انتهت جولة وزير الخارجية الأميركي الخامسة في عدد من الدول العربية وإسرائيل إلى فشل معلن في ما خص البند الأول في برنامجها، فالجولة التي كان عنوانها الأساسي التوصل إلى اتفاق بين اسرائىل و”حماس” وتهدئة في غزة تتيح تبادلاً للأسرى وتدفقاً للمساعدات الإنسانية، وكان عنوانها المضمر الثاني إنجاز تسوية مع حزب الله” سعت إليها واشنطن عبر المبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين، لم تتمكن من الوصول إلى أهدافها.
الاتفاق الذي جرت صياغته في باريس بين ممثلي الولايات المتحدة ومصر وقطر اصطدم بملاحظات “حماس” ورفض حكومة بنيامين نتنياهو، فلم يتوقف القتال بل هو يهدد بالدخول في مرحلة جديدة خطرة من التصعيد بمنطقة رفح الحساسة على حدود مصر، فيما يزداد احتمال شن إسرائيل حرباً واسعة ضد “حزب الله” في لبنان مع تصاعد وتيرة الهجمات اليومية المتبادلة وتضمينها عمليات اغتيال مختارة تنفذها القوات الإسرائيلية.
كانت الصيغ التي أسهمت واشنطن في وضعها من أجل التهدئة بغزة وعلى الحدود اللبنانية شبه جاهزة عندما بدأ أنتوني بلينكن جولته الخامسة، وفي ختامها بدا أن مساعيه فشلت في إيجاد أرضيات مشتركة أوسع مع بنيامين نتنياهو، الذي فضل أن يعقد مؤتمراً صحافياً منفصلاً عن مؤتمر وزير الخارجية الأميركي ليؤكد فيه أولوية المعركة العسكرية في رد مباشر على تحفظات الرئيس الأميركي جوزف بايدن وتنبيهات وزير خارجيته.
كان بايدن أعلن أن السلوك العسكري الإسرائيلي في غزة “تجاوز الحد” وبات “مبالغاً فيه”، وشدد على المضي في إنجاز اتفاق الهدنة، فيما انتقد بلينكن عمليات تل أبيب التي تستهدف رفح، وشدد خصوصاً على “ضرورة مراعاة المدنيين”، معتبراً على النقيض من نتنياهو أن رد “حماس” على مشروع اتفاق الهدنة يشكل مدخلاً محتملاً لحل تفاوضي.
سار نتنياهو في خط معاكس تماماً، أمر قواته بالاستعداد لـ”حسم المعركة في رفح وإجلاء النازحين” الذين يفوق عددهم المليون فلسطيني، فيما كان قائد الجبهة الشمالية يوعز بالاستعداد لمعركة في لبنان جرت تدريبات مكثفة تحضيراً لها.
واعتبر نتنياهو في رد مباشر على بلينكن ورئيسه أن “الاستسلام لمطالب حماس السخيفة لن يؤدي إلى تحرير الرهائن، ولن يؤدي إلا إلى مجزرة أخرى”، وأعلن قائد القوات الإسرائيلية في الشمال الجنرال أوري غوردين “نحن نعمل من أجل تغيير الواقع الأمني (مع حزب الله) ونواصل الاستعداد لتوسيع الحرب وشن هجوم، وهذه هي مهمتنا”.
في حالتي غزة ولبنان، بدت الولايات المتحدة على خلاف مع القيادة الإسرائيلية، ولم تبخل في إرسال الإشارات حول هذا الاختلاف من تصريحات بايدن ومساعديه إلى قرار فرض عقوبات على أربعة من رموز المستوطنين المتطرفين.
وحرصت إدارة بايدن على احتواء الحرب في غزة وعدم توسيعها، ومنعت هجوماً إسرائيلياً واسعاً على لبنان، وأبلغت إيران أنها لا تريد حرباً معها، لكن وقائع الأرض ما زالت توفر وقوداً للمشروع الإسرائيلي المتطرف بما يلبي حاجات ومصالح نتنياهو الخاصة، وفي المقابل لا يتوافر أمام “حماس” أي فرصة غير القتال أو الاستسلام.
وبين خصمين “نهائيين” من هذا النوع، وعشية انتخابات أميركية رئيسة حاسمة، تجد إدارة بايدن نفسها مهددة، ليس فقط بإمكانية فقدان الردع في منطقة حساسة، وإنما بفقدان الدور الذي لا يمكن لأحد غير الولايات المتحدة أن تلعبه بسبب علاقتها التاريخية بإسرائيل وشبكة مصالحها المتشعبة مع العالم العربي.
أصيبت هذه العلاقات بصدمة نتيجة السلوك الإسرائيلي، فيما فتح الموقف العربي والإسلامي أمامها آفاقاً تمتحن قدرة أميركا ورغبتها في إيجاد الحلول، في إسرائيل تظهر الشقاق بوضوح.
تناولت صحيفة “نيويورك تايمز” خلفيات “الافتراق” الأميركي- الإسرائيلي فرأت أن بلينكن حاول في محادثاته مع نتنياهو “ضمان وقف النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وبعد ذلك الوصول إلى عملية سلام أوسع في المنطقة”، لكن إحدى العقبات التي واجهته “كانت الضغوط السياسية الداخلية الكبيرة التي تواجه رئيس الحكومة”.
وهنا يكمن مأزق الصراع الدائر، فإسرائيل كما خصومها في غزة و”محور المقاومة” بقيادة إيران لا يرغبون في رسم أفق فلسطيني لما بعد المعركة الدائرة، على رغم القناعة المتجددة في العالم، والعالم العربي خصوصاً بأن وضع حد للحروب المتكررة ومشاريع الاحتلال والتهجير لا يمكن أن يتم إلا بالسير الصريح في مشروع حل الدولتين، وهو ما سمعه بلينكن مرة أخرى في السعودية وأكد عليه وزراء الخارجية العرب الذين اجتمعوا في الرياض.
والولايات المتحدة التي تضغط لمنع توسع الحرب إقليمياً، خصوصاً نحو لبنان، لم تتخذ موقفاً حاسماً في شأن استمرار المعركة في غزة، وإنما أبدت ملاحظات على شكلها، ما يسمح لنتنياهو بمواصلة حربه وربما توسيعها لتشمل “حزب الله”، تحت الشعار الذي يثير تعاطف الإسرائيليين ورغبتهم في الخلاص مما يعتبرونه تهديداً وجودياً في الشمال والجنوب.
وفي الشروط الراهنة لطبيعة الصدام يصعب تفادي انفجارات أكبر، ما لم تكن هناك خطة سلام بديلة جدية ومقنعة، لقد دعت “واشنطن بوست” إلى تغيير للنظام في إسرائيل يطيح بنتنياهو وتحالفاته العنصرية، وأميركا يمكنها أن تلعب دوراً مؤثراً في تحقيق ذلك، لكن هذا التغيير الذي يبدو مطروحاً بقوة داخل إسرائيل، لا يكفي وحده إن لم يكن مقترناً بتبنٍ واضح من جانب أميركا لمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، وبضمانات منها بالسير في تحقيق سلام شامل ودائم.
وهذا لن يحصل بين ليلة وضحاها، وحتى ذلك الوقت لنا أن نتوقع مجازر جديدة في رفح وغيرها، وحرباً ضد لبنان يمكن أن تجر إيران للدفاع عن “درة تاجها”، أو إلى مواصلة الصبر الاستراتيجي، والنتائج معروفة سلفاً: خراب عميم في لبنان ومأساة لا تنتهي في فلسطين ودفع حثيث لمنطقة بكاملها نحو التطرف.