تُجري أطرافٌ لبنانيّة اتصالات مع الدول الغربية الفاعلة في محاولة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين حزب الله وإسرائيل، وهي جهود تعرّضت لاتهامات من قبل مؤيدي الحزب، ما دفع رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى التبرؤ من هذه المحاولات التي يساهم فيها وزير خارجيته عبد الله بوحبيب. نعلم أيضاً أنّ النائب السابق وليد جنبلاط دخل على خط هذه الاتصالات، بالتعاون مع نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني وحركة أمل، من أجل البحث عن مخرج مناسب للتصعيد المستمر بشكل يومي تقريباً منذ اندلاع المواجهات في غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
الصيغة التي تمّ بحثها لم تكن مناسبة لحزب الله، إذ أنّ إعلان وقف إطلاق نار بينه وبين إسرائيل سيضعه في موقف حرِج أمام حلفائه في غزة، خاصةً وأنّ تحركات الحزب حتى اللحظة لم تكن – بحسب تصريحات من قادة في حماس – على قدر التحديات التي يفرضها توسُّع نطاق العمليات العسكرية بعد عملية «طوفان الأقصى»، وما أعقبها من إعطاء الولايات المتحدة وعدد من الدولة الأوروبية ضوءاً أخضر لإسرائيل للقيام بعملية عسكرية بهدف القضاء التام على حركة حماس.
لكن ما البديل الممكن بالنسبة لتلك الاتصالات؟ ليس بإمكان الساسة اللبنانيين التفاوض على وقف إطلاق نار يشمل غزة. في الواقع، فإنّ مجرد دعوات لتأجيل العملية في سبيل حل مشكلة المخطوفين الأجانب في القطاع واجهت انتقادات عنيفة من اليمين المتطرف الشريك في حكومة نتنياهو، ومن شبه المستحيل أن تتمكن أي جهود دولية من دفع إسرائيل لإعلان وقف إطلاق نار الآن، كما اعتبرت تصريحات لكبار المسؤولين الإسرائيليين، مثل وزير الدفاع، أن التخلي عن العملية العسكرية البرية طرحٌ غير مقبول أبداً، مشددين على أهمية تحقيق أهدافهم بالقضاء التام على حماس.
وفي غياب البديل عن قيام حزب الله بالانسحاب منفرداً من المعركة، يبدو التدرُّجُ البطيء في التصعيد هو المسيطر على عمليات الحزب، مع حرصه حتى اللحظة على استهداف منطقة مزارع شبعا ونقاط عسكرية بالقرب من الحدود في الضربات التي يتبناها رسمياً، مع وجود خروقات عسكرية تستهدف عمق الجليل نفذتها فصائل فلسطينية.
منذ بداية الحرب وحتى أيام قليلة ماضية، كان التقييم الاستخباراتي الإسرائيلي والأميركي يتحدث عن عدم رغبة حسن نصر الله بتوسيع جبهة المعركة على الحدود اللبنانية، وبناءً على ذلك كانت الردود الإسرائيلية على عمليات حزب الله محدودة وموضعية في أغلب الأوقات، وتجنبت تحقيق إصابات بين المدنيين سواءً في سوريا أو جنوبي لبنان.
لكن كل ذلك تغيَّرَ مع قيام الحزب بنشر قوات تابعة لوحدة الرضوان على الحدود مع إسرائيل في الجنوبين اللبناني والسوري، حيث وصلت مجموعات قتالية تابعة للوحدة إلى قرى حدودية مع الجولان المحتل في سوريا، وبدأت بتحضير مدارج خاصة بالمسيرات الإيرانية ضمن قواعد عسكرية في محافظة درعا بحسب ما نقلت مصادر محلية، وفي الوقت ذاته رصدت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية انتشار مجموعات تابعة للوحدة على الشريط الحدودي جنوبي لبنان.
وتقول تقارير إسرائيلية إنّ وحدة الرضوان مؤلفة من مجموعات قتالية عالية التدريب ذات مهام هجومية، شاركت في الحرب السورية وتدرَّبت على عمليات التسلل نحو الجليل، وعلى تنفيذ مهام خطف وقصف بأسلحة ثقيلة، فضلاً عن امتلاكها تقنية التحكم بالطائرات المسيرة الإيرانية مثل شاهد 136، وسبق لمسؤولين عسكريين إسرائيليين بداية هذا العام، قبل انفجار التصعيد في غزة، أن اعتبروها التهديد العسكري الأكبر لدى حزب الله.
بناءً على تَصاعُد لهجة تصريحات الحزب والتحركات العسكرية وحشد قواته جنوبي سوريا، فإنّ التقييم الإسرائيلي اختلفَ خلال الأيام الماضية، حيث حذَّرَ رئيس مخابرات الجيش الإسرائيلي أهارون حاليفا من أنّ خطر اندلاع حرب عسكرية واسعة النطاق لم يعد منخفضاً. كما أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خلال تفقده الجبهة الشمالية أول أمس أنّ «حزب الله اللبناني قرَّرَ المشاركة في القتال». بدوره هدَّدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال جولة لتفقد الجنود والضباط في الجبهة الشمالية، بأنّ دخول حزب الله على خط المعركة سيؤدي إلى ضربات إسرائيلية «لا يمكن تصور حجمها».
