حتى السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، كان نتياهو  ذلك السياسي الإسرائيلي المحنك الذي استطاع أن يسيطر على دفة الحكم لحوالى 16 عاماً، وقد سجل في تاريخ الدولة العبرية محطات عدة تخللها نجاحات وأخرى إخفاقات بل حتى إحراج للدولة في بعض الأحيان، لكنه بقي يسيطر على لقب “ملك إسرائيل” الذي منحه إياه مؤيدوه على رغم من أنه رئيس الحكومة الإسرائيلي الأول الذي استمر في رئاسة الحكومة بعد تقديم لائحة اتهام جنائية خطرة ضده، السجن فيها، وفق القانون الإسرائيلي، يصل إلى عشرات السنين.

حتى اللحظة، وعلى رغم من الحملة الشعبية المتزايدة ضده بعد عملية “طوفان الأقصى”، وفق ما تسميها حركة “حماس” و”السيوف الحديدية” وفق تسمية الإسرائيليين ومطالبته بالاستقالة، يرفض تحمل  إزاء هجوم “حماس” المباغت، مع أن عدة مسؤولين من حوله وقفوا أمام الناس وأعلنوا “تحمل المسؤولية عن الإخفاق”، كما فعل وزير دفاعه، يوآف غالانت، وقياديون أمنيون وعسكريون سابقون وحاليون.

ومع الانقسام الذي تعيشه إسرائيل اليوم، وبعد الإرباك والتأجيل المستمر للعملية البرية في غزة وعدم التقدم في ملف الإفراج عن حوالى 220 رهينة لدى “حماس”، وصف البعض نتنياهو بالقائد الضعيف غير القادر على إدارة  و”الخاضع لواشنطن” وجعل إسرائيل مرتبطة بها، وهو أمر بات يفقده شعبيته في أخطر فترة يمر بها ليس فقط متخذو القرار في إسرائيل من سياسيين وعسكريين بل تمر بها إسرائيل منذ 50 عاماً على الأقل بعد أن أصاب اختراق “حماس” الجنوب الإسرائيلي والسيطرة على أكثر المعسكرات حساسية أمنياً في المنطقة الحدودية، صميم الأمن الإسرائيلي وقوة استخباراتها وردعها.

فمع كل يوم لا تحسم إسرائيل الحرب ولا تتقدم في ملف عودة الرهائن يفقد نتنياهو شعبيته كرئيس للحكومة، بعد تحميله المسؤولية الكاملة عن كل ما حصل وهو أمر يضعه أمام نقطة فاصلة في حياته السياسية بل في شخصيته التي قلما وجدت إسرائيل شخصية مماثلة بحنكتها السياسية وقدرتها على العمل والصمود في أقسى الظروف.

وجه غير مألوف في إسرائيل

في 21 أكتوبر الجاري كان يفترض أن يطفئ نتنياهو شمعة ميلاده الـ76، لكن انشغاله على مدار الساعة في اجتماعات ماراثونية للكابينت الحربي، عاد ليثبت ما هو معروف عنه من نشاط وعمل أضعاف مساعديه الذين يصغرونه جميعاً بالعمر، وهذه صفة رافقته منذ صباه.

ولد نتنياهو بعد عام من إقامة دولة إسرائيل (1949) لعائلة كان لها أهمية اجتماعية وسياسية، لكنها كانت متوسطة الحال ولم يكن والده بن تسيون (بالعربية يعني اسمه ابن صهيون) يطمح يوماً إلى أن يكون ذلك البورغوازي، على عكس نتنياهو، على الرغم من مكانته وقيمته في المجال الأكاديمي الإسرائيلي والأميركي كمؤرخ، غير أن نتنياهو تأثر بشخصية والده وكذلك والدته تسيلا التي عملت مربية.

