عاشَتْ العربية في غرْبتها (22)

دلال البزري
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل “يحيا الملك!” أو “يعيش الزعيم”! أقول “عاشت العربية!”، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها. 

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها. 

القاهرة (1999 ـ 2009)
ثمة فنانون آخرون عرفتهم بعد إقامتي في القاهرة، وعبر زوجي المصري طارق المرصفي. كان والده، أمل فتح الله المرصفي، شيوعيًا من الضباط الأحرار، دخل إلى السجن يوم غضب عبد الناصر من الشيوعيين، وخرج منه بعد الصلح بين عبد الناصر والسوفيات، مثل كثير السجناء السابقين الشيوعيين. بعد ذلك، عُيّن مديرًا للمسرح القومي. وابنه طارق، الضابط المهندس خريج “الكلية الفنية العسكرية”، عمل سنتين في السلك العسكري، ثم استقال بعد ذلك، لينتقل إلى عالم الفن. وحبه لهذا العالم ورثه عن أبيه، ومعه حسّ فني بالغ، يفهم نقطة الجمال في الأشياء. فكانت صداقات فنية من تشكيليين وسينمائيين ومغنين وشعراء وروائيين، جميعهم فتحوا لي نافذة على عوالمهم.
القناة المصرية الأخرى، التي وصلتني بأولئك الفنانين المصريين، هي صديقتي اللبنانية منى غندور، وزوجها المصوِّر الفرنسي تييريه جيكل. منى عملت مع يوسف شاهين، وأخرجت عنه فيلمًا وثائقيًا عُرِض بعد وفاته. وألفت كتابًا عن رائدات الإنتاج السينمائي، “سلطانات الشاشة العربية”، كانت أثناء الحوارات التي تقيمها مع الفنانات أو وريثاتهن، تغرف عن مصر ما يفيض عن معرفتي بها. كانت كلما خرجت من واحدة من هذه الحوارات تطلق كلمتها المعهودة “مصر ما بتخلص…” (مصر لا تنتهي…).
أما تييريه، زوج منى، فكان “يضيّع نفسه” قصدًا في شوارع القاهرة، وسط والزحمة والصخب والغبار، يغوص في أزقة القاهرة والإسكندرية، وجاداتها ومقاهيها وسهراتها، يلتقط وجوها وحالات وزوايا، يشرد في نزهته، متخفيًا بشخصية الذي لا يبالي بمن حوله، لا ينتبه له. ويقول دائمًا:
– على المصوِّر أن لا تبدو عليه هيئة المصوِّر… عليه أن يذوب في موضوعه… وإلا فقدت الصورة قصتها وجمالها…
فتكون صوره مثل الدعوة إلى إعادة النظر بالتصورات الرائجة عن مصر. مثل كتاب جديد يروي شيئًا عنها.
ولكن تييريه أيضًا يخصص جلسات تصوير لفنانين سينمائيين وفنانات، في غرف مغلقة، يداري فيها ما يسميه “نرجسيتهم الغريبة”.
ــ كيف يا تييريه؟
ــ كبرياء بلا حدود مرئية، وشعور داخلي بالنقص. هذا هو مصدر الغرابة.
ويأخذ بتعداد الطبائع الخاصة بالفنانين الذين صورهم. فيما صوره تلتقط لحظات جمالهم وكبريائهم، وتغض الطرف عن عيوبهم بنوع من الأبوية الجمالية التي لا يعرفها إلا الذين يغفرون العيوب الجسدية.
والاثنان، منى وزوجها تييريه، من رواد المعارض الفنية. يتابعون، يشترون، يقيمون، كما يفعلون في سوق الأنتيكات والمزادات العلنية، فيقتنون أجمل ما خزنته القاهرة من كنبات وطاولات وكراس وتحف، يعود جلّها إلى العهود الملكية، وحتى الفاطمية. وعلى حيطان بيتهم لوحات لفنانين معاصرين، وقدماء رواد. ولكل لوحة مع تييريه قصة أو انطباع، تسحبكَ إلى عوالم القاهرة ومراحل التشكيليين الرواد.
