“الزمن”، “الذات”، “الأفق”، “القلق”، “العمر”، “المكان”، “القرية”، “الأسطورة”… وغيرها الكثير.. هي مفردات وثيمات تشكّل الهوية الشعرية ذات البُعد التأملي لسلمان زين الدين. وتتعدّد هويات سلمان زين الدين، فهو كاتب وشاعر وناقد، له كتابان في “الأدب الريفي”، وفي النقد عشرة كتب وفي الشعر ثمانية، منها مجموعة شعرية لليافعين. في الشعر، ينحاز إلى قصيدة التفعيلة وإلى الصفاء الروحي عند كتابتها، ويبحث في الشعر عمّا هو أبعد من السائد ومن التقليدي، وثمة في قصائده ما يشتبك مع ذات الإنسان في علاقتها مع الوجود ومع ما هو خارج الوجود، مع الحياة، ومع الموت. وفي النقد، ينحاز إلى النقد الأكاديمي المحترف، وفي كتابته الشعرية لليافعين، ينحاز إلى وصل ما انقطع بين الأجيال العربية الجديدة وبين لغتها العربية بفعل الهجوم الإلكتروني وتشظي العلاقة مع الكتاب. وقبل كل شيء ينحاز إلى براءة الريف التي تتشظى أيضًا كلما عبرنا من زمن إلى زمن.    

يكتب زين الدين في الصحافة النقدية منذ أكثر من ثلاثين عامًا ودون انقطاع، بدأها في صحيفة “النهار” مع الشاعر شوقي أبي شقرا، ثم في صحيفة “الحياة” مع الشاعر والروائي عبده وازن، وحاليًا في “الإندبندنت عربية”، إضافة إلى صحف ومجلات أدبية أخرى، ما يجعله يشكّل بذاته مكتبة أدبية متفحصّة بدقة وباحترافية لكل الأجناس الأدبية. من كتبه النقدية “شهرزاد والكلام المباح”، “حين يروي شهريار”، “كان يا ما كان”، و”يا سادة يا كرام”، ومن مجموعاته الشعرية “دروب” التي نال عنها جائزة “سعيد فياض الشعرية”، “ضمائر منفصلة”، و”أحوال الماء” وآخرها “تفاح” (2023) وكتاب “حكايات شعرية” لليافعين. حاز شاعرنا أيضًا على جائزة “سعيد عقل” الشعرية عام 2015. عن تجربته الشعرية والنقدية كان لنا معه هذا الحوار.

(*) نبدأ من كتابين تضعهما تحت عنوان “أدب ريفي”… لماذا “أدب ريفي”؟

الكتاب الأول اسمه “القناديل والريح” وهو أول كتاب صدر لي، والكتاب الثاني التوأم المكمّل له هو “قفص الحرية”، هذان الكتابان أردتُ بهما أن أقبض على القرية اللبنانية قبل أن تزول. أنا ابن قرية لبنانية في محافظة البقاع، في قضاء راشيا، على مرأى من جبل الشيخ – جبل حرمون التاريخي، نشأت فيها، وانطلاقًا من إحساسنا بالزمن الذي أشرتِ إليه في سؤالك الأول، رأيت في مرحلة معينة أن هذه القرية في لبنان بدأت تيمّم شطر الزوال، وبالتالي العادات الجميلة أو التقاليد القروية بدأت تزول شيئًا فشيئًا مع تحوّل العالم إلى قرية واحدة ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التي ألغت المسافات وألغت أيضًا كثيرًا من العادات والتقاليد الجميلة في القرى. أحببت أن أقبض على هذه القرية التي تشكلتُ من مائها وهوائها وترابها وكتبت كثيرًا من الأوابد قبل أن تزول. وهذا ما فعله قبلي أمين نخلة في “المفكرة الريفية” وفؤاد سليمان وأنيس فريحة. أحببت أن أكتب تجربتي الخاصة التي تشكّل إضافة مختلفة عن التجارب السابقة، فلكلٍّ تجربته، وكثيرًا ما كنتُ أقول أنني مصاب بمرض الريف والحنين إلى الريف إلى أن كتبت هذين الكتابين. وفي السياق نفسه أقول من دواعي سروري أن هذين الكتابين قورنا بما أنتجه أمين نخلة وأنيس فريحة وفؤاد سليمان. وأذكر أن الناقد الصديق محمود شريح عندما صدر “قفص الحرية” قال معلّقًا على ذلك الكتاب إنه “مفكرة ريفية” طراز 2007 باعتبار الكتاب صدر في عام 2007.


