أخرج الانهيار الدراماتيكي لمجموعة “إيفرغراند” العملاقة إلى النور حجمَ الأزمة الاقتصادية الصينية وما يشوبها من قلق صيني وعالمي خشية توالي سقوط حجارة دومينو ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
كانت توقعات تعافي الاقتصاد الصيني بعد انتهاء إجراءات “كوفيد-19” منذ أشهر في أوجها، إلا أن رياح الأزمات الكامنة كانت في المرصاد: قطاع عقاري متهالك، وسوق مالي يحصي خسائر بسبعة تريليونات دولار منذ ذروة صعودها في 2021، منها 1,5 تريليون دولار في يناير/كانون الثاني فقط، وهو انخفاض بنحو 35 في المئة في نحو ثلاث سنوات، نجم عن التخبط في ممارسات خاطئة استدعت تدخل رأس الدولة لوضع حد لكرة الثلج المتعاظمة.
المشلكة واحدة، ديون هائلة نجحت في كبح جماح طفرة النمو الصيني الاستثنائي الذي فاق الـ6 في المئة سنويا، والحماسة للاستفادة من وفرة الفرص التي كانت متاحة.
لإيجاز الصورة بالأرقام، افتتح مؤشر أسهم “هانغ سينغ” هذه السنة بانخفاض نسبته 7,5 في المئة، وهي انطلاقة سيئة بالطبع. كذلك الأمر بالنسبة إلى انخفاض مؤشر “سي. إس. آي. 300” الصيني بنسبة 6 في المئة. وتخطت ديون الصين عتبة الـ75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ نحو 18 تريليون دولار، منها 13 تريليون دولار تتحملها بلديات 12 منطقة محلية، وبات خطر التخلف عن السداد يطرق باب المارد الآسيوي وتباطؤ النمو أمرا واقعا، وهو قد يسجل 4,6 في المئة خلال السنة الجارية وفقا لصندوق النقد الدولي، انخفاضا من 5,2 في المئة في 2023.
الاستثمار شجاعة أم جنون
خفت البريق الصيني، وبدأت عيون المستثمرين الباحثة عن الثقة الاقتصادية والتنظيمية تتوجه إلى ملاذات واعدة أكثر أمانا كالهند واليابان. فالسياسات الصينية تحكمها المصالح الداخلية من جهة، والخارجية في المنافسة الشرسة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية خصوصا، اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا من جهة أخرى، تَمثّلَ جانب منها في إحكام الخناق على قطاع التكنولوجيا منذ عام 2020، ليطلق ذلك لدى المستثمرين شرارة إعادة النظر في ضخ رؤوس الأموال، أو انسحابها من الأسواق الصينية. وفعلا، تشير الأرقام إلى انكماش التدفقات الاستثمارية الأجنبية 8 في المئة في 2023 إلى 157 مليار دولار.
دخل رئيس البلاد، شي جين بينغ، على خط رأب التصدعات المالية والاقتصادية، من خلال إجراءات ذات “روحية ماوية” (نسبة إلى سياسات الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الشيوعية)، تمثلت بفرض مزيد من القيود وتعزيز الرقابة، وقرار إنشاء صندوق لتثبيت الأسهم بقيمة 278 مليار دولار. ومثّل دخول الرئيس الصيني على الخط عاملا إضافيا لتلاشي ثقة هؤلاء المستثمرين ونفورهم في ظل النمو الاقتصادي الباهت، والأزمات التي لم يتم إيجاد حلول لها حتى اللحظة.
تلك المشاعر السلبية عبّر عنها كزافييه هوفاس، رئيس أسهم الأسواق الناشئة في شركة “كارمينياك” الفرنسية لإدارة الأصول، قائلا إن توظيف الأموال في الصين يتطلب الآن أن تكون “شجاعا، أو مطلعا، أو مجنونا”.
خلافا لسوق المال الصينية، كان أداء الأسواق الأميركية ممتازا العام المنصرم، فقد وصل مؤشر “ستاندرد أند بورز 500” الأميركي إلى مستويات قياسية عالية وسجل ارتفاعا بنسبة 14 في المئة. أمام هذا التناقض الكبير، يخيل إلى متابع المعارك الباردة المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين في السنوات الأخيرة، أن أزمة الصين تشكل فتحا مبينا للولايات المتحدة الساعية دوما إلى الحفاظ على هيمنتها العالمية المطلقة، سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا.
أميركا المنقذة
لكن في الوقت نفسه تقود الولايات المتحدة جهودا عالمية لمحاولة إعادة هيكلة مئات المليارات من الدولارات من الديون المستحقة للصين على الدول الفقيرة والنامية، فضلا عن المطالبة بتعديل ممارسات الصين غير المتناسبة مع اقتصاد السوق، مثل الدعم الحكومي، إضافة إلى المخاوف من الإنتاج الصناعي الفائض الذي يمكن أن يُغرق الأسواق الدولية بمنتجات رخيصة.
