تبدو الحكومة السورية كل يوم أكثر عجزاً عن متابعة شؤون رعاياها وأكثر توجهاً نحو نظام السوق الذي يعتمد على الجباية في كل المفاصل الصغيرة والكبيرة وما يرتبط بها من رفع أسعار متواتر في مختلف القطاعات. وإذا كانت هذه الجباية تؤمن لها إيراداً كبيراً كما يبدو من الأرقام التي يمكن توقعها، لكنها في الوقت نفسه تشكل إنهاكاً أكثر من هائل للمواطن الذي ما إن ارتاح أياماً بين قرارين برفعٍ لسعر البنزين في الأسابيع الماضية، حتى ارتفع سعر الخبز، والخبز في العقل الكلّي السوري تاريخياً يمثل خطاً أحمر لطالما مُنع التلاعب به خلال عقود.
في ظلّ كلّ ذلك كان لا بدّ للسوريين من أن يجدوا حلولاً متنوعة، على رأسها التكافل المجتمعي وشد العصب على العصب لتجاوز الظرف القاهر والحلول مكان الجهات التنفيذية الرسمية في إسناد بعضهم بعضاً وتقديم المعونة والسعي، كلٌّ من مكانه لمساعدة الآخرين حوله بحسب استطاعته.
بين اليوم وغد: كلنا في مِحَن
يظهر التكافل المجتمعي جلياً في كل مناحي الحياة البسيطة والمعقدة، في المناحي التي تتطلب مساعدات مهما بدت عاديةً أحياناً، ولهذه المناحي يتصدى سوريون مكنتهم ظروفهم من أن يكونوا أكثر قدرةً ماديةً وأكثر توجهاً للخير في إتاحة فرص المساعدة للآخرين.
هيفاء رجو أمٌّ لطفل عمره خمس سنوات، احتاج ولدها لعملية إزالة لوزتين طارئة، وبعد استشارات طبية وصحية اتضح أنّ العملية ستكلف نحو مليون ونصف مليون ليرة سورية (مئة دولار أميركي).
السيدة التي فقدت زوجها خلال الحرب، تعيش وطفلها من راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز 15 دولاراً، فجأة وجدت نفسها أمام معضلة تتعلق بصحة ولدها المعرض لمخاطر صحية جمّة لو لم تجرَ العملية له كما أفهمها الأطباء.
تقول رجو: “لم أستطع الاستدانة ضمن المدة الزمنية القصيرة أمامي، لجأت إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي لأنشر قصتي طالبة المساعدة، لم تكد تنقضي ليلة ونهار حتى كان أشخاص عديدون يتواصلون معي عارضين التبرع بالمبلغ كاملاً، أحدهم كان تاجر أقمشة، رفض أن أكتب له سندات أمانة بالمبلغ لأعيده إليه لاحقاً، أصررت كثيراً، ورفض أكثر، لم يشعرني أنّه يتعامل معي بداعي الشفقة في أي لحظة، ولكنّه طلب مني شيئاً وحيداً أن أدعو له ولعائلته بالخير”.
وتضيف: “كلّلت العملية بنجاح، وحتى ذلك الوقت كان المنشور لا يزال على صفحات التواصل الاجتماعي ولا يزال المتبرعون يتواصلون معي، حذفته لاحقاً لأني تركته من دون أن أنتبه لانشغالي بمرض ولدي، وبعد ذلك بمدّة زرت الرجل المتبرع ومعي جزء من المبلغ أريد إعادته له، ولكنّه رفض مجدداً بصرامة، قائلاً: “يا أختي الناس لبعضها في المحن، اليوم أنت في محنة، وغداً أنا في محنة، وبين اليوم وغد كل الناس حولنا في محن”.
صدقة في سبيلها
الأمر نفسه حصل مع علي سموني وهو خريج جامعي من دون عمل مقيم في مدينة طرطوس الساحلية حين أصيب بمرض السرطان في الغدد اللمفاوية، وتعذر عليه إيجاد العلاج المجاني لأسباب متنوعة. احتاج سموني إلى جرعات عدة متوسط سعر الواحدة منها مئتا دولار أميركي، وكان علي ليعجز تماماً عن تأمينها لولا أن تكفل بها رجل أعمال يعيش في مدينته بعدما سمع بمعاناته بعدما نشر قصته على صفحته الخاصة في موقع فايسبوك.
يقول سموني: “في أحد أيام الشتاء الماضي تلقيت اتصالاً من شخص عرفني بنفسه أنّه مدير مكتب رجل الأعمال فلان، وأبلغني أن الرجل يريد مقابلتي في اليوم التالي مصطحباً معي ملفي الطبي، لم تتسع لي الدنيا من الفرحة وأنا المعدم فقراً والعاطل من العمل والمبتلى بمرضٍ كاد يكون عضالاً قاتلاً لولا رحمة الله وذلك الشخص النبيل”.
