وضمن خطوات القمع والانتقام من الثورة ومؤيديها، أوقف إبراهيم باشا (1789 ـ 1848) القائد الأعلى للقوات المصرية في بلاد الشام، الكثير من القادة الفلسطينيّين، بحيث شملت قائمة الموقوفين عددًا من قيادات الثورة، ورؤساء ووجهاء عائلات نافذة، وزعماء عائلات قروية، وشيوخ عائلات بدوية، وعلماء ورجال دين، ورجال إدارة، ومحاربين، وثوار.
وتقرر إبعاد المعتقلين إلى مصر حتى تنتهي الثورة، وكان من جملة المعتقلين الشيخ عبد الله الطبري، مفتي طبريا وزعيم عائلة الطبري، وهي أبرز عائلات المدينة، آنذاك، إذ أبعد إلى يافا، ومنها إلى مصر، قبل الإفراج عنه بعد نحو ثلاث سنوات، وعودته إلى مدينته، حيث قدم وجهاء طبريا وأعيانها إلى مضافة العائلة لتهنئته بالسلامة، وحينها بكى الشيخ المتقدم بالسن، وشكر الله على رجوعه سالمًا إلى مدينته.
في أبريل/ نيسان 1948، تذكر الشيخ طاهر سعيد الطبري، حفيد الشيخ عبد الله، تلك الحادثة، وتذكر غربة يافا والقاهرة، وألح على أبناء عائلته وأعيان المدينة العرب، وعلى وجهائها الذين توافدوا إلى المضافة نفسها، ألا يتركوا مدينتهم وبيوتهم أمام الخطر الداهم، ولكنهم، وتحت الضغط البريطاني المكثف ونيران عصابات “الهاغاناه” الصهيونية، التي لم ترحم، أجبر الشيخ وأبناء مدينته من العرب الفلسطينيين على ترك طبريا، والخروج مرة أخرى من ديارهم إلى ديار الغربة واللجوء.
قصة الشيخين عبد الله وطاهر الطبري، وما حدث لكل منهما خلال ما يزيد عن قرن، تجسّد فصولًا مهمة من تاريخ السكّان العرب في طبريا ومنطقتها بشكل عام، هي التي شهدت أيام ازدهار، تلتها أيام انحدار، وعانت من الكوارث الطبيعية والحروب التي حاقت بها على التوالي.
وتناول الباحث مصطفى عبّاسي في كتابه “طبريا العربية تحت الحكم البريطاني: دراسة اجتماعية وسياسية”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، تاريخ طبريا منذ بداية نهضتها وتجديد عمرانها، في فترة حكم الظاهر عمر الزيداني، في القرن الثامن عشر، وأواخر العهد العثماني، وفترة الاحتلال البريطاني، لافتًا إلى أن لمدينة طبريا “تاريخًا عريقًا وطويلًا يرجع إلى الفترات والحقب الغابرة”.
تأسست طبريا، حسب عبّاسي، عام 20 للميلاد على يد “هيرودوس أنتيباس”، وسُميّت على اسم القيصر الروماني “طيباريوس”، ولعبت وجوارها دورًا مهمًا في تاريخ فلسطين القديم، هي التي تعد مدينة مقدسة لليهود، ومن أكثر المواقع قُدسية للمسيحيين في فلسطين والعالم، ومع دخولها ضمن الحكم العربي الإسلامي، عقب الفتوحات عام 636 للميلاد، جُعلت المدينة مركزًا وعاصمة لجند الأردن، بينما احتلها الأمير الصليبي “تانكرد” عام 1099 للميلاد، ضمن الحملة الصليبية الأولى، وحوّلها إلى عاصمة الجليل “التابعة لمملكة أورشليم الصليبية”، وشيّد الأجزاء الجديدة من طبريا الصليبية إلى الشمال من موقع المدينة العربية الذي كان ضيّقًا نسبيًّا، وحُصنّت المدينة وبُنيت فيها قلعة إلى جانب إحاطتها بسور منيع لا تزال بعض آثارة ماثلة للعيان حتى يومنا هذا ضمن جدران دير طائفة الروم الأرثوذكس… ولعل نشوب معركة حطين في يوليو/ تموز 1187 للميلاد، بين جيش صلاح الدين الأيوبي وجيش الصليبيّين، غرب المدينة، يدلل على أهميتها الاستراتيجية، إلا أن سلسلة الحروب بين الأيوبيّين وبعدهم المماليك من جهة، والصليبيّين من جهة أخرى، كانت له أثار سلبية، بل ومدمّرة على مكانة المدينة التي تراجعت بسبب حالة عدم الاستقرار، ولعل هذا مرد اختيار السلطان الظاهر بيبرس (1223 ـ 1277 للميلاد)، سلطان الدولة المملوكية، مدينة صفد لتكون عاصمة لحكم المماليك في الجليل وشمال فلسطين عامة عام 1266 ميلادية، والتخلي عن طبريا التي شكلت عاصمة لهم أثناء الحقبة الصليبية، إلى أن آلت مقاليد الحكم في الجليل إلى آل زيدان، وزعيمهم الأبرز الشيخ ظاهر العمر الزيداني منذ بداية القرن الثامن عشر، والذي أعاد لطبريا هيبتها وحضورها مجددًا.
