سواء اعتبرت الشعبوية أيديولوجية “ناعمة”، أم أسلوباً سياسياً، أم استراتيجية انتخابية، فإن الشعبوية في كل مكان تعمل على تعزيز شخصنة السلطة، فضلاً عن الاستبداد المفترض إلى حد ما، وبطرق مختلفة ودرجات متباينة بين بلد وآخر.
في عمل جماعي نُشر تحت إشراف آلان ديكهوف وكريستوف جافريلوت وإليز ماسيكارد، قبل ثلاث سنوات وصدر عن معهد العلوم السياسية في باريس، حمل عنوان “التحدي العالمي”، تم تحليل الشعبوية في السلطة بدقة من دون الاقتصار على الحالات الأوروبية، من خلال فهم الأسس الاجتماعية لبعض الأنظمة الاستبدادية القمعية التي تستخدم أيضاً، من بين أمور أخرى، الذخيرة الشعبوية لإعادة انتخابها من قبل الأغلبية العرقية أو الدينية التي تبحث عن حام أو منقذ في مواجهة المخاطر التي تهددها.
إلى جانب الرؤى المفيدة حول أسلوب الشعبوية وخطابها، تتمثل المساهمة الرئيسية لهذا الكتاب في توفير عناصر التحليل المقارن للطرق التي تصل بها الشعبوية إلى السلطة، وتمارسها، وتحافظ عليها. فمعظم القادة الشعبويين الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين للنظام هم في الواقع ممثلون كانوا حاضرين في المشهد السياسي لفترة طويلة، وغالباً ما يكونون جزءاً من “النظام”. بمجرد الوصول إلى السلطة، يصبح الحفاظ على هذا الادعاء بأنه مناهض للنظام أكثر صعوبة، بخاصة بعد الاحتفاظ بالسلطة لفترة معينة.
تبدو الحركات الشعبوية متنوعة للغاية ويجب تحليلها جميعاً من منظور تاريخ محدد، يأخذ في الاعتبار النظام السياسي والمؤسسي المعمول به في كل بلد، وفي السياق المتطور للمجتمع الذي تحكمه. وبالتالي، لا صعود لشعبوية موحدة ومتجانسة، بل ظهور حركات شعبوية مختلفة، على الرغم من أنها تعتمد على بعض الخصائص المشتركة الرئيسية مثل عدم الثقة بالقادة، والتشاؤم بشأن المستقبل، والسخط الشعبي من الحالة الاقتصادية، والاستياء من عدم المساواة، والهجرة، والمخاطر الأمنية.
تُظهر الحالات المختلفة التي تمت دراستها في هذه المجموعة على وجه التحديد استخدام دوافع بديلة لإدامة هذا الموقف المناهض للنظام على حساب الديموقراطية التقدمية التي مكنت من صعودهم السياسي. وهم يفعلون ذلك من خلال ادعائهم مبدأ أولوية الإرادة الشعبية التي يزعمون أنهم يجسدونها بالكامل وحصرياً. ويؤدي هذا حتماً إلى إضعاف القوى المؤسسية المضادة، أو فقدانها استقلالها، أو حتى إلى تآكلها تآكلاً أكثر تطرفاً. وليست مؤسسة القضاء هي وحدها ما تحاول الشعبوية بسرعة جعلها خاضعة للسلطة التنفيذية، حتى لو ظل هذا الهدف حاسماً في الانجراف الاستبدادي، إذ تمثل المنظمات غير الحكومية والجامعات ووسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي الجديدة والمحافظون المحليون ورؤساء البلديات المنتخبون على قوائم المعارضة أهدافاً للعداء المفتوح من السلطة الشعبوية. يضاف إلى ذلك تعريف يستند إلى خصائص هوية الشعب، ما يسمح بالتشهير بالمعارضة باعتبارها “خارج الشعب”، وغالباً ما تكون متحالفة مع الأجانب. وتظهر الشعبوية في السلطة متناغمةً مع الاستبداد كما يتضح من رسم الخرائط الغنية والمبتكرة الموجودة في هذا العمل البحثي. وتختلف أشكال هذه التجاوزات الاستبدادية تمام الاختلاف بين “نزع الديموقراطية” من دون قول ذلك كالحالة الإسرائيلية ضمن تحالف الليكود والصهيونية الدينية، وبين التوجهات المعادية لليبرالية المزعومة بصوت عالٍ في المجر، ولكن دوافعها تظل كما هي تقريباً: تفاقم مسائل الهوية بسبب رفض الأجانب، المهاجرين، والأقليات، وما إلى ذلك، وتمجيد حقوق “الشعب الأصيل” والمحسوبية المؤسسية التي تغذي دائرة مقيدة حول السلطة، بينما تروي أبعد من ذلك لدعم علاقات التبادلية الراسخة في كثير من الأحيان بطريقة واضحة.
لكن يبدو أن توافر عوامل الاستمرارية لهذه الشعبوية في السلطة، هو مزيج من الشروط الذاتية والموضوعية التي تجسد جدلية فن الديمومة بالنسبة إليها. أولاً، العضوية الاجتماعية، وهي المصفوفة الأيديولوجية لكل الأنظمة الشعبوية، حيث تحظر الأمة العضوية، ذات البعد الأسطوري، بوصفها نتاج المصير البطولي أو النظام الطبيعي للأشياء، والتي تكون التعبير التلقائي عن الانسجام الاجتماعي بين الشعب وقائده، من دون النظر في التسلسل الهرمي الطبقي، فيما يشكل الصراع الطبقي الذي يثيره اليسار انحرافاً عن هذا النظام وعن هذا التسلسل الهرمي الطبيعي، الذي يؤدي إلى الفوضى وعدم اليقين الذي تنزلق إليه المجتمعات.
ولذلك فمن المناسب محاربة هذه الأفكار واستئصالها من دون أدنى تهاون، والعودة إلى النظام حتى تقوم الدولة بتنظيم الأمة اجتماعياً وسياسياً. ثانياً، استخدام القوة، قوة الدولة والقوة القسرية، حيث تصبح السيطرة على المجتمع معممة إلى درجة إنتاج حالة من الخوف، تكون حائلاً بين الدولة والحركة الاحتجاجية الشعبية.
والركيزة الثالثة هي السيطرة السياسية على الأجهزة الصلبة، الجيش والجهاز الأمني. ورابعاً، تواطؤ السلطات الأدبية والأخلاقية، كالمؤسسة الدينية والمثقفين والمجتمع المدني والصحافة، وهي وسائط تلعب دوراً أساسياً في ترسيخ الأسلوب الشعبوي لدى الرأي العام.
وخامساً، التحالف مع الرأسمالية المحلية ذات الطبيعة العائلية والنزوع الاحتكاري، ويبدو هذا العامل مركزياً في بلدان مثل المجر والبرازيل وربما في حالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وأخيراً، فإن الركيزة الأساسية لدى الشعوبية هي أيديولوجية الخلاص. فهي تعيد إنتاج نفسها دائماً وبشكل متواصل بوصفها خلاص الشعب المقهور من نخبه، وبالتالي عبوره نحو الازدهار، ليبقى ذلك العبور رهناً لحالة الصراع الدائمة بينه وبين النخب.