قبل ذلك، وأنا في لبنان، لم يكن هذا الفن التشكيلي يهمّني. فقط، عندما حصلت حرب أبريل/ نيسان 1996، مع إسرائيل، كنت تعرّفتُ لتوي إلى طارق، الذي سيكون زوجي. وهو بادر إلى الاتفاق مع رئيس تحرير صحيفة “السفير”، الأستاذ طلال سلمان، على جمع لوحات لتشكيليي مصر، وإحضارها إلى بيروت، وعرضها للبيع في قاعة مسرح بيروت، لتكون عائداتها لصالح أهالي قرية قانا الجنوبية التي تعرّض أبناؤها لمجزرة على يد الجيش الإسرائيلي. وقتها، شاركتُ في “جهود” نقل اللوحات، وفي حفل افتتاح المعرض. من باب الواجب الوطني. ولكن أيضًا، كان علي القيام ببعض الترتيبات اللوجستية، والانتباه إلى الشخصيات الفنية لأصحاب اللوحات المتبرّع بها، ربما تقربًا من طارق.
فطارق ترك مهنته العسكرية، وصار ما يسمى “آرتْ ديلر”، أي تاجر لوحات، وأحيانًا منحوتات فنية: ينظم المعارض الفنية، يشتري ويبيع لوحات جديدة واعدة، وأخرى لـ”كبار” منهم، ولروادهم. وأحيانًا يصطحبني معه لزيارة هذا التشكيلي، أو ذاك، في محترفه. وأستمع إلى سوالف الفنانين التي يتناقلها المصريون، ولا تُنقل إلى الصحف.

أخبار ممتعة دائمًا، مثيرة للفضول والجدَل. ويطلب مني طارق أن “أقيّم” هذه اللوحة أو تلك، فأقول له في البداية لا أستطيع، لا أعرف، أنا بعيدة عن الرسم التشكيلي. لا أفهمه. وهو يعيد الطلب:
ــ لا تصري على “الفهم”… حاولي أن تحسّي…
ــ بماذا تشعرك هذا اللوحة؟ ماذا يؤنسك فيها؟
ــ هل ترينها جميلة؟ قبيحة؟ جذابة؟ شاعرية؟
ــ هل تذكرك بشيء…؟ أو لا تذكرك؟ هل المهم أن تذكرك؟
وهكذا، حتى صرت “أقيِّم” من دون رجاء، وبمتعة جديدة عليّ.
تدهشني اللوحة كل مرة، تتحداني في إيجاد الكلمة المناسبة لها، أو درجات ألوانها وعواطفها، أو موارد الطاقة الداخلية لصاحبها… التحديق بها مثل تمرين على الكلمات. استثناء واحد: اللوحة المسماة “تجريدية”، لا تفْتنني. لا أشعر بها، لا أفهم ماذا تريد أن تريني. في أحد المعارض “التجريدية”، سألتُ الفنان صاحب اللوحات عن “معنى” بعضها، الأقل غموضًا من غيرها. سؤال طائش، تنبهت لذلك وأنا أنطقه. لا يُطرح أصلًا على أي فنان، من باب اللياقة، خصوصًا في معرضه. والفنان صاحب اللوحات التجريدية المعروضة أكثر واقعية من لوحاته، يجيبني بوجه ساكن وبنبرة عتاب متعقّل، عن كذا وكيت من الزوايا والأساليب… من بعده، بقيت على “ذوقي الواقعي”، ولم أعد أطرح السؤال على أي فنان تجريدي.
في لبنان، لم أكن مهتمة بالفن التشكيلي، ولم أتعرف على فنانين تشكيليين لبنانيين. ولكنني عرفت شعراء وروائيين تنطبق عليهم المواصفات السلوكية التي “يتمتع” بها بعض التشكيليين المصريين الكبار. وأنت تتعامل معهم، تشعر وكأن “بروتوكولًا سلوكيًا”، تبنّوه، لا هو معلن، ولا هو مكتوب. يملي عليهم تصرفات بعينها، ولا تكتمل صفتهم “الفنية” من دون اتباعها. وهذا “البروتوكول” مسلّم به من البيئة التي حولهم، لا بل تراه من صميم موهبتهم، إبداعهم.
