للمرة الأولى منذ بدء الحرب، تمكن الجيش السوداني من تغيير استراتيجية الدفاع إلى الهجوم، لينجح بتحقيق تقدم ميداني لافت في أمّ درمان، واضعاً عملية استعادة الخرطوم بوضوح في أولويات المرحلة المقبلة، استناداً إلى جملة من المعطيات الجديدة. أما في دارفور، فيتواصل القصف الجوي وسط ظروف إنسانية صعبة، بسبب انقطاع معظم الطرق والممرات الآمنة.
قد تكون نقطة التحول الأهم بالنسبة للجيش السوداني هي نجاحه بربط معسكرين في أمّ درمان، ثالث مدن العاصمة الخرطوم، إذ التقت قوات من سلاح المهندسين جنوباً بوحدات آتية من موقع كرري شمالاً، ليتم فك الحصار عن المهندسين وإدخال الإمدادات والذخيرة للمرة الأولى منذ الخامس عشر من نيسان (أبريل) الفائت، تاريخ اندلاع الحرب. وهي خطوة اعتبرها محللون عسكريون بمثابة نقلة نوعية تعطي معارك الخرطوم زخماً كبيراً أكثر من أي وقت مضى، وذلك بالتزامن مع زيارات ميدانية قام بها عدد من قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، أبرزهم “حركة العدل والمساواة” التي، للمفارقة، شن مقاتلوها عام 2008 هجوماً على المدينة ذاتها في عز التوتر بينهم وبين نظام الرئيس السابق عمر البشير.
تحركات ميدانية للبرهان
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، بدا لافتاً الوصول السريع لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وكبار القادة الميدانيين إلى قاعدة وادي سيدنا شمال أم درمان بعد ساعات من الحدث، حيث تحرك براً نحو القواعد العسكرية وجال على الجنود والضباط ليومين قبل أن ينتقل إلى ولاية نهر النيل، ثم إلى القضارف، التي أشار فيها إلى أن المعركة قد اتخذت طابعاً مختلفاً عن الأشهر العشرة الماضية، وقد أصبحت “لازمة وواجبة” على حد تعبيره. وفيما خص بالتحية قوات الحركات المسلحة التابعة لحاكم دارفور مني أركو مناوي ولمصطفى تمبور.
ونقل بيان لمجلس السيادة عن البرهان قوله، خلال تفقده قوات بالفرقة الثانية مشاة بالجيش في ولاية القضارف: “كيف يمكن عمل اتفاق وسلام مع شخص لا يلتزم وكل يوم له رأي، لذا نقول لن يكون هناك سلام إلا بعد نهاية هذا التمرّد”.
وتعتبر أم درمان الجزء الثالث من مدن العاصمة الثلاث، وهي الأكبر من حيث الكثافة السكانية، إذ ترتبط بولايات النيل الأبيض وشمال كردفان ونهر النيل والشمالية. كما تمر من خلالها الطرق الواصلة نحو إقليم دارفور والصحراء نحو الحدود الليبية والتشادية. وشكلت المعارك فيها حالة من التكافؤ الطويل الأمد، إذ لم يتمكن الدعم السريع من الاستيلاء على قاعدة وادي سيدنا شمالاً، وكذلك سلاح المهندسين وكرري، وصولاً لمستشفى السلاح الطبي المطل على النيل والمقابل للخرطوم جنوباً.
كيف ستغيّر أم درمان المشهد الميداني في العاصمة؟
في حديث لـ”النهار العربي”، يقول الخبير الميداني محمد عادل إن وصول الإمداد والذخيرة إلى سلاح المهندسين وفك الحصار عن عشرات الآلاف من المقاتلين سيسمحان بعزل ما تبقى من مجموعات الدعم السريع في المدينة. ويتابع: “يمكن القول إن الحصار قد اشتد على مواقع الدعم في مبنى الإذاعة والتلفزيون وأحياء بيت المال والملازمين، حيث لا مسارات للهروب سوى العبور نحو النيل، وبذلك تصبح الضفة الغربية للنهر مؤمّنة تأميناً كبيراً لتعزز الربط مع الجهة الشرقية في الخرطوم وبحري”. ويلفت عادل إلى مسألة يراها مهمة، فالشريط الميداني الرابط بين شمال أم درمان وجنوبها يتطلب توسعاً للناحية الغربية في حي أمبدة، والسبب برأيه أن “هذا إحدى أكبر المناطق في المدينة ويجتازها من الشرق إلى الغرب، حيث تتموضع ارتكازات للدعم السريع، وبالتالي يستطيع مقاتلو الدعم شنّ الهجوم من جديد وقطع شريان الإمداد ما لم يتم توسيع التمدد غرباً”.
ولكن، هل يعني هذا أن المعركة تقترب من قلب العاصمة الخرطوم؟
لا يرجخ الخبير العسكري بابكر عبد الله سرعة ذلك قبل تحقيق خطوات عدة تتطلب بدورها عمليات مكثفة ودقيقة، بحسب تعبيره. ويكشف في حديثه لـ”النهار العربي” عن هذه الخطوات: “من الناحية النظرية يمكن للخزان البشري الممتد من كرري إلى المهندسين تأمين جسر الفتيحاب جنوب المدينة والتوسع حتى المناطق المحاذية لجبل أولياء وعبورها لتأمين سلاح المدرعات وتبديل المقاتلين والتوسع جنوب الخرطوم، بل الربط مع القيادة العامة وفك الحصار عنها. ولكن، هذا أيضاً يتطلب تأمين الجسور مع بحري وتحقيق ربط بين سلاح الإشارة ومعسكرات الكدرو هناك، وهو يفرض بالإضافة لتقدم المشاة دوراً كبيراً للطيران الحربي والمسيرات”. وبناءً على هذه المعطيات، يرى عبد الله أن التقدم الأخير يعني بدء مرحلة ثانية أكثر صعوبة وتتطلب تزامناً وتنسيقاً عالياً، وفقاً لكلامه.
الطيران الحربي يقصف في دارفور
قالت مصادر قريبة من الدعم السريع إن العشرات قد قضوا في غارات للطيران الحربي في مدينة الضعين شرق إقليم دارفور. وبث ناشطون مقربون من الدعم مقاطع مصورة تظهر احتراق عدد من الأبنية والبيوت جراء غارات جوية تعرضت لها المدينة، فيما قالت مصادر ميدانية لـ”النهار العربي” إن الغارات استهدفت معسكرات ومستودعات للذخيرة ومقار اجتماعات في المنطقة التي تضم نازحين بأعداد كبيرة قادمين من جنوب وغرب كردفان وكذلك من نيالا جنوب دارفور.
وتزداد التحذيرات في المقابل من كارثة إنسانية تضرب الإقليم شبه المعزول عن العالم بسبب استمرار انقطاع الاتصالات وغياب المساعدات والممرات الإنسانية، بحسب ناشطين في المدينة، إذ أفادت المعلومات بأن انقطاع الشبكات لا يزال مستمراً في كامل دارفور، فيما يتعذر وصول القوافل الإغاثية لمعسكرات النازحين، سواء في الضعين أو في الفاشر شمال الإقليم، نظراً لاحتدام المعارك واستمرار عمليات النهب حتى بالنسبة للطرق الواصلة بين مدن الإقليم وكذلك للطريق الرئيسي الذي يربط المنطقة بالخرطوم وصولاً إلى الولايات الشمالية.