عندما بلغ 14 سنة، انتقل مع عائلته للسكن في الولايات المتحدة حيث بدأ والده العمل محاضراً في جامعة كورنيل، مما ساعد نتنياهو على إتقان اللغة الإنجليزية ولكنتها الأميركية وتعود على طبيعة الحياة في الولايات المتحدة وكل هذا انعكس مستقبلاً في شخصيته السياسية.

وعندما بلغ 19 سنة، عاد نتنياهو إلى إسرائيل والتحق في الجيش لمدة خمس سنوات، خدم خلالها في وحدة القوات النخبوية لكوماندوس رئاسة أركان الجيش، وهي الوحدة التي تعتبر أفضل وأهم الوحدات العسكرية في الجيش، وكان قائدها آنذاك إيهود براك.

خلال فترة خدمته في الجيش، التي طالما تغنى بها نتنياهو كلما أتيحت له الفرصة كإنسان ضحى في سبيل الدولة وخدم ليس أقل من غيره في الجيش، أصيب برصاصة طائشة من جندي في ذات الوحدة التي يخدم فيها وخلال عمليات خارج إسرائيل نفذها الجيش كاد نتنياهو يقع بالأسر مرة عند محاولة عبور وحدته قناة السويس، ومرة ثانية خلال عملية إنزال في سوريا حيث حاصرهم الجيش السوري لساعات طويلة واضطرت إسرائيل إلى تنفيذ عملية لإنقاذهم.

إلى جانب هذا يسجل نتنياهو كرجل عسكري مخلص لإسرائيل مشاركته في تنفيذ غارة إسرائيلية في عام 1968 استهدفت مطار بيروت، وفي عملية تعتبر في سجل الجيش الإسرائيلي أكثر العمليات حساسية وصعوبة وهي تحرير طائرة مخطوفة في مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب.

بعد تسجيل هذه المحطات المهمة له في الجيش عاد نتنياهو إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته الجامعية وحصل هناك على البكالوريوس والماجستير في  التكنولوجيا والعلوم السياسية من جامعة هارفرد، لكن مقتل شقيقه يونتان في عملية “عنتيبي” في أوغندا أثناء محاولة فرقته إنقاذ طائرة مخطوفة من قبل الفلسطينيين، اضطر العائلة للعودة إلى إسرائيل، وأصبحت هذه العملية مادة غنية يستخدمها نتنياهو في كل فرصة تتاح له للترويج لتاريخ عائلته الوطنية والمخلصة لإسرائيل وأمنها.

 

معهد لمكافحة الإرهاب

قبل أن يخوض نتنياهو الحياة السياسية، عمل في شركة لتسويق الأثاث وفي الوقت نفسه كان ناشطاً جماهيرياً بين اليمين الإسرائيلي وأسس معهداً خاصاً لمكافحة الإرهاب لإحياء ذكرى شقيقه يونتان، وخلال نشاطاته المتعلقة بمقتل شقيقه تقرب من شخصيات عسكرية وأمنية إسرائيلية بينهم موشيه أرنس الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية فأدخل نتنياهو إلى العمل الدبلوماسي وعينه ملحقاً سياسياً في السفارة الإسرائيلية في بريطانيا عام 1982 وعمل هناك أربع سنوات ليعود إلى إسرائيل وينخرط في الساحة السياسية من خلال الانتساب لحزب “الليكود”، ومن هناك واصل المعارك السياسية داخل حزبه حتى تولى رئاسته حيث تفوق عام 1988 على منافسه دافيد ليفي، الشرقي القادم من المغرب، وتبين أنه خاض مؤامرة عنصرية ضد ليفي كشرقي، وتم إنتاج فيلم خاص عنه السنة الماضية، مما أثار من جديد الجوانب السلبية لسياسة نتنياهو “الماكرة” كما وصفها البعض والتي يميز فيها بين الشرقيين والأشكناز بشكل واضح.