بماذا يهمس “البروتوكول”؟ بأن الفنان “مجنون… لا يعرف مصلحته”، وأنه “لا يفهم… بريء، مكشوف”… أمام صراع الوجود، وتوازنات القوى، القريبة خصوصًا، وطرق التعامل معها. ولذلك، هو المبدع، الضائع، المستمع إلى صوته الداخلي لا غير… ينعم بنظام وحقوق، لا يدخلان في دائرة المواطن البسيط، المواطن العادي الذي لا “يبدع”. فيشعر بقوة أن من “واجبه”، من أجل صورته، عليه أن يتغزل بكل النساء، ويتحرش بهن، أمام الملأ، لأن المرأة “ملهمته”. وإن لم يجد امرأة، يؤنّث المدن والبراري والطبيعة والقمر، يتغزل بهم كما لو كانوا نساء… فمن دون أنثى يموت إبداعه. وإذا نكثَ بوعوده، بالتزاماته، باتفاقاته، فهو معذور، لأنه ضائع في ضباب الإبداع، سابح بين أشكاله وألوانه، لا يقوى على حسابات الواقع…  إنه فنان! حالة إضافية من البوهيمية والهيبية، على طريقة الحالات المذكورة آنفًا.
بخلاف الفن التشكيلي، كنت، قبل إقامتي في مصر، مهتمة بالسينما المصرية، التي نسمّيها “عربية”، ربما لأنها كانت لفترة طويلة السينما العربية الوحيدة. ولكن، بعد إقامتي في مصر، بدا هذا الاهتمام باهتًا، بالمقارنة مع قابليتي التي انفتحت على هذه الأفلام، القديمة بالأبيض والأسود، على الشاشة الصغيرة، والجديدة في قاعات السينما والمهرجانات. من أين أتت هذه الشهية؟
منذ اللحظة التي سكنتُ فيها بمصر.
عرفتُ مصر في زيارات منتظمة، قبل انتقالي إليها. ولكنني لم ألحظ، خلال كل تلك لزيارات إلا قليلًا مما سيداهمني الآن من فضول. ربما لأنني لم ألتقِ، أثناء هذه الزيارات، إلا بفئة معينة من المصريين، في ندوات أو مؤتمرات، فئة الإنتلجنسيا. وعندما سكنتُ في القاهرة، وشرعت بالتعامل مع كل ما يتعامل به المصريون: أركب الميترو، أو التاكسي، وأتكلم يوميًا مع الشغالة التي تساعدني على أعمال البيت، عن حياتها وعيشها يومياتها، أبني صداقة مع بائع الأزهار والخضار ونادل المقهى القريب من بيتنا، أشترك في التظاهرات وأصطحب معي صديقاتي إلى المسجد، قسم النساء، الواقع غالبًا في طابق أعلى، وأقوم ببحث ميداني عن الحداثة، وأتكلم مع من يستأنس الكلام، أختلط بالعائلات والموظفين، وأحيانًا كبار الشخصيات… كلهم يبدون لي كأنهم خرجوا لتوهم من شاشة سينما: بالظروف العجائبية دائمًا، التي مرّوا أو يمرّون فيها، يسمونها القدر الـ”مكتوب على الجبين”، بفتنة تعبيرات أجسادهم وملامحهم، الماهرة الشغوفة، بمشهديتها الدراماتيكية، أو الكوميدية، الحيّة دائمًا، بقدرتهم على إقناعك بحقيقة مواجهتهم لهذا القدر. شخصيات روائية عن جدارة. يمثلون في الحياة أو السينما تمثلهم؟
الأرجح الاثنين معًا: المصريون غذوا السينما المصرية، وقد تجاوزت المئة من عمرها. وهذه الأخيرة ردت لهم الجميل، بأن أوفت بمقوماتها الدرامية. الدراما بصفتها القدرة على خلق حبكة روائية، ومطابقة شخصياتها لهذه الحبكة، تفاعلهم معها، بالضحك أو البكاء. ولا يعني هذا أن المصريين “ممثلون”، بمعنى أنهم غير صادقين بما تنطق به هالَتهم. إنما يقومون بأدوارهم. لكل واحد دور في حبكة حياته، يحترمه ويسلك طريقه، وترتسم تعبيراته على وجهه، مشيته، هندامه… كل ما ينضح عنه.
