بدأتُ أفهم أنّ كوني سوريّة لا أملكُ إقامة صالحة، هو نقطة ضعف في لبنان، فأنا لا أستطيع حتى أن أشتكي للشرطة في حال تعرضت للتحرش أو التعنيف خوفاً من اعتقالي أنا، لا المذنب بحقّي.

كُتب هذا النص باسم وهمي بسبب الخوف.

مثل اليوم ومنذُ سبع سنوات وصلتُ إلى لُبنان هرباً من سوريا بكلِّ ما تمثلّهُ، لم أملك حينها لا إلّا ثلاثمئة دولار والكثير من الحقائب والخوف. في أوّل سنة لي في لُبنان، لم أكن أفهم تماماً هذه البلد، في الواقع لم أعلم أنّ لكُل منطقة حزبٌ وطائفة، في الواقع لم أعلم كيف يمشي القانون ولا معنى سيرفيس و(فان رقم )٤.

لم أكُن أُعير اهتمامي لأيّ شيء، كنت هاربة فقط، وخوفي مما هربتُ منه في سوريا، أكبر من خوفي من وجودي في بلدٍ أجهلهُ؛ على الرغم أنّي كنت أزورهُ كلّ يوم جُمعة مع عائلتي.  في السّنة الأُولى لإقامتي في لبنان بدأتُ أعرف المحيط وأسماء الأحياء، مار مخايل وفرن الشبّاك، مخيّم شاتيلا وعين الرمّانة. لم أكُن أعلم ولم أفهم سياسة لُبنان وقوانينها. لكنّني أذكُر حين بدأ الخوف يزداد ويُصبح مُلحّاً.

عملتُ كنادلة في مطعم للمأكولات السريعة، كنتُ أتعرّض للتحرّش من صاحب المطعم، مرّةً أغلق باب مكتبه، وحبسني داخله وبدأ بتقبيلي، لم أعلم كيف أبتعد، فبدأت أهربُ منه ضمن جدران الغرفة الأربعة، إلى أن هدّدتهُ بالصراخ، ففتح باب المكتب وتركني أذهب.

بدأتُ أفهم أنّ كوني سوريّة لا أملكُ إقامة صالحة، هو نقطة ضعف في هذه البلد، فأنا لا أستطيع حتى أن أشتكي للشرطة كوني لا أملكُ أوراقاً نظاميّة.

تركتُ العمل، وبدأتُ بالعمل في مطعمٍ فاخر في بادارو، في تلك الفترة كنتُ بأسوأ حالاتي النفسيّة، وتعرّضتُ للتحرّش، وللضرب في ليلة من الليالي من قبل “زميلي” في العمل. لم أشتك، لأن صاحب المطعم أعطاني تأميناً في العمل بعد إصابتي تلك الليلة، ولكنّه قال لي أن شرطه لُيعطيني هذا التأمين، بأن أقول بأنني وقعتُ من أعلى السلالم.

وفي ذات العام حصَلت أشياءٌ كثيرة، من ضمنها تحرّش سائقي السرافيس، وازدياد خوفي بمجرّد سماعِهم لهجتي السوريّة. خوفي هذا أوصلني إلى إتقان اللهجة اللبنانيّة، التي ما زلتُ إلى اليوم أتحدّثُ بها من اللحظة التي أخرجُ بها إلى العمل، استخدمها في الحديث مع سائقي التاكسي وعمّال توصيل الطلبات، هذه اللهجة درع هشّ أحمي نفسي به، لمعرفتي بأنني في خطر، لُمجرّد كوني سوريّة.

مررتُ بمواقف كثيرة ولديّ قصص كثيرة لا تنتهي عند العُنصريّة والتحرّش والإساءة من مُختلف الأشخاص وخلفيّاتُهم السياسيّة والثقافيّة، ولكن ما دفعني أن أكتُب هذا، هو الخوف. الخوف الذي نما طوال سنين عديدة، وواجهته جزئياً في ١٧ تشرين، حين  شاركت بالثورة في لبنان، واختبرت الحريّة، وحملتُ لافتة اشتم فيها نظام الأسد، وأشملُ فيها كل الأنظمة الديكتاتوريّة القمعيّة. وبعدما رأيتُ كيف كانت ردّة فعل النظام اللبنانيّ على انتفاضة الشعب ضده، كبرَ خوفي أكثر.

كبر خوفي أكثر بعدما رأيتُ جاري يُضرب أمامي من جارنا اللبنانيّ فقط لأنّهُ حاول منعه من ضرب زوجته، حاولت التدخل، لكن ازداد خوفي أكثر عندما قام من ضرب زوجته، بإرسال أمن الدولة إلى منزلي، ليسألوني عن أوراقي في منتصف الليل، وهكذا ازداد خوفي أكثر وأكثر.

تحوّلت إلى إنسانة صامتة، لا أُعلّقُ على سياسة لُبنان أو سوريا، لأننّي خائفة. خائفة من كوني سوريّة، خائفة من كوني سوريّة معارضة للنظام، خائفة من سيطرة الأحزاب على جميع مناطق بيروت، وخائفة من ارتباطاتهم بنظام الأسد.

تعلّمتُ كيف أتجاهل وأصمت، لا خوفاً مما قد يحصل هنا، بل خوفاً مما سيحصل عندما أعود. كنتُ في فرع أمن من قبل. وأعلمُ عن تجربة، كمّية الوحشيّة التي من الممكن أن أتعرض لها هُناك، وأعلمُ كميّة التهم التي ستُلفّق لي هُناك.

لا أتدخّل في السياسة اللبنانية والسوريّة. أعترف بأنّني أخاف، لأنّ الخوف هو أقوى شعور في الوجود، عندما نكون خائفين، نكون مستعدّين أن نفعل أو نقبل أي شيء طالما لن يوصلنا إلى ما نخافه، نقبل حتّى بأنّ نُشيطن من النظام اللبناني، ونقبل أن يكون هناك تطبيق للإبلاغ عنّا، نحن الهاربون من الموت لمجرّد عدم امتلاكنا أوراقاً سارية المفعول، نقبل أن نكون شمّاعة تُعلّق عليها جميع مشاكل لُبنان.

أعترف أن أكثر ما يُخيفني في الوجود ليس الحرب ولا الجوع ولا البرد ولا الموت، بل قُدرة إنسان على سلبِك صوتك وقدرتهِ على الدخول والخروج من وإلى منزلك ومدرستك وجامعتك وعقلك. قُدرة إنسان آخر (يرتدي بزّة عسكريّة) على تعذيبك باسم الوطن، أذكر هنا كلمات أغنية الدرويش، هاني السواح، “كبّيت مفتاح بيتي.. لاتذكّر أنه ما حدا بيبتزني بالبيت”.