من السهل أن تنتمي لعائلة غزيّة، لكن من الصعب جداً أن تُدرك ماهية أن يكون المرء غزاوياً-ة؛ لحظة واحدة، واحدة فقط، ستُغيُّر كل شيء، ستغيُّر شعورك بالمكان، بالجغرافيا، بسؤال من أنا وماذا علي أن أفعل. كان من المفترض أن يكون السابع من تشرين الأول (أكتوبر) يوماً عادياً بالنسبة لي، فأنا خارج فلسطين لعمل، وعادةُ العملِ أن يحمل أياماً رتيبة. لستُ معتادة على وقوع أي حدث كبير وأنا خارج فلسطين، لا أطيق هذا الشعور. مشاعري الأولى تجاه السابع من أكتوبر كانت خوفاً، وترقباً، وقلقاً، حتى شعرت بأني بعيدة جداً. بدأت أفكر بأمي، المنزل، وبالعودة. عليَّ أن أكون هناك، لم أُدرك بعدُ ما يجري، لكن عليَّ أن أعود إلى المنزل وبسرعة.

أنا فلسطينية ولدت في العراق، لأم نصفها فلسطيني ونصفها لبناني، وأب لجأت عائلته إلى غزة. جدي خرج من غزة في الستينيات، وهكذا قُطِعَت علاقتي بغزة قبل أن تبدأ، لم يعد أبي إليها، استقرَّ في مصر، ومن مصر انتقل إلى بلدان عديدة، حتى عاد إلى فلسطين سنة 94 هو وأمي وأنا، إلى القاسية رام الله في الضفة الغربية.

عادت أُسرتي إلى فلسطين تحملني وتحمل اتفاق أوسلو معها، أوسلو ولعناته التي تطاردنا حتى اللحظة، كعائلة مشتتة لديها جذور في أماكن كثيرة، كبرت وأنا أحمل قصة ثقيلة، يسألني أحدهم «أنت من وين؟» أقول «من هون»، فأنا كنت أظن طوال الوقت أننا كلنا من «هون»، ليصبح السؤال أكثر دقة: «أصلاً من وين؟» فاختبئ في حضن غزة التي لا أعرف عنها شيئاً، فأقول «أنا من غزة» بلهجة لا تشبه غزة أبداً.

في الرابعة صباحاً من يوم 8 أكتوبر، كنت في طريقي إلى المطار، أريد أن أصل بسرعة، فالجسر الفاصل بين فلسطين والأردن والذي كان سيفتح 24 ساعة في ذاك النهار، سيفتح حتى الرابعة عصراً فقط. كل شيء بداخلي يركض، كل شيء يبدو معكوساً، حتى موظفين الجوازات في المطارات كانوا لُطفاء على عكس العادة، واضحٌ أنه الحماس الذي عبر الحدود كلها في السابع من أكتوبر، استطاعَ أن يفك تكشيرة ضباط المطارات؛ إنها معجزة حقاً!

لكن هذه المعجزة لم تشفع لي عند موظف الجوازات الأردني، الذي جعلني أنتظر، فأنا بالنسبة له من غزة، و«الغزازوة» عليهم أن يمروا بفحص مخابرات، عليك أن تخبرهم أين كنت وماذا كنت تفعل؟ رغم أنهم يعرفون، يعرفون كل شيء، لكن هويتك المركبة، جدك الذي لجأ في النكبة إلى غزة، جدك الذي لم يَعِش في الضفة الغربية عندما كانت في كنف الأردن، هو غزّاوي بالنسبة إليهم.

لسنوات طويلة، كنتُ ساخطة على هذه الهوية المعقدة بالنسبة لي، لكن هذه المرة حدث شيء مختلف، حدث شيء حفر في أعماقي ممراً جعلني أرى العالم بمنطق الندّ، بمنطق المرتبة العليا جداً. سألني الضابط: أنتِ من وين؟ أقول له فوراً على غير العادة، «أنا من غزّة»، باستغراب شديد يسألني: «لوين مروحة؟»، أتدارك الموقف وأقول له رام الله، يعيد لي جواز سفري وأغادر راكضة، أريد أن ألحق الجسر.

أُغلِقَ الجسر فجأةً بقرار إسرائيلي، فحجزت غرفة في أحد الأوتيلات وكلّمتُ أمي لأخبرها أنني عالقة في عمّان هذه الليلة، وسأعود غداً. تسألني ماذا لو لم يفتح الجسر غداً؟ أُخبرها أني سأعود غداً، أنا أعرف! تلك القناعة اللعينة بأنه لن يحدث هذا كله في غزة وأنا هنا في عمّان تُطاردني، وكأنَّ غزة هذه على بعد شارع من رام الله. في الواقع، كل شيء يبدو أقرب إلى غزة بالنسبة لشخص يسكن الضفة الغربية ويحمل هويةً عنوانها الضفة.

بعد شبه استقرار، بدأتُ أَستجمعُ ما حدث منذ البارحة، كيف وأين ومتى؟ وأين أصدقائي؟ أين نضال؟ صديقي المصور الصحفي الذي اختفى وهو يصور في غزة وأعلن بعض السذَّج أنه استشهد، أعتقد أن نضال عندما يعود سيُدرك أنه فوَّتَ حرباً مختلفة. إنه لمن السخرية أن أفكر هكذا، لكن قناعاتي وذاك الحدس الذي أُقنع نفسي به يخبرانني أن نضال تم اعتقاله من قبل الجيش الإسرائيلي، وسيعود لاحقاً ليستاء فقط من فكرة أنه لم يغطي هذه الحرب!

