بما أنني أقارب لقاءنا خلال اليوم، واليومين التاليين، كما خُطِّط له أن يكون؛ أي بوصفه منتدًى أكاديميًا للدراسات ذات الصلة بفلسطين، أجد من المناسب أن أستهلّ كلمتي بالملاحظة التالية:
ليست الدراسات ذات الصلة بفلسطين تخصّصًا قائمًا بذاته، فهي تتداخل مع العلاقات الدوليّة والدراسات الإقليميّة والتاريخ العالمي والإقليمي، فضلًا عن التخصّصات المختلفة في العلوم الاجتماعيّة. وقد حققت كما أشرت في كلمتي في هذا المقام في العام الماضي، تقدمًا كبيرًا لناحية استقبالها في المؤسّسات الأكاديميّة المرموقة، بما في ذلك الجامعات والدوريات وغيرها في مختلف البلدان.
ولكن لا يمكننا تجاهل الخطر المحدق بإنجازاتها في هذه المرحلة نتيجةً لمحاولة جماعات الضغط الإسرائيليّة ورأس المال المرتبط بها واليمين المتحالف معها وبعض الأكاديميين غير المسيّسين المرعوبين من تهمة العداء للسامية فرض مكارثيّة جديدة على المؤسّسات الجامعية في الغرب؛ وذلك باستغلال أجواء تعرّض إسرائيل لهجمات المقاومة الإسلامية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحرب الإبادة الإسرائيليّة التي تُشن على قطاع غزّة حتى اليوم، وإذكاء حُمّى مكافحة الإرهاب تارةً، ومكافحة اللاساميّة تارةً أخرى، أو جمعهما معًا. فقلما يُدقَّق في صحة استخدام المفاهيم والمصطلحات في زمن الهيستيريا الحربية التي تُسخَّر للتغطية على مراجعة منجزات حريّة التعبير والحريات الأكاديمية في الجامعات وتخفيض سقفها. إنها الحرية الأكاديمية التي طالما ضاق بها اليمين الشعبوي. وتتطلّب مواجهة هذه الحملة إرادةً وعزيمةً لا تفتران، والتحلي بالحكمة والتنسيق مع القوى المنحازة إلى العدالة في عالمنا، وجميع أولئك المتمسكين بالحريات المدنية والأكاديمية في الدول الديمقراطية.
لن أتناول في هذه الافتتاحية بالتفصيل ملابسات استحضار تهمة اللاسامية الجاهزة ضد نُقّاد إسرائيل، فلا يتوافر وقت لمناقشةٍ تفي الموضوع حقه، ولكن يصعب تمالك المرء نفسه عن الإشارة إلى واقعة غريبة؛ هي اضطرار حملة الدفاع عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إلى مواجهة قوى تُمثّل الاستمرار الفعلي للاساميّة كما عرفتها الحضارة الغربيّة. لقد أصبح عدوُّها الدوري الذي “يلوث” الحضارة الأوروبية في العصر الحالي هو العربَ والمسلمين، ونموذجها المفضّل عن الدولة العسكريّة القوية هو إسرائيل. يصعبُ تفويتُ الإشارةِ إلى هذه المفارقة العجيبة المتمثلة في تحول كارهي اليهود سابقًا إلى محبي إسرائيل حاليًا، وامتلاكهم الجرأة الكافية لاتهام المدافعين عن حقوق الإنسان في فلسطين باللاسامية.
أنتقل إلى موضوعنا
صحيح أن تعقيد قضيّة فلسطين يعود إلى تداخلها مع قضايا المسألة اليهوديّة في الغرب، وما سبق أن سمَّيتُه المسألة العربيّة في الشرق، لكنّ استمرارها هذه المدة الطويلة دون حل أدى أيضًا إلى تداخلها مع قضايا إقليميّة ودوليّة يصعب حصرها. وقد طرح العدوان على غزّة تحدياتٍ جديدةً على مستوياتِ القضيّة الفلسطينيّة كلها، وأيضًا على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية، والأبعاد السياسية والثقافية والقانونية، التي تتداخل معها.
وكشفت الحربُ، على نحوٍ أوضح من أيّ وقتٍ مضى، الطبيعةَ الاستعماريّة الاستيطانية، ليس فقط للعلاقة بين الحركة الصهيونيّة والشّعب الفلسطيني، وإنّما لطابع دولة إسرائيل ذاتها.