(*) تقول في قصيدة “وصل” من ديوان “أحوال الماء”: “حين هبّت أغنيات الأمس من عليائها/ ألفيتني أبكي/… ورأيت الأمس يرخي ظله العذب على أغوار نفسي”، هل هو السقوط في الحنين لأزمنة الطفولة والشباب وكل ما لا يمكن استعادته كلما تقدّم بنا العمر؟

بالتأكيد، كلما تقدّم بنا العمر نحاول أن نستعيد ما تقدّم من عمرنا، مسألة الحنين هي في قلب العملية الشعرية، وعادة الشعراء يكونون مرهفي الحسّ ويكون إحساسهم بالزمن مرهفًا إلى حدّ كبير. لذلك كلما ثقُلت وطأة الزمن على عاتقنا نهرب إلى الزمن الطفل، إلى الطفولة، إلى البدايات، وهذا الهرب يتم بواسطة الكلام. نحن لا نستطيع أن نهرب على المستوى الفيزيائي فنهرب على المستوى النفسي وعلى المستوى اللغوي.

(*) هل هو المكان الأول، مسقط رأس كل صاحب كلمة مرهف تعيده أحاسيسه إلى مكانه الأول؟ وما الذي بقي فيك من ذلك المكان الأول، بعد أن غادرته؟

جدنا الشعري أبو تمام يقول: “كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبدًا لأول منزل”، نحن الذين نتعاطى الشعر والفنون نحنّ كثيرًا إلى مساقط الرأس، إلى مساقط القلب، كما يقول بعضهم، انتقلت من هذا المكان الأول إلى ضواحي بيروت، ولكنه لم ينتقل مني، ما زال يسكنني بعد أن كنتُ أسكنه على مدى سنوات طوال.

(*) في ديوانك “أحوال الماء” قصيدة مهداة إلى المفكر الراحل كمال جنبلاط وقصيدة أخرى الزعيم السياسي وليد جنبلاط، إذا عدنا إلى الماضي، هل سبق وانتميتَ إلى حزب سياسي خلال الحرب الأهلية؟ وهل ترى أنه على الأديب أن يكون له موقف سياسي في الحياة؟

عندما أصبحت في مرحلة المراهقة كنا نظن يومها أننا سنغيّر العالم، وكانت اللحظة التاريخية حينها تغلي بالأفكار الوطنية والقومية. وأسوة بكثيرين من أبناء جيلي، ظننتُ أنه باستطاعتنا أن نغيّر العالم وانخرطت في أحد الأحزاب المتأثر إلى حدّ كبير بفكر كمال جنبلاط. في بيتنا في القرية، وعيتُ على صورتين معلقتين على جدار صالون بيتنا، صورة القائد جمال عبد الناصر وصورة القائد كمال جنبلاط. طبيعي أن أحدنا يتأثر بنشأته لكنني اليوم أنعم إلى حدّ كبير باستقلالية التفكير، ولستُ منخرطًا في أي حزب أو حركة سياسية وأفضّل أن أبقى مستقلًا وأن أمارس فعاليتي النقدية.

