تنقسم الاحزاب العربية إلى عدد من المجموعات أبرزها ثلاث، الأولى ذات خلفية دينية إسلامية بالدرجة الأولى، والثانية ذات خلفية قومية عروبية بالدرجة الأولى أيضاً، أما الثالثة فهي أحزاب تنتمي إلى أقطار معينة في العالم العربي وتعبر عن الشخصية الوطنية.
إذا أردنا أن نفتح ملف الأحزاب في العالم العربي فإننا نمضي أولاً مع المجموعة الدينية التي اتخذ بعضها شكل الحزب السياسي بينما اتخذ البعض الآخر شخصية دينية تتوافق مع أهداف الأحزاب القائمة.
ونبادر هنا فنؤكد أن مفهوم الحزب السياسي في الوطن العربي مطاط بطبيعته وقد لا يعبر في بنائه وأسلوب عمله تعبيراً دقيقاً عن النمط السائد للأحزاب السياسية المعاصرة في غرب أوروبا وغيرها من المناطق التي تأخذ بالأسلوب الديمقراطي التقليدي والذي أقره شراح القانون الدستوري ومن أبرزهم الفقيه الفرنسي موريس دوفرجيه.
الأصل في الحزب أنه جماعة بشرية تعتنق فكراً واحداً وتستعين بالسلطة لتحقيق أهدافها لأن غياب السعي إلى السلطة يسقط تماماً مفهوم الحزب ويجعله مجرد جمعية تعاونية، فاستهداف السلطة شرط أساسي للوصول إلى الحكم وفقاً للنظرية العامة للأحزاب السياسية بمفهومها الحديث.
وليس شرطاً أن يولد الحزب بكيانه الكامل لكي يتوافق مع المفهوم العصري للحزب السياسي وقد يبدأ بجماعة ذات إطار فكري أكاديمي مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الجماعة (الفابية) في بريطانيا والتي أصبحت في ما بعد نواة لحزب العمال البريطاني.
وقس على ذلك عشرات الأمثلة لتجمعات بشرية ذات وحدة فكرية تحولت إلى حزب سياسي في ما بعد وأصبحت ذات تأثير واسع في حاضرها ومستقبلها المتطور وفقاً للقناعات التي يمضي بها أصحابها والتحولات التي تطرأ على بعض الأفكار فتجعلها أقل راديكالية وأكثر مرونة وفقاً للواقع الذي يحيط بها.
ولو طبقنا هذا الأمر على الأحزاب الدينية في العالم الإسلامي لوجدنا أنها تستند في مجملها على منطق الحاكمية في الإسلام ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ۚ ولا تكن للخائنين خصيماً﴾ وهو ما يعني الاستناد في النصوص المقدسة إلى القرآن الكريم والسنة المؤكدة، وهي مصادر الشرعية بالنسبة إلى الأحزاب الدينية في المشرق على رغم أنها تحمل في طياتها جذور الاختلاف مع غيرها والسعي نحو تأكيد ذاتها وتعظيم تأثيرها وغالباً ما تقوم على أساس الطاعة العمياء بسبب قداسة النصوص التي تستند إليها والأفكار التي تعتنقها.
وهذه الأحزاب وليدة ظروف معينة ومناخ سياسي سائد وبيئة ثقافية حاضنة، فـ حزب اللة مثلاً في لبنان يمثل اللبنانيين الشيعة مع غيرهم من الطوائف التي تؤمن بتوجهات إيران وتتخذ مواقف إقليمية متسقة مع تلك التوجهات التي تدعم سياسات إيران الإقليمية والدولية.
لقد تضخمت تأثيرات “حزب الله” اللبناني لتغطي مساحة واسعة من سياسات الدولة اللبنانية بجميع طوائفها ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل امتد الأمر لكي نجد تحت مظلة الحزب ساحات للمواجهة العسكرية مع الغير مثلما رأينا الحرب الحوثية عند منطقة المضايق بباب المندب جنوب البحر الأحمر، فضلاً عن مناطق تأثير أخرى تدفع فيها إيران إلى التصدي للمصالح الأميركية واصطياد جنودها، لذلك فإننا نصنف “حزب الله” لا على أنه حزب ديني بل هو حزب سياسي بالدرجة الأولى له أجندته وتطلعاته التي تتبنى سياسات إقليمية تجعل إيران طرفاً في كثير من سياسات المنطقة.
وحقيقة الأمر أن الدولة الفارسية -بما لها وما عليها- تسعى إلى أن تحيل الوضع الذي كان فيه شاه إيران -شرطي الخليج- إلى وضع أكثر اتساعاً يجعل حكم الملالي مركز الثقل والرقم الصعب في المنطقة.