لقد تصرّف المجتمع الإسرائيلي مثل قبيلة موحّدة، كما في جميع الأزمات الكبرى، بحيث تشدُّه عصبية نابذة لأي رأي مخالف. وطغت غريزة الانتقام والثأر على تفكيره؛ فالسكان الأصليون يجب أن يَدفعوا ثمن ما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر جماعةً، لكي يتعلّموا الدرس، وهم لا يفهمون سوى لغة القوّة! وكان الطّبيعي أن يختفوا، أن يُغادروا؛ لأنّ العقلية الإحلالية لم تسلِّم يومًا بوجود من بقي منهم، وتسامحُ الدخيلِ مع وجود الأصيل على الأرض مشروطٌ بسلوكٍ مقبول من طرفه. لا يتقبّل المحتل أيَّ مظهر قوّةٍ أو ثقة بالنفس يُظهِرُهما السكان الأصليون. إنّ أي خرق لقواعد هذا السلوك يُرَّد عليه بالعقوبات الجماعيّة؛ يبدأ ذلك بهدمِ بيتِ عائلةِ من يُقْدِم على عمليّةٍ مُسلّحة ضد الاحتلال، ومعاقبة القرية أو المدينة التي خرجت منها جماعةٌ مسلّحة، مرورًا بتجميد تراخيص العمل في إسرائيل، أو إغلاق المناطق المحتلّة برمّتها، وصولًا إلى تدمير قطاع غزّة وجعله غير صالح للحياة بالتفاصيل التي تعرفونها. فعمليات التدمير والإبادة في قطاع غزة هي عبارة عن تمادي هذا النهج إلى درجة التوحش.
يعتمد الاحتلال في نهاية المطاف على العنف. وأيُّ توانٍ في ممارسته يؤدي إلى انكشاف مجتمع المستوطنين أمنيًا؛ ما يضطر الدولة إلى استخدام العنف أضعافًا مضاعفة. فتُعبَّأ كل الطاقات لصالح المعركة بوصفها ردًا على تهديد وجودي. والتهديد الوجودي يشملُ الوجودَ كلَه، ويتطلب التعبئة الشاملة، العسكرية والسياسية والثقافية والأكاديمية والإعلامية في مواجهته وتتغلغل التعبئة في المجال الخاص لإنتاج نظام شمولي يحول الأفراد إلى مجرد جنود. وربما تابعتم استخدام حتى المناسبات الخاصة في المعركة، وكيف يقدِّم جنديٌ تفجيرَ مبنى في غزة إلى شريكته في طلب مصورٍ للزواج منها، أو هديةً في عيد ميلاد ابنته. تشكّل هذه النماذج التي يعبر فيها حتى عن الحب بواسطة الكراهية، وتتعكسر فيها أكثر المناسبات حميمية، وتختلط فيها الفاشية بالسماجة الاستعراضية تحديًا لمن يعدُّ بحثًا مقارنًا، إذ لا يرجَّح أن يجد لها نظيرًا.
لا يمارَس الثأر والانتقام لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق اللذين مسَّت بهما عمليّة كتائب القسام في ذلك اليوم فقك، حافرة في الذاكرة صورًا مثل صورة الفلسطيني الذي يعتقل جنديًا إسرائيليًا أو يُخرجه من الدبابة بالقوة، ما يقلب نظام الأشياء في عالم المستوطنين رأسًا على عقب، بل يمارَس أيضًا عن سبق الإصرار تطبيقًا لاستراتيجيّة مفادها تلقين الفلسطينيين وجيرانهم درسًا لا يُنسى. ومن هذه الناحية، ليس الضرر اللاحق بالمدنيين الفلسطينيين عرضيًا أو جانبيًا، بل هو من أهم أهداف الحرب؛ ما يؤدي حتمًا إلى الإبادة بتعريفها الدولي.
في خدمة هذه الحملة على مجتمع السكان الأصليين تصبح كل الأساليب مباحة، بما في ذلك التفنّن في الكذب وشيطنة الآخر، والاستخدام المغرِض والسينيكي لاستعارات المحرقة النازية التي وقعت في مكان وزمان آخرين وحضارة أخرى، إلى درجة أنّ جنودًا إسرائيليين قوبلوا في الإعلام في طريقهم إلى غزة وهم يقولون إنهم يشعرون بأنهم يدخلون إلى معسكر أوشفتس لمحاربة النازيين، فأساؤوا لضحايا النازية، وقللوا من شأن النازية ذاتها، وذلك في الوقت الذي يشاركون فيه بأنفسهم في حرب إبادة جماعية تشن على معسكر اعتقال كبير لا ملجأ فيه ولا مفر مما تمطره على الناس أحدث القاذفات الحربية. والجو العام السائد هو التشجيع على ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين لا المحاسبة عليها، وهذا خلافًا لادعاء القاضي أهرون باراك في تعقيبه على قرار محكمة العدل الدولية، إذ لا يسود قانون ولا قضاء في إسرائيل في زمن الهستيريا الحربية.
تتعرى على نحو سافر النظرة الفوقية العنصرية إلى السكان الأصليين التي موّهها مؤقتًا تسامح القوة في أزمنة الرخاء والاسترخاء، وتصعدُ من جديد رؤية الآخر بوصفه تهديدًا ومشكلة أمنية. وهذه لا تتطلب القوة الرادعة والرقابة الكاملة فحسب، بل أيضًا تعليم المستعمَر الذي لم يهجَّر وتدريبه على قبول واقع الأبارتهايد، حتى لو تتطلب ذلك فرض العقوبات الجماعية القاسية بوصفها أسلوبًا في التربية، يعقبها تغيير مناهج التدريس بحيث يتحول فيها الدخيل إلى أصيل، وبحيث تقتلع فكرة مقاومة الظلم من العقول والقلوب.