لربما يُفهم من هذا السعي الأميركي استغلالا للضغوط القائمة على الصين لتقديم تنازلات، إلا أن أزمات الماضي والدروس المستقاة منها، كانهيار سوق الأسهم الصينية عام 2015 الذي هز الأسواق العالمية، مصحوبا بانخفاض مفاجئ في قيمة اليوان، قد يذهب في اتجاه تحول مفاجئ في العلاقات الصينية الأميركية، وتداركا أميركيا لإنقاذ الصين من محنتها ومنع سقوطها في براثن ديونها.
بغض النظر عن موقف مختلف الأطراف الأميركيين من التعاون بين الصين والولايات المتحدة، لا شك أن هذا التعاون، إن حصل، قد يكرس مصلحة أميركا في ترسيخ السلام العالمي، وتوسع الأسواق، والتقدم التكنولوجي المتسارع، وتجنب سباق تسلح جديد، وجهود مشتركة للتعافي من الأزمات الاقتصادية العالمية، ومكافحة تغير المناخ.
اقتصادات العالم سلسلة دومينيو
فالصين دولة كبيرة يمكن لأي تحول في اقتصادها، سلبا أم إيجابا، أن يدفع بالنمو العالمي في الاتجاه نفسه، وأن يكون له تأثير مباشر على الدول الأخرى. فوفقا لجورج ماغنوس، الخبير الاقتصادي في مركز الصين في جامعة “أوكسفورد”، تمثل الصين نحو 40 في المئة من النمو العالمي، وتؤيد وكالة التصنيف الائتماني “فيتش”، هذه النظرية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الصين مسؤولة عن أكثر من ثلث النمو الذي يشهده العالم، فإن أي تباطؤ قي الاقتصاد الصيني لا شك ستكون انعكاساته دراماتيكية خارج حدودها.
أكثر من يتأثر بتباطؤ الاقتصاد الصيني هم مصدّرو السلع الأساسية والاستراتيجية. فالصين تستهلك “ما يقرب من خمس النفط العالمي، ونصف النحاس المكرر والنيكل والزنك، وأكثر من ثلاثة أخماس خام الحديد”، بحسب “الإيكونوميست”. ومع الانهيار الحاصل في القطاع العقاري الصيني، لا بد أن يخفض استهلاك هذه المواد، وتاليا ستحتاج الصين “كميات أقل من هذه الإمدادات، وسيكون ذلك بمثابة ضربات قوية لدول كثيرة من زامبيا، الى أوستراليا، “المورد الكبير للفحم والحديد”.
وعلى الرغم من انخفاض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 25 في المئة في النصف الأول من 2023 بسبب القيود التجارية الأميركية المفروضة على الصين، إلا أن الأخيرة مصدر إيرادات لآلاف الشركات الأوروبية والأميركية، حيث تفوق مبيعات هذه الشركات في الصين الـ10 في المئة من مبيعاتها الإجمالية، وتتعدى أرباحها مئات مليارات الدولارات نتيجة لذلك. فكيف إذا علمنا أن “تيسلا” و”كوالكوم” الأميركيتين تحققان نحو 20 في المئة وثلثي مبيعاتهما على التوالي في الصين. هذا عدا شركات عالمية كبرى، مثل “أبل”، و”فولكسفاغن”، و”بيربري”، التي تحصل على قدر كبير من إيراداتها من السوق الاستهلاكية الضخمة في الصين، وستتضرر مع مثيلاتها من انخفاض إنفاق الأسر، مع ما يعنيه ذلك من آثار غير مباشرة على الآف الموردين والعاملين في كل أنحاء العالم.
رب ضارة نافعة
من صاحبة “مبادرة الحزام والطريق” التي زرعت أموالها وتقنياتها في نحو 150 دولة لبناء الطرق والمطارات والموانئ البحرية والجسور، إلى عملاق اقتصادي يخشى الانهيار. قد تكون الحال التي أصبحت عليها الصين متنفسا للعالم الاستهلاكي نتيجة لانخفاض الطلب على السلع الأساسية، وبالتالي انخفاض الأسعار وتكاليف الاستيراد، ومرونة أكبر في سياسات الفيديرالي الأميركي والمصارف المركزية لجهة خفض الفوائد، إلا أن للصين ثقلها العالمي شئنا أم أبينا، وما لم يسارع “حكماء الاقتصاد” العالمي أمثال جانيت يلين وجيروم باول الى انقاذ التنين فلن تمر محنة الصين مرور الكرام من دون التفاف دولي حولها، وربّ ضرة نافعة.