برأيي بعد هذا العمر، أن التزام الكاتب أو الشاعر الوحيد ينبغي أن يكون لفنه وشعره ليس إلا. عندما نفعل ذلك نكون بشكل أو بآخر ملتزمين، لأن الفن هو الجمال، ولأن المجتمع الذي نحن منه بحاجة للفن وللجمال أيضًا.

(*) لديك أيضًا ست مجموعات شعرية، آخرها “تفاح”، الذي صدر خلال عام 2023، والملفت أنك تكتب الشعر فيما النقد يتوجه أكثر إلى الرواية، ما سر هذا التعاكس؟

حاليًا تُطبع المجموعة السابعة بعنوان “عصافير” عن “الهيئة المصرية العالمة للكتاب”، وقد أهديتها إلى عصافير غزة الذين لم يسمحوا لهم بالتحليق على الأرض، فصعدوا إلى السماء ليحلّقوا هناك. وأنا سعيد أنها المرة الأولى التي أطلّ فيها على “القارة” المصرية.

في البداية كنت أكتب النقد في كل الأنواع الأدبية. في المرحلة الأخيرة، لنعود إلى مسألة العرض والطلب، بعد أن استشرت قراءة الرواية وقلّت قراءة الشعر وقلّت نوعية الشعر المنتَج، أصبح المطلوب قراءة الروايات وقراءة ما يُكتب عن الروايات. وهذا يرتبط بسياسة المطبوعة التي نكتب فيها أو الموقع الذي نكتب فيه. لي عشرات المقالات في نقد الشعر، بينما أنا أستمتع كثيرًا عندما أنقد الشعر، لأننا في نقد الشعر ندخل في عمق النص أكثر مما نشعر عندما ننقد رواية، في الرواية نكون تقنيين إلى حدّ كبير، أما في الشعر فنحن نكون أنفسنا.

(*) لماذا لم تجمع كتاباتك النقدية في الشعر كما فعلتَ في نقد الرواية؟

لأن القراءة لا تهتم كثيرًا في هذا الحقل المعرفي. من هنا، حتى دار النشر، قد لا تجدين دار نشر تطبع لك في مجال النقد الشعري، أما فيما يتعلق بنقد الرواية فالأمر مختلف.

(*) بصفتك شاعرًا وناقدًا أدبيًا تكتب في عدد من الصحف والمجلات الأدبية، كيف ترى إلى الإصدارات الأدبية الجديدة، وخصوصًا أننا كنا قبل سبع سنوات نحكي عن استسهال كتابة الشعر، بدأنا اليوم نحكي عن استسهال كتابة الرواية؟ كأن كل شيء يفقد قيمته. ما رأيك؟

مع الأسف، هناك قانون العرض والطلب، كل شيء يكثر تقلّ قيمته. كانوا قديمًا يقولون “الشعر ديوان العرب”، ولكن في تلك المرحلة كان ثمة شعر حقيقي وفعلي. اليوم، كما يقول الناقد الراحل جابر عصفور “نحن في زمن الرواية”، ولكن أيضًا كثُر الروائيون وقلّت الروايات، كثُر الشعراء وقلّ الشعر. لا سيما بعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي أصبح كل من يعرف تركيب جملتين يزعم أنه شاعر، وتأتي مئات “اللايكات” لتجعله يصدّق نفسه بأنه شاعر. أنا أواكب الحركة الأدبية بكل أنواعها منذ ثلاثة عقود ونيّف، وبحكم هذه العقود الثلاثة، قيّد لي أن أقرأ مئات الروايات، وأستطيع القول أن هناك الغثّ وهناك السمين، وسيأتي يوم تتم فيه غربلة هذا الكمّ الكبير ولن يبقى إلا النوع. في التراث العربي مئات الشعراء ولكن كم هم الشعراء الذين نتذكرهم ونقرأ لهم. الزمن سيغربل، النقد مع الأسف غائب. الصحف غائبة. الصفحات الثقافية لم تعد موجودة. النقد الأكاديمي في الجامعات لا يقوم بدوره، وبالتالي نحن إزاء برج بابل شعري وروائي، والأمور مختلطة ببعضها إلى حدّ كبير. ولكن على الرغم من ذلك، يبقى ثمة أسماء كبيرة، سواء في الرواية أو في الشعر، وهذه القلّة تكفي.