وفي كل مرة يُصعَقُ حكام إسرائيل وحلفاؤهم من فشل هذه السياسات، ومن أنّ كل جيل فلسطيني يُنتج ثقافتَه المناهضة للاحتلال وأساليبه في مقاومته، فلا يستنتجون من ذلك ضرورة تغيير السياسة جذريًا للتعايش مع الشعب الفلسطيني على أساس العدالة والمساواة، بل تطوير أساليب القمع وتعزيز قوة الردع. وتتيح “الديمقراطية” الحرية الكاملة والتعددية في مناقشة وسائل السيطرة وتنجيعها.
وعلى مستوى العلاقة بين الدول العربيّة وقضية فلسطين، أكدت الحرب على غزة، مرّة أخرى، ما سبق أن كشفه حصار بيروت عام 1982، وحصار المقاطعة في رام الله عام 2004، وحرب 2006 على لبنان، والحروب المتتالية على غزّة.
ليست قضيّة فلسطين قضية كل دولة عربية على حدة. بعض الدول تتأثر بها أكثر من غيرها، ولكنها قضية العرب المركزية بوصفهم عربا بوجود مشروع عربي لا بوصفهم دولا منفصلة. قد نختلف على تعريف المشروع العربي، وعلى حقيقة وجوده أصلًا في يوم من الأيام، أو على تحديد موعد انهياره إذا وجد، هل كان ذلك يوم وُقّعت اتفاقيّةُ كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل؟ أم يوم اجتاح العراقُ الكويت؟ أم قبل هذا وذاك في مرحلة الحرب العربية الباردة قبل حرب عام 1967؟ الأمر الواضح هو أن لا علاقة لمواصلة التوقّعات والخيبات واللوم والهجاء بواقع الدول العربية؛ إذ ليس هناك في الواقع فاعلٌ يمكن تسميته النظام العربي إلا شكليًا، وما يوجد في الحقيقة هو أنظمة عربيّة، لديها أجندات داخلية وخارجية من دون مفهوم أو حتى تصور لأمن قومي عربي. ولو كان هناك مفهوم كهذا، لما كان الحال ما هو عليه اليوم في سورية واليمن وليبيا والسودان ويمكن إضافة دول أخرى، وليس في فلسطين فقط.
كانت إسرائيل تكرر الزعم أن القضيّة الفلسطينيّة ليست جوهر الخلاف مع الدول العربيّة. وكانت امتداداتها داخل الإدارات الأميركيّة تؤكّد أنّ القضيّةَ الفلسطينيّةَ ليست مهمّةً بالنّسبة إلى الدول العربيّة، وأنّ تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ممكنٌ بتجاهل هذه القضية. وفي كل موجة تطبيع مع إسرائيل، أثبتت الدول العربية ذلك بالفعل.
للأسف، بدأنا نسمع ونقرأ مصطلح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وثمة محاولات لتسريبه إلى الوثائق الرسمية العربية. وإذا كانت دول عربية قد تخلت عن مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي فهذا شأنها، أما ان تستبدل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقضية فلسطين، فهذا أمر آخر. ليس الصراع في فلسطين نزاعا بين طرفين، بل قضية تحرر وطني، هي القضية الفلسطينية.
لماذا نستمر إذًا في التوقّع والتطلّع الذي يليه الشعور بالإحباط والغضب؟ غضبنا خلال حصار بيروت 1982، حين لم تُحرك العديد من الدول العربيّة ساكنًا لفك الحصار عن منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك حين لم تُحرّك ساكنًا عندما حوصرت المقاطعة في رام الله، وكان ذلك مقدمة لاغتيال زعيم فلسطيني وعربي هو ياسر عرفات، من جانب قوّة استعماريّة محتلة. وأحبطَنا سلوكُ غالبية الدول العربية عام 2006 حين قامت دول عربيّة بلوم المقاومة اللبنانيّة صراحة وتحميلها المسؤولية عن الحرب. لماذا نُصرُّ إذًا على التمنيات التي تجر الخيبات؟ أهي مازوخية نستمتع بها؟ هذه الانفعالات طبيعية في رأيي بسبب عناد الهويّة العربيّة التي تجمعنا، وإصرارها على النبض بالحياة، كما تفعل في ملاعب كرة القدم، على الرغم من التحوّلات الدوليّة والإقليميّة.
وربما يغضب بعضنا لأنّه يعتقد أن بعض الدول العربية تتصرّف خلافًا لمصلحتها الحقيقية حين تُطبّع العلاقات مع إسرائيل. يحزنه أن الدول العربية لا تعرف مصلحتها ويجب إرشادها إليها. لا يُحسِن هؤلاء التمييز بين الدول الأنظمة. والأنظمة الحاكمة عمومًا أدرى بمصلحتها من نقّادها، وليس من عادتها أن تلبي توقعاتهم منها.
