منذ ظهور الدولة ككيان سياسي، ظلت علاقتها بمكونات المجتمع موضع توتر. هل ينفي وجود الدولة ضرورة تمثيل المكونات الأهلية من قبائل وطوائف، أو المهنية كالنقابات وتجمعات رجال الأعمال، أو السياسية كالأحزاب، ومشاركتها الدولة سلطتها على المجتمع؟

في حالات كثيرة تغيرت مواقف الفاعلين غير الدولتيين من الدولة والمؤسسات التي تمثلها. ويقدم لنا إريك هوبزباوم على سبيل المثال في كتابه “قطاع الطرق” (أو “اللصوص”) مقاربة مثيرة للاهتمام عن كيفية تحول فئات اجتماعية مهمشة إلى متمردين على الدولة ثم انتصارهم وتحولهم إلى الدولة ذاتها. هذه العلاقة المركبة بين المكونات الاجتماعية والدولة، سواء كانت “متخيلة” بتعبير بنديكت أندروسون أو مادية، تترك أثرها على المجتمعات.

ولا يندر أن تتغير أهداف “الفاعل غير الدولتي” من التعبير عن مصالح فئات معينة ولو من خلال التمرد المسلح، وصولا إلى الانخراط في الجريمة المنظمة أو العرضية، في ظاهرة تسمى “قطاع الطرق الاجتماعيين”.

حركة “فارك” في كولومبيا، مثلا، بدأت كانتفاضة مسلحة في الستينات متأثرة بنموذج الثورة الكوبية وسيرة الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا، لكنها ما لبثت أن شاركت في أعمال تهريب وتجارة المخدرات، واتخذت من اختطاف الرهائن مصدر دخل رئيس، من دون أن تتخلى تماما عن أهدافها السياسية.

تجدر الإشارة إلى أمر مشابه كانت عليه مجموعات “الثوار” في جبل عامل (جنوب لبنان) في عشرينات القرن الماضي، عندما أدى بعض قطاع الطرق الذين اتصلت بهم الدولة العربية بقيادة الأمير ثم الملك فيصل في دمشق وأقنعتهم بالتمرد على الاحتلال الفرنسي، عندما أدوا دور الثائرين على الاحتلال. ولا زال الأمر هذا موضع خلاف من بين الخلافات الكثيرة في تاريخ لبنان.

وفي مراحل عدة، منعت الدولة وجود الفاعلين هؤلاء، على غرار ما فعلت الثورة الفرنسية في سياق صراعها مع الكنيسة الكاثوليكية وطبقة النبلاء، حيث حظرت الثورة كل ما رأت فيه “كيانا وسيطا” يتدخل في العلاقة بين الفرد والدولة. فالأول يجب أن يكون تمثيله مباشرا من خلال الجمعية التأسيسية الوطنية. أسفر ذلك عن منع كل أشكال التجمعات المهنية والأهلية والجهوية. هناك أفراد ودولة. ولا شيء بينهما. طوباوية المقاربة هذه انتهت سريعا.

 

 

 

مقولة هيغل عن أن “الدولة هي الشكل الأرقى للتنظيم الاجتماعي” الذي يجب أن يبقى متعاليا ومنفصلا عن المجتمع وأن يوجهه نحو المصلحة العليا، تعرض لنقد شديد ابتداء من مواطنه الألماني شوبنهاور وصولا إلى كارل بوبر الذي رفض السمة الكلية والحتمية في نظرية هيغل باعتبارها التمهيد الأسرع لظهور الحكومات الشمولية. فلا شيء ينجم عن تقديم الدولة على الفرد سوى تحطيم الثاني وتوحش الأولى.

عليه، لا بد من ترك مساحة للفاعلين غير الدولتيين لتنظيم و”عقلنة” الحراك الاجتماعي.

 

لكن في الدولة العربية “المتضخمة” والمعطوبة وظيفيا على ما بيّن الباحث الراحل نزيه الأيوبي في مؤلفه الكبير “تضخيم الدولة العربية”، يصبح وجود أي فاعل خارج عن إطارها وتوزيعها للمهام والأدوار تهديدا وجوديا. وفي العقود القليلة الماضية، ظهرت وظائف جديدة للفاعلين غير الدولتيين في الدول العربية، حيث تؤدي قوى سياسية- غالبا ما تنشئ فصائل مسلحة تابعة لها- دورا موازيا لأدوار الدولة وتقيم مجتمعها الخاص والمغلق الذي يطمح قادته إلى السيطرة بواسطته على كل أوجه السلطة والمجتمع والدولة. وهذا، لا ريب أنه وصفة لحروب أهلية لا آخر لها.

نشهد على هذه الظاهرة في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين والسودان واليمن والأسماء معروفة. من الجنجويد الذين أصبحوا “قوات الدعم السريع” في السودان، إلى”الحشد الشعبي” الذي “يخدم سيدين” هما الحكومة العراقية والحرس الثوري الإيراني، فيما تبرز مؤشرات على أن تأسيس كيانات مسلحة تستمد هيمنتها على الفضاء العام من سلطة الدولة، يشكل إغراء لكثير من دول المنطقة، وربما يتجلى في تأسيس “شركات أمن” خاصة، لا تلبث أن تتوسع مهماتها لتحل مكان الدولة الغافلة أو المتواطئة.