(*) لديك ثمانية كتب في النقد، تتناول فيها روايات عربية وعالمية. من زاوية خبرتك في النقد، ومن حيث المقالات المنتشرة بين المواقع والصحف التي تتناول نقدًا لإنتاجات أدبية، هل نعيش حالة من الانحدار الثقافي وبتنا أمام استسهال النقد أيضًا وصحافة الاستنساخ؟

اليوم تحديدًا وقّعت عقدين لكتابين ليصبح العدد عشرة كتب في النقد، الأول بعنوان “على ذمة الراوي العربي” يتضمن قراءة لخمسين رواية عربية، والثاني بعنوان “على ذمة الراوي الأجنبي” يتضمن قراءة لثلاثين رواية مترجمة، هذه الكتب تتضمن نقدًا لـ442 رواية قرأتها وكتبت عنها. لا أريد أن أحكم على الآخرين، ليس أيّ كان أن يكتب النقد ويدّعي أنه ناقد. حتى أنا، بعد هذا العمر من الكتابة النقدية، لا أدّعي أنني ناقد، أقول أنني قارئ محترف وشخصيًا لا أحب الألقاب كثيرًا. وأقول نعم، نحن في مرحلة تراجع على كل المستويات، مع الأسف.

(*) في حديث لك بعد أن أتممت كتابك النقدي الأخير “في الرواية العالمية” تقول: “للمفارقة اكتشفت أنهم ليسوا متفوقين علينا في كتابة الرواية، فما كُتب في الرواية العربية لا يقلّ شأنًا عما كُتب في الرواية العالمية، مع الاعتراف أن هذا الجنس الأدبي هو غربي في الأصل بمواصفاته الحالية”. من النادر أن نجد كاتبًا عربيًا يحكي بأهمية ما ننتجه بالمقارنة مع الغرب، لماذا برأيك يقع أغلبية الكتّاب العرب في شرك التقديس للإنتاجات الأدبية الغربية؟

في مأثوراتنا الشعبية كانوا يقولون “الفرنجي برنجي”، نحن مع الأسف، كثيرون منا، مسكونون بعقدة نقص إزاء الآخر الغربي المتفوق. شخصيًا، لا أعاني من هذه العقدة، وبصدق أقول وبدون مجاملة، بعد قراءة ما يقارب المائة رواية المترجمة إلى العربية ومئات الروايات العربية، تبيّن لي بأنهم لا يتفوقون علينا في كتابة الرواية. لدينا أسماء روائية كبيرة في العالم العربي، لن أدخل في إطار التسميات، لكن أستطيع القول بكل ثقة بأن الرواية العربية المنتجة من قبل هؤلاء الكبار لا تقل روائيةً وأهمية ًعن الرواية الغربية. الفرق قد يكون في الأسئلة التي تطرحها هذه الرواية أو تلك، لاختلاف الواقعين الغربي والشرقي. وهنا على سبيل المثال، يُطبع لي حاليًا كتاب بعنوان “أسئلة الرواية الفلسطينية” في مصر. هذا الكتاب يتناسب مع اللحظة التاريخية التي نعيشها ويشتمل على قراءة في ثلاثين رواية فلسطينية. أهدف إلى القول إن الواقع الفلسطيني هو واقع خاص جدًا حتى ضمن الواقع العربي، بالتالي للرواية الفلسطينية خصوصيتها لأنها نتاج واقع سوريالي غرائبي مأساوي إلى حدّ كبير. من هنا، الأسئلة التي تطرحها الرواية العربية هي غير الأسئلة التي تطرحها الرواية الغربية، بلغاتها المتعددة، ولكن على المستوى التقني، الفن أصبح مشاعًا، فتقنيات الكتابة في كل الفنون، من الموسيقى إلى الشعر، إلى الرواية، إلى الرسم، هي تقنيات عالمية، قد تكون ولدت في هذه المنطقة أو تلك، ولكنها في نهاية المطاف أصبحت مشاعًا عالميًا، وكل من أوتي القدرة على الاطلاع والمتابعة والمواكبة يمكنه أن يستخدم هذه التقنيات وأن يبلي فيها البلاء الحسن.