وقد يكون سبب الأمل الذي لا شفاء منه أن الرأي العام العربي عمومًا متضامنٌ مع فلسطين؛ وليس فقط مع فلسطين، بل مع فعل المقاومة أيضًا، وهو رافضٌ لأي تطبيع مع إسرائيل، بغضّ النّظر عن درجات الوعي بما يجري. فليس جميعُ الناس محلّلين. قد يكون هذا التضامن بين الشعوب خميرةً للمستقبل كما أصبح بعد حرب 2009 على غزة، ولكنّه في حدِّ ذاته لا يُغيّر على نحو فوري سلوك الحكومات الناجم عن شبكة تربط بنيةَ كلِّ نظام على حدة في علاقات إقليمية ودولية، وإن كانت تضطر إلى مسايرة الحراك الشعبي خطابةً.
من هذه الناحية، من المفيد أن نُمعن النّظر في الفرق بين حركات التضامن الإنساني مع قطاع غزة المتواصلة في بعض الدول الغربية وذات النّفس الطويل، والتي تتصاعد ولا تتراجع، وبين ثورات الغضب التي تصعد في بلداننا ثم تخبو. لا أشير هنا إلى مشكلة ثقافيّة، فربما كان العامل الرئيس في هذا كلّه هو الخوف من تبعات المشاركة في أي حراك شعبي. فقد أصبح حتى التضامن مع فلسطين في بعض بلداننا محظورًا. وليس لدي الوقت اليوم تحديدًا للحديث عن طبيعة حركات الاحتجاج العربيّة وعفويّتها، فأكتفي بالإشارة إلى هذه المسألة: يمكن أن تُؤثر حركات الاحتجاج العربيّة المتضامنة مع فلسطين لو كانت مستمرّة ومثابرة ومنظمة، ويمكنها أيضًا أن تؤثّر في مواقف الدول الغربيّة المعنيّة باستقرار الأنظمة الحليفة لها في المنطقة. وحاليا، ثمّة تناسب عكسي بين تقلّص الحراك الشعبي وتفشي المكلمة على وسائل التواصل واتخاذها طابع المزايدة في استعراض المشاعر من خلال طوفان المرئيات الواردة التي تصور آلام الناس ومعاناتهم، في مقابل تراجع الفعل السياسي المؤثّر في الفضاء العام. وهذا أمرٌ يجب أن نتعامل معه نقديًّا بكلِّ ودٍّ ومحبّة.
على كل حال، ما أريد قوله الآن هو أنّ الواقع العربي المرير المتمثل في عدم استعداد الدول العربيّة المطبّعة مع إسرائيل حتى للتظاهر بالغضب، مثل استدعاء سفرائها بما تتضمنه هذه الخطوة من تمويه لحقيقة العلاقات، وعدم استعداد بعض الدول التي لم تُطبّع بعد للتخلي عن فكرة السلام المنفرد مع إسرائيل من دون حلٍّ عادلٍ لقضيّة فلسطين، هو معطًى يجب أن يؤخذ في الحسبان ضمن حسابات النضال واستراتيجيات المقاومة. إنّ المشاعر القوميّة والوطنية والتوقعات النقدية، وإن تبعتها خيبات الأمل شيءٌ، والحسابات الاستراتيجيّة العقلانيّة التي تنطلق من معطيات واحتمالات هي شيءٌ آخر.
وفي الحالتين لا يوجد إطلاقًا أي مبرر لعدم تحدي الحصار المفروض على القطاع بالإغاثة والدعم الإنساني وتنفيذ القرار الذي ينص على ذلك والذي صدر عن القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض.
على مستوى العلاقة العضويّة وشبه العضويّة بين إسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية، كشف العُدوان على غزة أنّ هذه العلاقة تقوم على المصالح، ولا تقتصر عليها. وقد شهدنا سلوك المؤسسات الإعلامية الكبرى في التعامل بمعايير مزدوجة ليس فقط مع القضايا السياسية، بل حتى مع الأمور الإنسانية مثل معاناة الفلسطينيين والإسرائيليين. وسوف يلاحق عار عدم فعل المزيد للتواجد الصحفي المباشر في غزة لمرافقة الحدث الكبير مهنيًا وتغطية الجريمة الكبرى المستمرة فيها هذه المؤسسات إلى الأبد. سوف يلاحقها حتى بعد أن فرضت حرب الإبادة عليها نشر أخبار أكثر توازنا في الفترة الأخيرة.