ولكنهم يذهبون بعيدًا في دمج أدوار السينما بأدوار الحياة. عشرات الأمثلة عن ممثلين وممثلات رفضوا لعب أدوار شخصيات مكروهة، حفاظًا على سمعتهم. و”السينما النظيفة” التي انطلقت في تلك الفترة، الخالية من القبل والمشاهد الساخنة، موجة الممثلات المحجبات، والجنوح الإستشياخي لبعض الممثلين، تعبيرًا عن “طبيعة المرحلة”… كلها تعزز هذا الدمج. وثمة سوالف أيضًا كنت شاهدة عليها:
في عام 2003، أثناء الانتفاضة الثانية، وبعد الغزو الأميركي للعراق، وتكاثر التظاهرات الشعبية الداعمة للشعبين الفلسطيني والعراقي، كان لـ”الحزب الوطني” الحاكم دور يريد أن يكون مشرفًا. فدعا إلى تظاهرة في ستاد مدينة نصر للغرض التضامني نفسه. كان الجمع هائلًا. خطابات نارية لكبار المسؤولين، ولجمال مبارك، نجل الرئيس حسني مبارك، والموعود بوراثته. وكلها، أي الخطابات، رتيبة باهتة. الحشود المشاركة غير مبالية بها. المتظاهرون ينظرون إلى بعضهم، يثرثرون، يضحكون أحيانًا… واضح أن الملل أصابهم. وكادوا أن ينصرفوا لولا ظهور الفنان عادل إمام، صاحب دور الزعيم في مسرحيته الناجحة التي تحمل الاسم نفسه، وقد دام عرضها عشر سنوات متوالية. وعادل إمام، كما على المسرح، بدا مقنعًا بزعامته، متألقًا بطريقته الواثقة، بنبرته الصحيحة، بمخارج ألفاظه المألوفة، ووقفته الشامخة وحركة يديه… فدبّت الحماسة في الجمهور، وأخذوا يحدقون به بشغف، يصغون إلى كلمته، كما كانوا يفعلون وهم يشاهدون مسرحيته “الزعيم”. إنه الزعيم الأصيل والمجرّب.
قبل ذلك بعامين، عشية الانتخابات النيابية، نشرت الصحيفة الرصينة، “العربي الناصري”، على صفحتها الأولى، مقابلة مع الفنانة إلهام شاهين، بعدما قامت بدور فلاحة تترشح للانتخابات. فسألتها بكل جدية:
ــ هل تنوين الترشح للانتخابات القادمة؟
فأجابت إلهام شاهين بجدية أكبر:
ــ كلا… كلا… ليس عندي وقت. أنا الآن مشغولة بقراءة عدد من السيناريوهات.
وما يزيّن هذه الأدوار، ويعدّل بين أوزانها، هو حب المصريين لإفّيهات السينما، وبعضها صار شعبيًا كلاسيكيًا. ينطقون بها ببساطة ومهارة، وغالبًا في سياق تهكّمي. مثل “بلدي أوي يا حسين!” لوصف سلوك خارج عن الموضة، أو تحرش في غير محله “أنت طالق بالثلاثة!” للسخرية من متهوِّر، أو لوقف حديث مزعج “محلاها عيشة الفلاح!”، للاستهزاء من شخص ميسور، ولكنه مهموم (وهذا الإيفيه هو في الأساس أغنية لنجاة الصغيرة). “انتهت المقابلة”، لطرد الضيف أو الزائر بتهذيب. “إيش معنى!؟”، لإفتعال شجار غير مرغوب فيه، أو للتعبير عن الغيرة… والإفيه الملك، وقالها الفنان يوسف وهبي منذ ما يقارب المئة عام: “شرف البنت زي (مثل) عود الكبريت ما يولعش (لا يشعل) غير مرة واحدة”.

أيضًا، وقتها، حصل ما يشبه “واقعتَي” عادل إمام وإلهام شاهين. والمناسبة هي الصلاة على روح يوسف شاهين في كنيسة القيامة للروم الكاثوليك في حيّ الظاهر الشعبي في القاهرة. وقد نصحتني إحدى الصديقات بأن لا أكتب عنها، لكثرة ما كلمتها عن غرابة مجرياتها.
ــ لماذا؟ سألتُها.
ــ هؤلاء السينمائيون هم “جوّنا”…. إذا كتبت سيتحولون إلى أعداء… هل تريدين اكتساب أعداء جدد…؟ ومقالاتك عن حرب تموز… هل نسيتِ؟!
