتمع الذي يحمل طفلاً في مثل عمره على الوقوف في صقيع البرد راجياً الناس مساعدته، فيما هو ينعم بدفء السيارة التي تقلّه إلى مدرسته كلّ صباح. وسيتجلّى هذا الشعور في أغانٍ لاحقة له مثل “الحالة تعباني يا ليلى”، و”أنا مش كافر”. وفي هذه الأخيرة بالذات، بدا زياد متأثّراً بأسلوب أحمد فؤاد نجم وأداء الشيخ إمام، وحين نسمع اليوم كلماتها التي كتبها زياد في 1974، ونحن نرى ما يعانيه أهل غزّة من تجويع وحصار وخذلان، نكاد نشعر بأنّه كان، يومها، من حيث لا يعلم، يتنبأ بالأسوأ المقبل الذي بتنا فيه، وليس هذا بغريب على زياد الذي كتب أغنية ولحّنها أدّاها رفيقه وصديقه جوزيف صقر في مسرحية “نزل السرور”، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، تقول بعض كلماتها: “كنّا في أحلى الفنادق/ جرجرونا عالخنادق”، وهذا ما حدث بعد عامَين فقط حين اندلعت الحرب، وفقدت بيروت دورها مركزاً مالياً وسياحياً، لتصبح ساحة قتال.
صحيحٌ أنّ زياد كان ابن زمنه ومرحلته، لكنّ بصيرته البعيدة جعلت ما قاله وكتبه عابراً للزمن. هذا يصحّ أيضاً على أغنيته “يا زمان الطائفية”، الوباء الذي دمّر النسيج الوطني في لبنان: “هَي بلد؟ لا مش بلد.. هاي قرطة عالم، مجموعين؟ لا.. مقسومين؟ إيه”، ألا يصحّ هذا اليوم على سورية والعراق وغيرهما من بلدان عالمنا العربي المنكوبة، بل أليس عنوان المسرحية التي غنّى فيها جوزيف صقر تلك الأغنية “فيلم أميركي طويل” عنواناً لمرحلة طالت؟ ألسنا اليوم وغداً، يا زياد، ضحايا الفيلم الأميركي الطويل، الذي حذّرتنا منه باكراً؟