لأول مرة تعمل إسرائيل بهذه القوة على فرض رؤيتها للمنطقة وتصنيفها الأصدقاء والأعداء، بما في ذلك شيطنة مؤسسات أممية مثل وكالة غوث اللاجئين، على دول ومجتمعات كاملة بما في ذلك مؤسساتها الجامعية والإعلامية إلى درجة تخوين من يخالفها أو معاقبته بما يشبه الحرمان في العصر الوسيط. وتتحمل الإدارة الأميركية مسؤولية كبرى في بلوغ إسرائيل هذا المبلغ من الغطرسة. من المرجح أن يضيق الناس ذرعا بهذا الأسلوب وأن تنقلب الأمور عليها في مرحلة ما قادمة، فلا يعقل ان تستمر هذه السطوة المخالفة للعقل والمنطق.
لقد طورت إسرائيل في علاقتها مع الدول الغربيّة، ولا سيّما الولايات المتحدة، مصالح مشتركة لا تقتصر على تلقي الدعم، كما طوّرت شبكة علاقات تحتفظ فيها ببعض الاستقلاليّة في صنع القرار بحيث تكون قادرة على أن تفرض على دول الغرب مواصلة دعمها على الرغم من الاختلاف في الرؤية بوصفها حليفًا لا بديل منه.
من نافل القول أنّ للدول الكبرى مصالحَ واهتمامات مختلفة في المنطقة، وأنّ إسرائيل تعد حليفًا مستقرًا وقوةً عسكريةً رادعة. ولكن هذه مقولة تُفسِّر ذاتها، ولا تُفسِّر وحدها شيئًا آخر. فحين تعبر الحكومات في الدول العربية الرئيسة عن إرادة الشعوب مثلًا، ولو كان ذلك لأسباب داخلية لا علاقة لها بفلسطين، فسوف تصطدم مع تصورات إسرائيل للإقليم. وقد تُصبح إسرائيل نتيجة لذلك عبئا على الدول الكبرى. ولو كانت الدول العربية قادرة على الاتفاق على أجندة عربية مشتركة في التعامل مع الولايات المتحدة في قضية فلسطين وغيرها من القضايا الإقليمية عوض التنافس فيما بينها على التقرب منها، لكانت قادرة على صنع المصالح وتحجيم التأثير الإقليمي والدولي الإسرائيلي. لا يوجد لو في التاريخ، ولكني أتحدث عن المستقبل وليس عن التاريخ، وفي المستقبل أكثر من لو.
لقد أعادت عمليّة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، وحرب الإبادة الإسرائيليّة التي شُنّت على غزة، القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة، وإلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي. هذا صحيح! ولكن إسرائيل تسابق الزمن في محاولة لمراجعة هذا التطور الهام. ولذلك تواصل عدوانها حتى إنهاء ما تعتبره مهمتها في هذه الحرب وهو القضاء على المقاومة الفلسطينيّة المسلحة المنظّمة في قطاع غزة، كهدف قائم بذاته، وأيضا لكي تقتنع دول عربيّة بمواصلة التطبيع مع إسرائيل من دون حلٍّ عادلٍ لقضيّة فلسطين. لا يمكن إنشاء محور عربي إسرائيلي إلا بتهميش قضية فلسطين. هذه بديهية.
وما يعرقل مخططها هو تجاوز مدة الحرب حتى توقعات الإسرائيليين المتشائمة، وفشلها في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في القضاء على المقاومة المسلحة، التي عادت وانتشرت فوق الركام وتحته، بما في ذلك في شمال قطاع غزة ووسطه مؤخرًا، وتفرك القيادة الإسرائيلية أعينها غير مصدّقة ما يجري. هذا فضلًا عن عدم تمكّنها من تحرير المحتجزين الإسرائيليين. إن الهدف الوحيد الذي أُنجز هو تدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للعيش على أمل حصول موجات هجرة قسرية مستقبلًا، ولا سيما في الفترة الحساسة الواقعة بين وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار حين لن يجد الناس مأوى ولا مدرسة ولا مستشفى ولا عمل، أو على الأقل إشغال الشعب الفلسطيني سنوات طويلة في التعافي مما تعرض له، وفي عملية إعادة البناء.
تواصل إسرائيل الحرب إذًا على الرغم من انتشار القناعة لدى الحكومة الأميركية، وفي دولة الاحتلال نفسها، بعدم جدوى مواصلة التدمير بعدما لم يعد هناك ما يُدمَّر، واحتمال استنزاف إسرائيل رصيد التعاطف معها. ولا تستطيع دولة الاحتلال مواصلة حرب طويلة دون اعتماد مطلق على الدعم الأميركي، ولذلك تزداد قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل، ولكنها لا تفعل، بل ما زالت تقدم النصائح لرئيس وزرائها الذي يفاخر أمام حكومته بأنه يعرف كيف يتعامل مع الولايات المتحدة. وفقط قبل يومين (8 شباط/ فبراير 2024) سمعنا الرئيس الأميركي يقول لأول مرة أنه يضغط بشدة للتوصل إلى وقف إطلاق نار مستدام، وقرأنا تشكيكا أميركيا برواية إسرائيل أنها دمرت ثلثي قوة حماس.