بعد توليه رئاسة حزب “الليكود” استمر نتنياهو بالتقدم في المناصب السياسية وتم ترشيحه عضواً في الكنيست وصولاً إلى رئيس قائمة “الليكود” لرئاسة الحكومة ليجلس على كرسي الرئاسة وهو أكثر الشخصيات المحنكة سياسياً في إسرائيل.

اعتاد نتنياهو إظهار نفسه كضحية لمنافسيه أو لوسائل الإعلام إلى حد كان يلقب بالممثل السياسي القدير لكن كثيراً من الخبراء والسياسيين اعتبروا هذه الصفة هي أكبر دعم لشعبيته حيث يقنع الجمهور الواسع بأنه ضحية ويكسب تضامنهم معه، وهذا ما جعله في ما بعد أول رئيس حكومة يواصل الجلوس على كرسي الرئاسة كمتهم جنائي تنتظره محاكمة خطرة وصعبة، ولعرقلتها وضع خطة “التعديل القضائي” فور تشكيل حكومته الأخيرة، التي أدت إلى شرخ وتصدع في المجتمع الإسرائيلي والجيش وانعكست تداعياته في الحرب الحالية على غزة، ليؤكد أكثر من مسؤول وقيادات أمنية أنه على رغم من وجود أسباب كثيرة ومعقدة لتأجيل العملية البرية، سواء متعلقة بالولايات المتحدة أو الرهائن أو الخشية من حرب إقليمية، يبقى الأمر الجوهري هو عدم استعداد حوالى 350 ألف جندي احتياط تمرد معظمهم خلال الأشهر الثمانية الأخيرة على أوامر الجيش بعد انضمامهم إلى حملة الاحتجاج ضد نتنياهو وقد وقعوا مطلع هذا الشهر في شراك الحرب المفاجئة على غزة وهم غير مدربين أو قادرين على التوغل في غزة، كما حذر رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين.

“قائد الانقسام” الإسرائيلي

استقطبت محطتان بارزتان الاهتمام في حياة نتنياهو السياسية كشخصية فضلت مصالحها الشخصية على مصالح المواطنين وحتى على مستقبل ومكانة إسرائيل حيث أسهم بشكل فعال في إحداث انقسام داخل المجتمع الإسرائيلي بل واصل العمل في تعميق الشرخ.

المحطة الأولى عندما نجح نتنياهو في إثارة الإسرائيليين ضد اتفاقات أوسلو، التي وقعها إسحق رابين، واعتبرها اتفاقات تقضي على حلم الصهيونية والحفاظ على أرض إسرائيل الكبرى والقدس العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل. وأثار من خلال حملته الواسعة ضد أوسلو، بقدرته السياسية والشعبية، كراهية ضد كل صوت يدعو إلى سلام مع الفلسطينيين ونجح في استقطاب واسع بين اليمين واليمين المتطرف، الذي وصل إلى حد اغتيال إسحق رابين.

ومع مرور 30 عاماً على هذه الاتفاقات عاد الإسرائيليون وأظهروا الدور الخطر لنتنياهو الذي أدى إلى اغتيال رابين، ومن ثم إحباطه لكل أمل من أجل تسوية سلمية مع الفلسطينيين، كانت ستختصر سفك الدماء والقتل والاضطرابات بينهما.

وفي دورته الأخيرة الحالية، ستسجل في تاريخ نتنياهو محطة ثانية مشابهة لاغتيال رابين إذ إن خطة “التعديل القضائي” التي أخرجت مئات الآلاف إلى الشوارع أحدثت شرخاً وتصدعاً غير مسبوقين في تاريخ إسرائيل جعلتها في أضعف وضع لها بعد السابع من أكتوبر، لتكون سقطة لـ”ملك إسرائيل”، الذي سجل تاريخه الحافل نسيجاً من الإنجازات ورفع مكانة إسرائيل عالمياً ومن الإخفاقات وإضعاف الدولة العبرية التي تقف اليوم أمام فترة فارقة في تاريخها.