(*) نشعر أن شعرك يقع في الروحي والتأملي الذاتي وفي الحميمي، أبي، أمي، قريتي… هل ترى أن الرواية يمكن أن تنفصل عن ذات كاتبها أما الشعر فلا يمكن إلا أن يُترجم روح الشاعر وسيرته الذاتية في مواجهة العالم؟

صحيح، في حال قارنّا بين علاقة كل من هذين النوعين بصاحبه، الشعر هو نتاج الأحاسيس والخيال والوجدان والعقل والعاطفة، هو نتاج الإنسان بكل مكوناته. الرواية مسألة مختلفة. في الرواية يحاول الكاتب أن يكون موضوعيًا، أن يكتب ما يوهم بالواقع، وما يؤكد على الواقع، وبالتالي، الملكات المستخدمة في كتابة الرواية أزعم أنها ملكات عقلية إلى حدّ كبير، هذا لا يصح في حالة الشعر، وأنت شاعرة وتعرفين ذلك جيدًا، نحن لا نستطيع أن نكتب الشعر ساعة نشاء، ولا نستطيع أن نكتب النوع الجيّد منه في كل الأوقات. نحن بحاجة إلى حالة شعرية نعيشها لكي نكتب. أكتب في أوقات تتملكني فيها حالة من الصفاء الذهني، بينما في حالة الحركة اليومية خلال النهار وفي ظل انشغالاتنا الكثيرة بما نغرق فيه من يوميات تصعب كتابة الشعر عليّ، هذا انطلاقًا من تجربتي الخاصة. على أي حال، نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى كتابة الشعر، لأننا إذا لم نكتب الشعر سنكون في حالة من الخلل في توازننا النفسي. نحن نهرب إلى الشعر، نتوازن بالشعر، فالشعر هو مبرّر وجودنا وحياتنا عندما تحاصرنا كل الأنواء المختلفة.


(*) اخترت القصيدة العامودية وقصيدة التفعيلة لكتابة الشعر، ونلتَ جائزة سعيد عقل للشعر عام 2015، هل لديك موقف من قصيدة النثر، وهل ترى أن ثمة عودة عن ما يسمى قصيدة النثر، وأن جوائز الشعر وهي قليلة عربيًا تفضّل القصيدة العامودية أو قصيدة التفعيلة؟ وأنت القائل “نحن في زمن تصحّر الشعر فيه”…

أنا لا أحب المتاريس الشعرية، وأتذوق الجمال حيثما يوجد، ولا يوجد عندي موقف سلبي من قصيدة النثر، ولا سيّما أن كثيرين من الذين كتبوا هذا الشكل الشعري قد أبدعوا وأجادوا، ولكنني شخصيًا لي وجهة نظر تتعلق بالشعر. أعتقد أن أحد مكوّنات الشعر الأساسية هي الموسيقى أو الإيقاع، وبالتالي عندما تخلو القصيدة من هذا المكوّن تكون قد خلت من عنصر أساسي وجوهري. ولكي لا تقيّدني القصيدة العامودية ولكي لا أتحلّل من الموسيقى والإيقاع، لجأت إلى قصيدة التفعيلة حيث أجد نفسي فيها إلى حدّ كبير. هذه القصيدة تتيح لي هامشًا واسعًا من الحرية ومن التحرّر من وحدة القافية وفي الوقت نفسه تحافظ على الإيقاع الموسيقي من خلال التفعيلة. على أي حال، للآخرين آراء مختلفة، الناقد كمال أبو ديب كان يعتبر أن شعرية النص تقلّ مع وجود الإيقاع أو الموسيقى، يعتقد أن الشعرية تتخطى العامل الموسيقي، لا أوافقه الرأي، ولكن هذا لا يلغي أن العملية الشعرية هي عملية تركيبية، هي طبخة ومقادير، إذا كان الشاعر طباخًا ماهرًا واستطاع أن يستخدم المكونات بمقادير معروفة ومدروسة ستكون الطبخة جيدة. أما إذا لم يتقن عملية الطهو الشعري، فلن تنجح الطبخة.