في هذه الأثناء، تواصل دولة الاحتلال الحرب في انتظار ترتيبات لليوم التالي بحيث يمكنها عدُّها هي ذاتها نصرًا في الحرب؛ لأنها تشمل إدارةً جديدةً لقطاع غزة خاضعة لإشراف أمني إسرائيلي، ما يتطلب تعاونًا إقليميًا وأميركيًا. يقصد نتنياهو باليوم التالي، اليوم الذي يتلو القضاء على المقاومة الفلسطينية. ولا يفترَض أن يقبل العرب والفلسطينيون هذا التفسير لليوم التالي، بل أن ينطلقوا من أن اليوم التالي هو اليوم التالي لأوهام استمرار الاحتلال على الرغم من كل ما جرى. وهذا ممكن.
بناءً عليه، أعتقد أنّنا على مفترق طرق؛ فمن ناحية، سوف تحاول إسرائيل وحلفاؤها فرض “ترتيبات سياسية جديدة” تُبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية أكثر مما أبعدته اتفاقيات أوسلو، التي لجأت إليها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قبل ثلاثة عقود باستثمار منجزات الانتفاضة الأولى بغرض تجاوز التهميش بعد حرب 1982 في لبنان وحرب الخليج وانهيار المعسكر الاشتراكي ؛ فازدادت تبديدًا لها كلما مر الوقت. وإذا فرض هذا “الترتيب الجديد”، فسوف يمر الوقت أيضًا كما مر منذ تلك الاتفاقيات بتعوُّد مراحل انتقالية جديدة، واستيطانٍ لا يُبقي أثرًا لأي احتمال لنشوء دولة فلسطينية، وانتخابات إسرائيلية تتلوها انتخابات أميركية، وصراعات على سلطة بلا سيادة.
ومن ناحية أخرى، لا تستطيع المنظومة الدولية والإقليمية تجاهل الثّمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والجحيم الذي عاشه من قتل الأطفال إلى قهر الرجال، ومن تدمير المساكن والمدارس والمستشفيات والجامعات والمؤسّسات الثقافيّة إلى التجويع. ولا يمكن تجاهل بسالة المقاومة وصبرها ومثابرتها، وهي فوق ذلك كله إنجاز للشعب الفلسطيني على مستوى التنظيم وبناء المؤسسات. إن تضحيات الشعب الفلسطيني والمنجزات على مستوى المقاومة تعزز موقف قيادة فلسطينية موحدة تشمل فصائل المقاومة والوطنيين المستقلين في إطار منظمة التحرير، إذا أصرت على الحل العادل، وإذا دعمتها الدول العربية. الرصيد المعنوي كبير، ولا يمكن تجاوزه إقليميًا ودوليًا.
نقف على مفترق طرق لأن قضية فلسطين عادت إلى الواجهة ويمكن أن نقترب من تحقيق إنجاز على مستوى الحل العادل، ويمكن أيضا أن نبتعد عنه. ففي المفترقات التاريخية تحديدا، أي ما يسمى critical junctures، يمكن أن تحقق الفواعل البشرية تفوقًا على البنى والهياكل التي تتحكم بها.
إذا أرادت السلطة الفلسطينية أن تحبط مخطط نتنياهو وأن تحكم سلطة واحدة الضفة الغربية وغزة عليها أن تدرك أن هذا غير ممكن إلا من خلال أحد خيارين، إما بالتفاهم الوطني مع فصائل المقاومة في الطريق إلى السيادة والاستقلال، أو على ظهر دبابة إسرائيلية في الطريق إلى تكريس السلطة فاقدة السيادة. وإذا أرادت فصائل المقاومة المشاركة في تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني والمناطق المحتلة وأن تترجم نضالها وتضحياتها إلى إنجازات سياسية، يجب أن تدخل في منظمة التحرير، الجهة الشرعية الرسمية الممثلة للشعب الفلسطيني، وأن تتوافق الأطراف على شروط ذلك. نحن على مفترق طرق ويجب أن يتخذ القرار في أسرع وقت. ولا مجال لجولات مصالحة متجولة كالتي تسببت للشعب الفلسطيني بالسأم والإحباط.
ملاحظة بشأن جدالات الدائرة
تذكرون بلا شك الصّدمة والذهول اللذين أعقبا عمليّة طوفان الأقصى: إعجاب المؤيّدين للمقاومة بالقدرات التخطيطيّة والقتاليّة التي أدّتها بعد سبعة عشر عامًا من الحصار ورقابة تكاد تكون مُحكمة على قطاع غزّة وأربعة حروب تعرض لها القطاع، وصدمة الإسرائيليين من وقوع عمليّة شبه حربيّة داخل حدود 48، وحجم الضحايا من الإسرائيليين الذين سقطوا في يومٍ واحد، والغضب والشعور بانعدام الأمان، وصولًا إلى القلق الوجودي، ليس من العمليّة ذاتها، بل من احتمال خسارة هيبة الرّدع مستقبلًا إذا مرت من دون رد مختلف جذريًا عما سبق. وقد أعقبت العملية نقاشات مطوّلة لم تنته حتّى اليوم حول مسؤوليّة المقاومة ومسؤوليّة الجيش الإسرائيلي عن بعض حالات قتل المدنيين، والفوضى التي شابت تدفق جمهور واسع من المدنيين نتيجة لاختراق السّياج الحدودي. وما زالت المعلومات متضاربة حول التجاوزات التي تستحق النّقد، وحتى الإدانة في بعض الحالات إذا صح حصولها، من دون المس بالحق في مقاومة الاحتلال.