وطُبعت المدينة في العهد الزيداني بطابع خاص استمر قرابة المئتي عام، إذ تحوّلت طبريا إلى مدينة مختلطة، يسكنها العرب واليهود جنبًا إلى جنب، في علاقة حسنة تواصلت حتى أواخر الحكم البريطاني على أرض فلسطين.
ولكن هذا الإرث الطويل من التعايش انهار تبعًا لما حدث مع نهاية الانتداب، وأثناء حرب عام 1948، بشكل دراماتيكي، من طرد للسكّان العرب، ونهب ممتلكاتهم، ومن ثم هدم المدينة وإبادة معظم معالمها، وكانت أولى المدن الفلسطينية التي شهدت هكذا تطورات وأعمال، ففي 18 أبريل/ نيسان 1948، طُرد السكّان العرب تاركين خلفهم أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وكل ما جمعوه خلال أجيال… وكان هذا الطرد، بعد فترة من المناوشات وإطلاق النار بين الطرفين، وتحديدًا مجموعة صغيرة من المسلحين العرب وبين قوات “الهاغاناه”، وهي مناوشات وصفهتها صحيفة “دافار” العبرية، أنها “أشبه بمعركة صغيرة جدًا، حيث لم تجرِ معركة حقيقية في طبريا”.
وحسب كتاب عبّاسي، فقد كان لافتًا أن طرد السكان العرب الفلسطينيين من طبريا قد تمّ بشكل منظم للغاية، وسادته حالة من الوجوم والصدمة، فحتى أثناء صعود الفلسطينيين إلى الحافلات التي أقلتهم إلى الشتات والمجهول، لم يعترضوا، أو يقاوموا، تمامًا كما فعلوا أيام حكم الانتداب البريطاني، فقد حافظ فلسطينيو طبريا على علاقات حسن الجوار مع جيرانهم اليهود خلال تلك الفترة، وتمكنوا من الإبقاء على هذه العلاقة حتى في الأحداث الكبرى التي عصفت بالبلاد، كثورة البراق عام 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى ما بين 1936 و1939، إلى حدٍّ كبير.
ولفت عبّاسي إلى أن الصور الأرشيفية تظهر عشرات الحافلات التي أحضرها الجيش البريطاني لإجلاء الفلسطينيين عن طبريا، وكيف كانت هذه الحافلات تغصّ بهم، فجلس بعضهم فيها، ووقف بعضهم الآخر داخلها في حالة من الازدحام الشديد، فيما اضطر آخرون إلى الجلوس على سطحها بين الأمتعة، وقد بدت على وجوههم حالة الرعب والصدمة والذهول، مشيرًا إلى أن هذه الحافلات، وبعد رحلات مكوكية، نقلت نحو 500 منهم إلى الناصرة، و4500 إلى الحدود الفلسطينية الأردنية عن طريق “سمخ”، و”الحمّة”، ومن هناك، إلى خارج الوطن، وبهذا أسدل الستار على عروبة هذه المدينة، بحيث لم يبق فيها أحد من سكانها.