(*) ديوانك الأخير “تفاح” يحتوي على مضامين مستمدة من التاريخ الديني والتراث الأدبي والعربي، “آدم، حواء، هابيل، قابيل، سيزيف”، كأنك تصوغ رؤيتك للواقع وللأبدية من باب المعتقدات أو الأساطير، لماذا قصدتَ هذه الاستعادة؟

يقول أدونيس “الأسطورة هي مصدر مهم من مصادر الشعرية”، وبالتالي، الأساطير هي قصائد الشعوب الأولى، ونحن عندما ننظر إلى الواقع من خلال الأسطورة يصبح واقعًا شعريًا بامتياز، من هنا أنا استخدمت الأسطورة لكي أُسقط عليها الواقع الذي نعيش فيه. سيزيف هو رمز هذا الإنسان المتعب المناضل الذي يكدح يوميًا ويحاول أن يوصل الصخرة إلى أعلى الجبل، ثم تتدحرج الصخرة عليه وتقتله. لكل رمز أسطوري تمظهراته في حياتنا اليومية. وأنا فعلًا أجنح كثيرًا إلى الشعر التأملي بعيدًا عن الأغراض الشعرية التقليدية التي استُهلكت واستُنفدت. أعتقد أن الشعر التأملي يُغني الشعرية ويفتح لنا أبوابًا على جميل مجهول آخر. وهنا في هذا السياق، آخر قصيدة كتبتُها هي “حوار مع هيراقليطس” الذي يقول “لا يستحم المرء في النهر مرتين”. أعتقد أن الأسطورة وعالم الروح والصوفية هي من مصادر الشعرية التي لا تنضب.

(*) كيف تنظر إلى الفلسفة الروحية “التقمص” وأنت من بيئة تؤمن بالتقمص؟ وكيف تنظر إلى ما بعد الحياة؟

أنا من المؤمنين كما أن النهار والليل يتعاقبان، الفصول تتعاقب، السنوات تتعاقب، أيضًا الروح يُفترض أن تتعاقب في الأجساد المختلفة. هذه فكرة شعرية بامتياز وجميلة. ذات يوم كتبت قصيدة “فتنة الدرب” أقول فيها “كم من القمصان قد مزقتها عبر الزمان”، هذه الروح كما أن في كل ربيع تنبت الأزهار، في كل شتاء يأتي المطر لا نهاية لشيء في هذا العالم. كنتُ أشاهد منذ أيام فيلمًا توثيقيًا عن الأديب ميخائيل نعيمة أعدّه المخرج مارون بغدادي واستمعت إلى ميخائيل نعيمة بصوته الوقور، عبّر عن إيمانه أن الروح لا تفنى وتنتقل بين الأجيال بهدف الوصول إلى الحقيقة، ونعيمة يقول إنه إذا كان عمر واحد لا يكفي لكي نصل إلى الحقيقة فالروح ينبغي أن تتعاقب في أعمار كثيرة لكي تدرك الحقيقة في نهاية الأمر. تقول الآية القرآنية الكريمة “إذا سألوك عن الروح قل هي من علم ربي”، لن أتعالم كثيرًا ولكن من الجميل أن نؤمن أن الأشياء تتحول ولا تنتهي وبأن الأرواح لن تفنى وستبقى وموجودة.