على كلِّ حال، استخدمت آلة الدعاية الإسرائيلية جميع ما في جعبتها من وسائل وقدرة على التأثير لكي تديم تسيّد هذا الموضوع الحوارات الإعلامية بحيث يطغى ما تعرضت له نتيجة لعمليّة واحدة للمقاومة، وإن كانت استثنائية في مقاييسها، على فظائع الحرب الشّاملة المؤلّفة من مئات العمليّات والمجازر التي تشنّها هي على قطاع غزّة، والتي لخّصها بدقّة باسمنا جميعًا كتاب الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل إلى محكمة العدل الدوليّة.
وحسنًا فعلت حركة حماس مؤخّرًا، إذ نشرت بتاريخ 21 كانون الثاني/ يناير 2024 وثيقةً تشتمل على روايتها لأحداث ذلك اليوم، أصرت فيها على أن عمليّتها كانت عسكريّة تستهدف قواعد الجيش الإسرائيلي لأسر جنود مؤكدةً عدم استهدافها للمدنيين، وحصول نوع من الفوضى، لا تتحمل هي مسؤولية ما جرى خلالها. والأهم من ذلك أنّها دحضت مرّة أخرى أي علاقة بين هذه العمليّة وبين استهداف اليهود بوصفهم يهودًا، إذ شددت على مقاومة إسرائيل بوصفها قوة احتلال.
وبين هذا وذاك، ثمة انتقادات حادة من جانب خصوم المقاومة، وأخرى همسًا من دون ضجيج من جانب مؤيدي المقاومة المسلحة، حول الحكمة مِنْ مثل هذه العمليّة وهل كانت نتائجها محسوبة؟ نعرف هذه المجادلات، قابلناها مرّات عدّة، ليس فقط في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، بل في تاريخ مقاومة الظلم عمومًا. هل تتحمل المقاومة التي تثور على الظلم، عفويًّا أو على نحو منظم وغير محسوب، المسؤوليّة عن قمع النّظام الوحشي للشعب الرازح تحت الاحتلال؟ هل تتحمّل القوى، حتى القوى الحسنة التنظيم، التي بادرت إلى عمليّة لم تتحكم بنتائجها المسؤوليّة عن العقوبات الجماعية وقصف المدنيين وتصحير مدنهم وقراهم في بعض الحالات؟ يجب أن نَفْصِل بين مستويات النقاش المختلفة، ولا سيّما حين يدور بين المثقّفين والباحثين، دعك من المشادّات العبثيّة على وسائل التواصل الاجتماعي!
ثمّة مستويات مختلفة للنّقاش، لو شاورتك حركة مقاومة قبل أن تقوم بعمليّة ما، ربما تسنح لك الفرصة للتعبير عن رأي حصيف بشأن نوع العمليّة وتوقيتها في الظروف المعطاة. وبعد وقوعها، ثمة دائمًا متسع لنقد هذا الجانب أو ذاك من عمليات المقاومة، سواء أكان النقد أخلاقيًا أو استراتيجيًا. هذا النوع من النقاش يمكن، بل يجب، أن يخاض داخل المعسكر المناهض للاحتلال والمؤيد مبدئيًا للحق في مقاومته.
إذا وجدت نفسك أمام واقع شعب فقد وطنه قبل 75 عامًا، ويقطن جزء من لاجئيه في قطاع محاصر منذ أكثر من عقد ونصف، وتعرض للحروب أربع مرّات، وخرجت عمليّات مقاومة وردّت عليها إسرائيل بحرب إبادة. أين تقف؟ لم يسألك أحد عن رأيك في التوقيت ولا في نوع العمليّة، فلست بنفسك مقاومًا يحمل السلاح. ما العمل إذا؟ أنا لا أتحدث هنا عن نقاش استراتيجي مشروع، وربما ضروري، ويمكن خوضه دائما، حول أفضل السُبل للمقاومة في هذا الوقت بالذات، بل أتحدّث عن موقف أخلاقي في واقع قائم: نُخبة مقاوِمة تتألّف، كما يبدو، من عشرات الآلاف من المقاتلين من شعبٍ مؤلّف من ملايين. تتحمل هذه المقاومة عبء التنظيم والالتزام والمثابرة طوال سنوات، وتخرج إلى عمليّة مسلحة، فهل تظل قادرًا على تشخيص القضية الرئيسة رغم ملاحظاتك ورغم نتائج هذه العملية؟ تبقى القضيّة الرئيسة في رأيي هي قضيّة الاحتلال وممارساته التي أدّت إلى هذه العمليّة، وحملة العقوبات الجماعيّة والثأر والانتقام التي تصل إلى حدّ جرائم الإبادة التي أعقبتها. ويفضل أن نتذكر دائمًا أن بعض من ينضمّ إلى مناقشة جدوى عملية مقاومة بعينها ونتائجها، يعارض أصلًا جميع عمليات المقاومة، ويؤيد السلام مع إسرائيل من دون حل عادل لقضية فلسطين، أي يؤيد الاستسلام للاحتلال بوصفه أمرًا واقعًا، ومن الضروري أن نرسم خطا فاصلا بين الموقفين.