كانت ليلة سيئة، لقد دخلت الغرفة بمنطق أنني سأغادرها غداً صباحاً، غداً سأعود إلى فلسطين. لم تُعلِن أي جهة عن فتح الجسر في اليوم التالي، لكن الخبرة التي تكتسبها في فهم عقلية المُستعمِر تُعلِّمك بعض الأشياء، من المؤكد أنهم سيفتحون الجسر غداً، ربما يضيق الوقت المتاح لحركة الناس، لكنهم لن يُكدِّسوا آلاف الناس ويفتحوا على أنفسهم جبهات هنا وهناك.

في الصباح الباكر كنت جاهزة للسفر، السائق الأردني أكد لي أن الجسر مغلق حتى اللحظة، اتفقنا أني سأتحمل مسؤولية قراري بالذهاب. في طريقنا للجسر أعلنوا عن فتحه، اعتقد السائق أني محظوظة، اعتقاداً لا أشاركه إياه أبداً.

اطمئنَّ قلبي بأنني سأعود، اليوم سأكون في بيتنا في فلسطين، تبعات طوفان الأقصى بدأت تظهر رويداً رويداً، الخوف بدأ يأكلني، أسناني تؤلمني، وأصابعي ترتجف، عائلتي الممتدة في غزة، أصدقائي، زملائي الصحفيين، نضال ما زال مختفياً ولا خبر عنه.

في الأيام العادية ينتشر المستوطنون في الطرق الفاصلة بين قُرانا ومستوطناتِهم، بين مُدننا ومستوطناتهم، يلقون الحجارة على السيارات، وقد يطلقون النار. رافق طوفان الأقصى حالة تسليح تفوق العادة للمستوطنين، ما يعني هجوماً ضارياً على كل ما يتحرك في الطرق، على اعتبار أنه فلسطيني. في ذاك اليوم وصلتُ البيت بمعجزة، هل تدرك الواقع الذي يشير بأنك لو تحركت قبل دقائق كنت ستموت؟ لقد قُتِلَ أحدهم هنا، أو تعرَّضَ للأذى، هكذا كان الطريق إلى البيت، مليئاً بالموت، مليئاً بالطرقات الجبلية المخيفة في الطريق من أريحا إلى رام الله، نجونا!

هكذا صرتُ أقرب إلى غزة، أقرب إلى عائلتي، أقرب إلى أصدقائي، حتى رنة الهاتف تصبح مختلفة، حميمية أكثر، بهذه الطريقة بدأنا طريقاً على وشك أن يتجاوز الأسبوعين، طريقاً مُحاطاً بالخوف وشبح النوم، وأصواتاً، وفزعاً تجاه أقل الأشياء.

أُخبِرُ صديقي المقرّب أن صوت زوجته – صديقتي أيضاً – أصبح رديف الشعور نحو الحرب، صوتها أصبح منبّهي في لحظات نومي القليلة، يناديني من مكان مظلم لأصحو مفزوعة نحو مجموعات الأخبار، العائلة، أصدقائي. تحولت حياتنا بفعل الحرب إلى حياة مرتبكة، أصبحتُ أُطارد أصدقائي بالإيموجي الغريبة، وصولها هو إشارة لأنهم يحملون هواتفهم واستطاعوا الوصول إلى شبكة الإنترنت حتى ولو لحظات.

في الحرب لا شيء يبدو طبيعياً، كثافة الأشياء دائماً حاضرة، نسخر من الأشياء ونحن نخاف أن نتعدّى على مساحات الحداد التي تفرضها الحرب، المحادثات التي نُجريها لمدة دقائق تسيطر عليها وعودٌ وأحلامٌ كثيرة معلقة بكلمات «إن ضلينا عايشين».

منذ اليوم الأول تمركز أصدقائي الصحفيون في محيط المستشفيات، حتى أصبح لديهم خيمٌ دائمةٌ هناك، محاولات نوم فاشلة، عيون تترقب قدوم سيارات الإسعاف، استعدادٌ دائمٌ لمواجهة المتوقع والمجهول، ماذا يعني أن تكون قريباً من الموت لهذه الدرجة؟

تتلاشى المسافة بين كل شيء، يقول أصدقائي الغزيُّون المغتربون إن غزة جعلت منا كلنا عائلة واحدة، نتساءل عن تفاصيل كانت تبدو سخيفة في أوقات سابقة، أصبحت أرقام هواتفنا مُلكية عامة لنا جميعاً، حتى نستطيع التواصل مع أحبتنا، كل غزة أصبحت عائلتنا.

صفحاتنا على شبكات التواصل الاجتماعية تحولت إلى اللون أسود، ننعي أنفسنا وخسائرنا، صفحات أصدقائنا ما زالت تحمل «الستوري الأخير». يا إلهي؛ أحدهم كان هنا منذ لحظات، ولكنه اختفى. أُحدِّثُ أصدقائي بأننا سنجتمع لاحقاً ونلعن العالم كله، سنبكي سوية، سنرد على الهاتف مع كل اتصال، لن نتجاهل الرسائل، سيصبح القليل ملاذنا، يا إلهي من يعد لنا أقل القليل الذي كنا نسخط عليه؟ من يُعيد لنا أحبتنا؟ من يوقف الزمن لحظات حتى نحزن؟ من يوقف الحرب!