(*) كتابك “حكايات شعرية” هي قصائد لليافعين، فكرة تميزت بها، ما الذي دفعك لكتابة شعر لليافعين، في حين كنا نحفظ في طفولتنا المدرسية شعرًا لإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس أبو شبكة وآخرين وكانت قصائدهم موجهة للكبار.

الفكرة جاءت أنه يوجد في تراثنا العربي وفي التراث العالمي الكثير من الحكايات والحكاية تُحفظ ومشوقة، حكاية الأرنب والسلحفاة، الأسد والفأرة، النملة والصرّار، وغيرها من الحكايات، أعدتُ صياغتها شعرًا بلغة قريبة من اليافعين، سلسة وبسيطة. توفَر للنص عاملان، عامل التشويق النابع من قصصية الحكاية وعامل الجمالية النابع من الشعر الذي صيغت به تلك الحكاية. صدر الكتاب بإخراج أنيق جدًا في قطر عن “جامعة حمد من خليفة” وتتخلله رسوم جميلة، ولكن للأسف هذا الكتاب انظلم، لم يوزّع بالشكل المطلوب ولم يصل إلى لبنان، وليس لديّ أي نسخة منه الآن. من المفيد أن نتوجه إلى الأطفال، وكان أحد الهواجس وراء هذه الكتابة أن أرمّم العلاقة بين الطفل العربي وبين لغته الجميلة. مع الأسف ما يقدّم أحيانًا كثيرة من نصوص في المحفوظات وفي النثر للأطفال يجعلهم ينفرون من هذه اللغة ولا يحبونها، لذلك كانت محاولة ترميم هذا الخلل من خلال “كتابات شعرية” الذي لم يأخذ حقه مع الأسف. وفي السياق، لديّ الآن كتاب مثل “حكايات شعرية” تناولت فيه قصصًا من التراث العالمي وصِغتها شعرًا بقصائد أقصر، ولكن لا يزال مخطوطًا بانتظار العثور على ناشر.

(*) يقول كافافي: “لم يعد لديّ احتمال لأي ألم/ إنني ألتجئ إليك يا فن الشعر/ أنت العارف شيئًا في الدواء/ حاول أن تخدّر الألم في المخيلة والكلمة”… لماذا يكتب سلمان زين الدين الشعر، هل هي خلفيتك الأكاديمية أم ترتبط بفعل روحي يحتاج إليه شاعرنا؟ وهل ستكتب الرواية يومًا بعد قراءتك ونقدك لمئات الروايات؟

كما قلتُ منذ قليل، نحن بحاجة إلى كتابة الشعر لكي نبقى على قيد التوازن النفسي في هذه الظروف العصيبة، الشعر هو ملجأ لنا، هو مبرّر حياة ومبرّر وجود، هو تلك الواحة التي نفيء إليها بعيدًا عن هذا التصحّر الذي نعاني منه على كل المستويات، ولذلك أكتب الشعر، وأوافق كافافي القول، فالشعر فعلًا دواء نحن بأمسّ الحاجة إلى تجرّعه، نحن المرضى حول العالم أجمع. ولن أكتب الرواية، لكنني عندما كنت في مرحلة المراهقة كتبت مائة صفحة من رواية، هي حكاية واقعية حصلت في قريتي، ولم أكمل كتابتها. ولن أكملها أبدًا، لأنني أجد نفسي في الشعر ولا يعنيني لا الجوائز ولا الانتشار ولا الشهرة، يعنيني أن أكون أنا وأن أقول ذاتي في النوع الذي أرتاح إليه بعيدًا عن الروايات، التي هي “أكاذيب مشروعة” كما سمّاها أحد رواد عصر النهضة العربية.