ولا بد من خوض نقاش آخر لا علاقة له بالأمرين مع أولئك الذين لا يمرون أصلا بمرحلة الدّفاع عن الحق في مقاومة الاحتلال والدفاع عن الشعب ضد جرائم الإبادة في محاولة لتقييد أيدي دولة الاحتلال عن ارتكاب المزيد، إذ يعدون معاناة الناس مجرد تفاصيل ويبشرون بالنصر منذ اللحظة الأولى. والنّصر في قاموسهم لا يتلخص فقط بصمود المقاومة لإفشال العدوان، وإنما يتجلى أمام أعينهم انتصار مؤزر شامل على دولة احتلال لأنها في طريقها إلى هزيمة منكرة وانهيار محتوم. ويحدد البعض حتّى سنوات معيّنة لزوال إسرائيل بناءً على حسابات غيبيّة. يمكن أن يُقال أي شيء في أي وقت استنادًا إلى علم الغيب، أو نتيجة لتفاؤل مُفرِط يعوض عن بؤس الواقع بنسج الخيال. وكلها مقولات وانفعالات ممتنعة على الدحض والإثبات.
لا علاقة لهذا كلّه بواقع الحرب على غزة الذي يتعرض فيه شعب إلى جرائم إبادة، وتطالب فيه المقاومة بوقف إطلاق النار، وهي التي يُفترض أنّها منتصرة؛ وتحاول فيه الدولة المنهزمة، بموجب هذا التفكير، أن تواصل الحرب. ما المنطق في هذا كلّه؟
أعتقد أنّ هذا الخلط بين المستويات، المستوى الأخلاقي والمستوى التحليلي، وبين دعم الصمود ونسج الأوهام التي تعقبها الإحباطات هي مغالطات تُلحق ضررًا بقضيّة العدالة، وتعوق توجيه النّاس لاتخاذ مواقف والقيام بأعمال من شأنها أنْ تُسهم في صمود الشعب الفلسطيني في وجه ما يتعرّض له، وفي تقليل الأضرار، وتحقيق إنجازات سياسيّة لقضية فلسطين لا لخصومها الذين ينتظرون تصفيتها لكيلا تذهب هذه التضحيات سدى.
ليس التقليل من أهميّة معاناة الشّعب الفلسطيني في ظل جرائم الإبادة رفعًا للمعنويّات، بل إساءة لتضحيات هذا الشعب وتغطية على جرائم الاحتلال؛ ومثل ذلك تحميل المقاومة مسؤوليّة جرائم الاحتلال، ومثلهما أيضًا نشر الأوهام عن الانتصار الفوري الناجز على إسرائيل وانهيارها نتيجة للحرب على غزّة.
المقاومة صامدة بفضل الإرادة والعزيمة والإيمان والتدريب الجيّد والاستعداد لمعركة الدّفاع عن غزّة، وهو استعداد استمرّ سنوات، وليس نتيجة لحسابات غيبيّة. من الواضح أن المقاومة في غزة مجهزة أساسًا لكي تكون قوة دفاع. والشّعب الفلسطيني يُعاني معاناةً تفوق التصور، ويُجالد متحملًا، بحيث لا يفقد إنسانيّته أو كرامته في هذه الظروف بسبب احتلالٍ عنصريٍ فاشيٍّ، لا يتورّع عن ارتكاب جرائم إبادة.
إن أجدى ما يمكن أن يقوم به المثقفون الفلسطينيون اليوم في ما عدا ما يقومون به أصلًا، كلٌ من موقعه ووفقا لقيمه، هو التضامن الوطني والإنساني لتخفيف معاناة الناس في غزة، والعمل على التصدي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية وافتراءاتها، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية لكي تأتلف في قيادة موحدة في إطار منظمة التحرير بحيث تمنع ذهاب كل هذه التضحيات هدرًا باستثمارها لصالح تمرير ترتيبات ما يسمى اليوم التالي من دون حل عادل لقضية فلسطين يضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم الإسرائيلية.
( نص محاضرة عامّة ألقيت في افتتاح
المنتدى السنوي لفلسطين – الدورة الثانية
السبت 10 شباط/ فبراير 2024)