تؤدي التصريحات الإسرائيلية وإعادة انتشار قوات حزب الله، بالإضافة إلى استمرار الضربات المتبادلة على الحدود، إلى طريق وحيد في غياب البديل؛ إذ سيكون انفجار مواجهة واسعة بين الحزب وإسرائيل، في ظل خوف كلٍّ من الطرفين من تصعيد الطرف المقابل بشكل مفاجئ، أمراً لا مفر منه على ما تُظهِر الوقائع حتى اللحظة.
تؤيد الظروف الإقليمية مثل هذا السيناريو، إذ يبدو أنّ طهران مطمئنةٌ إلى أنّ توسيع الجبهة مع إسرائيل والولايات المتحدة لن يطالها بشكل مباشر، فرغم ربط الولايات المتحدة تأكيدها على عدم رغبتها بتوسيع المعركة إقليمياً بتهديدات وحشود عسكرية كبيرة، لا يظهر أن واشنطن تريد ضرب طهران مباشرةً حتى في حال انفجار الوضع على الجبهتين السورية واللبنانية، خاصةً وأنّ توسُّعَ المعركة لتشمل الأراضي الإيرانية مرتبطٌ بشكل وثيق بموافقة دول الخليج على مثل هذا السيناريو، وهي موافقة من غير المتوقع أن تحصل في ظل أجواء عدم الثقة بين السعودية والولايات المتحدة، وفي ظلّ رغبة الرياض بتهدئة الأوضاع في الخليج والالتفات إلى تحقيق برنامج اقتصادي طموح.
ما يبقى من تلك التهديدات هو استهداف أذرع طهران في سوريا والعراق ولبنان، وهو ما يمكن لإيران المغامرة به في ظل تصاعد الأوضاع في غزة وتوجيه تهديد وجودي لأحد حلفائها الأساسيين في المنطقة، ما يضع مصداقية الحلف الذي صنعته ميليشياتها خلال العشرين عاماً الماضية على المحكّ. بذلك، ستكون طهران مستعدة لدفع الثمن عبر ضربة عسكرية لحلفائها مقابل منع انهيار هذا التحالف، المُؤلَّف من ميليشيات لديها قدرة على احتمال الضربات العسكرية أعلى بكثير من الدول والجيوش الرسمية النظامية.
من غير الواضح تماماً متى ستتدهور الأوضاع في الجنوب اللبناني إلى عمليات عسكرية واسعة، ولا مَن هو الطرف الذي سيكون البادئ بعمليات عسكرية تؤدي إلى مثل هذا السيناريو، لكنّ الأكيد أنّ مثل هذا الاحتمال أصبح اليوم هو الاحتمال الأكبر، وهو ما سيؤثر على كل من لبنان وسوريا بشكل مباشر.
الأجواء المنذرة بالحرب كانت على ما يبدو إشارة التقطها النظام السوري، الذي يرى فيها فرصة لتحقيق مكاسب إقليمية جديدة إذا ما سارت على طريقة حرب عام 2006، فقد صَعَّدَت الخارجية السورية من لهجة تصريحاتها وحذَّرَت إسرائيل في بيان لها مساء أول أمس الأحد من تفجير الوضع في المنطقة على خلفية قصف إسرائيل مطاري دمشق وحلب، كما أشارت تقارير لمواقع محلية مثل صوت العاصمة، إلى إصدار وزارة الدفاع في النظام السوري أوامر باستنفار كافة القطعات العسكرية والأمنية وسط وجنوبي البلاد، بما في ذلك المشافي العسكرية التي مُنِعَت فيها الإجازات وتمّ تعزيز مخازنها الخاصة بالأدوية والمعدات الطبية بشكل مشابه للاستنفار الذي قام به النظام خلال حرب عام 2006.
بالمقابل، فإنّ التحذيرات الإسرائيلية هذه المرة طالت بشار الأسد وحسن نصر الله بشكل مباشر، إذ هددت تل أبيب باغتيالهما في حال دخول حزب الله على خط المعركة مع حماس، ولم تكن تصريحات لاحقة للمسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو، أقلّ تشدداً من تلك التحذيرات التي نقلتها فرنسا رسمياً إلى الحزب.
في هذه الأثناء، فإنّ كل طلقة على طرفي الحدود جنوبي لبنان تُقرِّبنا أكثر من معركة واسعة قال الجميع إنهم غير معنيين بها، ليكون الخوف المتبادل وضيق مساحة المناورة السياسية الطريقَ الأسرع إلى حرب من غير الواضح ما هي نتائجها عسكرياً وسياسياً، إلّا أنّ تأثيرها على دماء المدنيين في لبنان وسوريا يمكن توقُّعه بسهولة.