لقد نجح الإيرانيون في تصدر المشهد وقد قال أحد المسؤولين الكبار في طهران ذات يوم أن أربع عواصم عربية في أيديهم، مدعياً أن (بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت) تدور كلها في فلك إيران وليس هذا وصفاً دقيقاً لما يجري فنحن لا ننكر أن هناك تداخلاً في العلاقات سلباً أو إيجاباً بين تلك الدول العربية وإيران ولكن الغطاء الأكبر هو في النهاية غطاء عقائدي يخفي التطلعات السياسية والأدوار المتصلة بإيران كلاعب كبير ومؤثر في الصراعات التي تدور في المنطقة، وتحاول كل الأطراف استخدام القضية الفلسطينية باعتبارها “قميص عثمان” الذي تستتر به كل التوجهات الإقليمية في واقعنا الإسلامي المعاصر.
ونعود لكي نؤكد هنا أن “حزب الله” هو نمط خاص بين الأحزاب لا في العالمين العربي والإسلامي وحدهما بل بين النظم الحزبية القائمة حالياً، فإذا انتقلنا إلى النمط الثاني من الأحزاب وهي الأحزاب القومية فإن حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين وقس عليهم طابوراً طويلاً من الحركات العروبية تحت مسمي أحزاب سياسية، فلقد أسس زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وصلاح البيطار وغيرهم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تولى السلطة في دولتين عربيتين من قبل هما سوريا والعراق وكانت له أجنحته القطرية في دول أخرى مثل لبنان والأردن.
لقد اصطدمت تلك الحركات العروبية بالحركة الناصرية وتمكن البعثيون من إسقاط دولة الوحدة في سبتمبر (أيلول) 1961 حتى تشرذمت بعد ذلك الحركات القومية انطلاقاً من تطورات القضية الفلسطينية التي تمحورت حولها وظلت تعتبرها الثابت المستقل في كل التطورات التي جرت بعد ذلك حيث تراجع المشروع القومي العروبي لمصلحة المشروع الديني الإسلامي فمنذ رحل عبدالناصر خفتت النغمة القومية وتصدر الإسلاميون المشهد في كثير من الدول العربية والإسلامية وأصبحت الأحزاب ذات طابع سلفي يمزج بين الدين والسياسة ولا يحقق دوراً واضحاً في الحياة السياسية العربية وضعف المفهوم الحزبي بشكل واضح.
وإذا انتقلنا إلى النموذج الثالث من الأحزاب السياسية ذات الطابع القطري المحلي فإننا نواجه أحزاباً مصرية قديمة بدأت منذ الحزب الوطني الأول وحركة العرابيين داخله إلى أن ظهر الحزب الوطني الكبير بقيادة شاب مصري واعد رحل في مطلع الثلاثينيات من عمره وأعني به زعيم الحزب الوطني الأصلي مصطفى كامل باشا إلى أن قامت ثورة 1919 ورفعت شعارات وطنية وليبرالية وعلمانية تمكنت بها أن تكتسح الشارع المصري في إطار وحدة وطنية بين الهلال والصليب على أرض مصر.
وظل حزب الوفد متصدراً المشهد حتى ثورة يوليو (حزيران) 1952 عندما مضت البلاد في طريق مختلف يقوم على تنظيم حزبي واحد بدءاً من هيئة التحرير مروراً بالاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ثم حزب مصر حتى وصلنا إلى الحزب الوطني الذي أنتهى بثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 لكي تظهر الأحزاب السياسية الفرعية في مصر مثلما هو الأمر في الدول التي تأخذ بالتعددية الحزبية في أنحاء الوطن العربي.
وهكذا مضت مسيرة الأحزاب السياسية في عدد من الدول العربية فعرف العراق – مثلاً – حزب الدعوة الذي أفرخ قيادات على المسرح السياسي بعد سقوط نظام صدام حسين، فلقد وعى الجميع أن الأحزاب لا تكون مؤثرة ما لم تنبع من الشارع لكي تكون معبرة عن إرادة الجماهير التي تتمسك بالثوابت القومية والطقوس الدينية على رغم تراجع أنماط الثقافة ومظاهر الحداثة والدخول في صدام بين الضغوط الخارجية والإرادة الوطنية.
ولحسن الحظ فإن صحوة عربية إسلامية تحترم المعاصرة وتؤمن بمنطق التطور وجدت طريقها إلى السلطة خلال السنوات الأخيرة ونذكر في هذا الصدد المؤشرات الحالية في دول مثل مصر والسعودية والجزائر والمغرب، كما أن عودة العراق إلى أحضان أمته العربية تمثل إضافة إيجابية للمشهد العام.
ولا يمنع ذلك من الإشارة في أسى وألم إلى الأوضاع الصعبة في سوريا وليبيا والسودان واليمن وغيرها من الدول التي تحملت شعوبها أعباء لم يتوقعها أحد حتى جاءت كارثة الحرب على غزة لكي تكون ناقوساً يدق للجميع تأهباً لتحديات جديدة وأزمات قادمة واستهدافاً للعرب والعروبة على نحو غير مسبوق.