ولفت عبّاسي إلى أن فهمًا معمّقًا لما حدث في طبريا عام 1948، بما في ذلك هدم المدينة القديمة التي توزّعت فيها ملكية البيوت مناصفة بين العرب واليهود، تستوجب دراسة معمقة للتحولات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على المدينة قبل ذلك، فهذه القضية التي تحتوي على كثير من التناقضات الداخلية تتطلب تفسيرًا ليس من السهل فهمه، حيث علاقات صداقة وحسن جوار تصطدم بشكوك وانغلاق وتباعد، وعلاقة تشمل تعاونًا مشتركًا في إدارة مؤسسات المدينة، بما فيها البلدية المشتركة، كانت تقف جنبًا إلى جنب للإبقاء على الحواجز والتنافس، وعدم الاكتراث باحتياجات الآخر وطموحاته، وهي علاقة تشمل أيضًا الرغبة المشتركة من أجل تطوير المدينة اقتصاديًا، إلى جانب التنافس الخفي لصالح كل طرف على حدة.
ويتألف كتاب “طبريا العربية تحت الحكم البريطاني: دراسة اجتماعية وسياسية” من أحد عشر فصلًا، يتناول أولها تاريخ طبريا في العهد العثماني، وثانيها طبريا في فترة الحكم البريطاني، في حين يتناول الفصل الثالث المبنى الديموغرافي والاجتماعي لطبريا الانتدابية، فيما يتناول الرابع مجال التربية والتعليم، وتطور العملية التعليمية في طبريا منذ العهد العثماني إلى النكبة، بينما يركز الفصل الخامس على الحياة الدينية للسكان العرب من مسلمين ومسيحيين، فيتحدث عن المساجد، والكنائس، والمحكمة الشرعية، والأوقاف، والأدوار المحورية التي كانت للمفتي، والقاضي، والآئمة، والكهنة، والرهبان، ورؤساء الكنائس.
وركزّ الفصل السادس من الكتاب الثرّي وغير المسبوق، على الجانب الاقتصادي لسّكان طبريا، ومصادر رزقهم وعيشهم، في حين كان تاريخ بلدية طبريا محور الفصل السابع، وضم تفاصيل مثيرة تبدو غير دارجة في أي مدينة فلسطينية أخرى ما قبل 1948، ليذهب عبّاسي في الفصل الثامن إلى دراسة طبيعة العلاقات التي كانت سائدة بين طبريا وريفها وقضائها، إضافة إلى دراسة المبنى الديموغرافي لقرى القضاء وبناها الاجتماعية.
وتناول الفصل التاسع من كتاب “طبريا العربية تحت الحكم البريطاني: دراسة اجتماعية وسياسية”، الحياة السياسية ومكانة الحركة الوطنية العربية الفلسطينية في المدينة، مركزًا على تاريخ بدء النشاط الوطني وخصائصه خلال كل عقد من العقود الثلاثة للانتداب، ودور عائلة الطبري في قيادة الحركة الوطنية، والنشاط السياسي في المدينة.
وعرض عبّاسي في الفصل العاشر من الكتاب أوضاع سكّان طبريا العرب الفلسطينيين في الأيام المصيرية للحرب بين عامي 1947 و1948، محاولًا تفسير طردهم من طبربا رغم العلاقات العربية اليهودية الحسنة معظم فترة حكم الانتداب البريطاني، متحدثًا عن نشاطات اللجنة القومية العربية المحلية ودورها، والأحداث المختلفة، واتفاقية السلام بين الجانبين، والمعروفة بـ”اتفاق طبريا”، وأسباب فشله وعدم احترامه من الجانبين الصهيوني والبريطاني.
أما الفصل الحادي عشر والأخير فتناول، بشكل مفصّل، تدمير مدينة طبريا القديمة، مع أنها مدينة تاريخية مقدسة لليهود، مهمة جدًا للمسيحيين، ولها مكانة مهمة لدى المسلمين، حيث قبر السيدة سكينة بنت الحسين، متابعًا تواصل عملية التدمير هذه حتى نهايتها في عام 1959.