ويتابع: “زرته في اليوم التالي فاستعرض ملفي الطبي مطمئناً إياي إلى أنّ كلّ مرض ولا شك له علاجه، وأنّه سيساعدني ليس عبر منحي ثمن الجرعات بل هو بنفسه سيتولى تأمينها لي من الخارج، وفي النهاية وصل عددها إلى ثماني جرعات، أي ما قيمته 1600 دولار تقريباً، وأمام خجلي الشديد منه عرضت أن أعمل لديه بالمجان حتى سداد ثمن الجرعات، فوافق ولكن على أن أعمل موظفاً براتب، رافضاً أي حديث عن ثمنها معتبراً أنّه لم يقم إلّا بواجبه الديني والإنساني والأخلاقي، وبذلك عالجني وشغّلني مشترطاً عليّ ألّا أذكر اسمه يوماً لتظلّ الصدقة جاريةً في سبيلها”.
يسندون البطون
ثمّة أناس وجدوا طريقاً آخر للتكافل الاجتماعي، كقصةٍ رواها أحد معتمدي بيع الخبز لـ”النهار العربي” عن سيدة تمرّ عليه مطلع كلّ شهر لتعطيه مبلغ مئة ألف ليرة سورية (7 دولارات) ليوزع به خبزاً على العائلات الأكثر احتياجاً، وعلى قلّة الرقم لكنّه يحلّ مشكلات عائلات لا تأكل في أيام كثيرة إلا الخبز الحاف.
يقول: “تلك السيدة تقطن في الحي الذي أوزع فيه، تشترط وتؤكد بكل صرامة ألّا يعرف أحد من هي لئلا يضيع ثوابها، ومثلها هناك أشخاص آخرون يعطونني المال كل شهر أو كلّ بضعة أشهر، ينقص المبلغ أو يزيد أحياناً، لكنّه في كل الأحوال يسند بطوناً كثيرة، بطونٌ تأخذ ربطة الخبز وتدعو لشخص لا تعرفه كان سبباً في ذلك”.
ذبائح ونذور
في كثير من الأحياء الشعبية في مدن متنوعة في سوريا تسود عادات تتعلق بالذبائح والنذور، وإن كانت هذه الأيام أقلّ بعشرات المرّات عمّا كانت عليه قبل زمن، تلك النذور تجيء لأسباب متنوعة، دينية، شعبية، إنسانية، ولادة طفل، تخرج جامعي، نجاح وظيفي، وغيرها، ليصار إلى تقسيم الذبيحة من دجاج أو غيره وتوزيعها بالتساوي على العائلات الأكثر فقراً في الحي.
يقول مازن صائب، وهو موظف مقيم في أحد أحياء دمشق الشعبية لـ”النهار العربي” إنّ الناس قديماً كانت تذبح خرافاً وعجولاً، أما اليوم فبالكاد، والبعض القليل يذبح دجاجاً، ذلك الدجاج يجري توزيعه على العائلات المحتاجة كنوع من المساعدة بعدما كادت تنسى طعم اللحوم في طقس لا يحزن فيه من لا يحصل على اللحوم، مدركاً أنّه وإن كان بحاجة فثمة بجوار منزله عائلة أخرى قد تموت جوعاً في لحظة ما.
مغتربون وعلاجات دوائية
وسوى ذلك، هناك مئات وربما آلاف المغتربين الذين يعينون أهلهم في الداخل على شظف العيش، تاركين لهم هامشاً إضافياً لمساعدة عائلات أخرى بمبالغ أقل ولكنها مستمرة، وهذه حالة إلى حدٍّ ما انتشرت نسبياً وكانت تتنامى في وقت سابق قبل أن تعود لتتقلص تدريجياً مع تزايد حاجة الأسرة الأم للأموال مع ازدياد الأسعار والمصاريف.
وهناك من يتكفل بمصاريف الأدوية لأمراض مزمنة لمرضى يعانون مشكلات متعددة، ومن بين أولئك الذين تصدوا لمهمة مشابهة الشابة ميسون دريباتي التي تعمل في منشأة تتبع قطاعاً خاصاً وتكسب من خلالها مرتباً جيداً، إذا تكفلت لفترة ليست بالقليلة بأدوية سيدة أخرى تعاني أمراضاً عصبية داخلية (فتق نواة – ديسك متقدم وتهدم فقرات)، وهي حالة كانت تستدعي علاجاً مستمراً وأدوية ثمنها ليس بالقليل.
تقول ميسون: “في البداية كانت كفالتي لها لا تتطلب أكثر من 10 في المئة من راتبي، ثم صارت النسبة 20 في المئة، أخيراً صرت مضطرة لأن أصرف أكثر من نصف راتبي ثمناً للأدوية مع الارتفاع المهول في أسعارها، فصرت منهكةً للغاية وبحاجة لأن أتوازن وأنسحب من الأمر مرغمة ولكن بعد تأمين بديل، وهو ما نجحت به بعدما ربطت علاجها بصديقة لي مغتربة في دبي، وصدقاً كان كلّ ذلك رغماً عني”.
ليس حلاً نهائياً
رغم أن كلّ ذلك ليس حلاً نهائياً ولا يحمل مؤشرات خير على الصعيد العام المستقبلي، ولكنه على الأقل يخبر عن تضامن سوريين كما يجب أن يكون في محنة معقدة طال زمنها عليهم. وينبئ عن قلوب تحنّ بعضها على بعض.
ولا شك في أنّ التكافل المجتمعي ضروري وناظم إنساني فريد للعلاقات البشرية في مجتمعات ما بعد الحرب.