والآن الآن فقط، بعد مضي خمس عشرة سنة على هذه المجريات، صارت الكتابة عنها ممكنة:
إذًا، يتوافد نجوم السينما والتلفزيون إلى الكنيسة. يحتلون الكراسي الأمامية، وهي بشكل نصف دائري حول التابوت، يقابله المذبح، حيث سيحضر القسيس لإقامة الصلاة. ثم لا تعرف كيف، يتدفّق على الكنيسة حشد من الشباب، معهم قليل من الشابات المحجبات، من الأزقة القريبة، على ما يبدو من هندامهم وملامحهم. يحتلون المقاعد الخلفية، ويتوزعون على جوانبها. فيشكلون نصف دائرة موازية أخرى، تضغط على نصف الدائرة الأمامية، حيث النجوم. ويبدأ القداس. تنهض أعناق الذين في الدائرة الخلفية، الأكبر، ويقف أصحابها على المقاعد الخشبية، فيرتفعون إلى أعلى، وهم واقفون، متوترون، يشدّون رقابهم، وتسيطر تكّات هواتفهم، كلها مصوَّبة نحو الأمام، نحو النجوم، ومعها ضجة الهمْهمات، وتنافس واعتراض على قلّة نصيب بعضهم بالرؤية والتقاط الصور… يستاء القسيس الذي يقيم الصلاة، مرة واثنتين وثلاثًا… يعود إلى صلواته، فتزيد أعداد الشباب الداخلين إلى الكنيسة من المتحمّسين، وتختلط ضجتهم بضجة المستنكرين حجب رؤيتهم… فيعود القسيس إلى استيائه. لا يكتفي بطلب الصمت… يعاتبهم بلطف، يعاتبهم مرة أخرى… وفي الأخير لا يبقى إلا أن يوبخهم توبيخًا شديدًا… وينفرط عقد النجوم المشدود حول التابوت، فيخرجون إلى باحة الكنيسة، ويكون في استقبالهم حشد آخر من الجماهير المصوِرِّة، لم يسعفهم الحظ بـ”حضور القداس”. هكذا ينتهي أغرب القداديس التي حضرتها عن روح راحل.
الذين أفسدوا هذا القداس كرمى لقطة على الهاتف الجوال، هل كانوا معجبين بيوسف شاهين؟ هل كانوا يفهمونه، هو صاحب الأسلوب السينمائي الصعب؟ الأرجح أنهم سمعوا عنه كثيرًا، وعن المهرجانات الدولية التي اشترك بها، والجوائز التي نالها. ولكنهم، وهم شباب الآن، وقد مرت ثماني سنوات على انطلاق عصر المسلسلات التلفزيونية، لا يعرفون أفلامه، ولا يحزنون على رحيله. هم حضروا القداس ليلتقطوا صور نجوم هذه المسلسلات الذين احتشدوا في مقدمة المذبح. وأفسدوا بذلك القداس.
بعد خروجي من القداس، استغربت من ردة فعل الذين حولي. قالوا إن ما يحدث عادي لا يستحق الالتفات. عدت وفكرت بتلازم السينما والحياة، ولكن على نحو مقلوب، مختلف؛ كما لو كانت أوقات الحزن على نجوم السينما، هي أيضًا أوقات فرْجة سينمائية حيّة، كأن لا موت ولا حداد. خصوصًا لنجم لم يروا وجهه كثيرًا. لأنه مخرج، لا ممثل. ولأنه من عصر آخر، من لغة أخرى.
ولكن هذه الواقعة كانت فرصة لأنتبه إلى تراجع الإنتاج السينمائي، لصالح التلفزيوني. فرصة لتصويب نظري إلى السينما المصرية قبل سنة من مغادرتي القاهرة. واعتبار أن الذي أفكر به وأتصوره عن السينما المصرية ينتمي إلى عصر آفل. ليست القطيعة معه صارمة، أو سريعة… السينما ما زالت حاضرة في التلفزيون. لأن عددًا من المخرجين انتقلوا إليه. ولأن أولئك المخرجين، وغيرهم ممن لم يخض سوى تجربة تلفزيونية، يغرفون من السينما أيضًا. ولم تعد السينما على تلك العلاقة بالحياة، كما كانت… إنما التلفزيون، ومسلسلاته التي لا تنضب.

(يتبع…)