في الوقت الذي تضج فيه بغداد بالمهرجانات ذات الطابع الثقافي، مهرجان للمسرح العربي، مهرجان للسينما، مهرجان المربد الشعري وأخيراً معرض العراق للكتاب، تميل الأوضاع العامة في العراق إلى تغليب التيارات السياسية الظلامية التي سبق لها أن فرضت حظراً دينياً على كل أنواع الفنون، وقد عبّر حيدر العبادي يوم كان رئيساً للوزراء عن موقفه الصريح من الغناء، فقال إنه لا يستمع إلى الموسيقى والغناء. وهو ما يتطابق كلياً مع مواقف زعماء تحالف الإطار التنسيقي الحاكم، بدءاً من نوري المالكي وانتهاءً بعمار الحكيم مروراً برموز الميليشيات من أمثال هادي العامري وقيس الخزعلي وسواهما من الصقور المؤمنين بالمنطلقات النظرية لعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية.
ذلك الموقف انعكس سلباً على المنشآت الفنية كالمسارح ودور العرض السينمائي التي تعرضت منذ عام 2003 إلى الإهمال الذي أدى في ما بعد إلى تحويلها إلى مخازن استأجرها التجار من أصحابها لحفظ بضائعهم. وهكذا انتهت بغداد إلى أن تكون مدينة خالية من دور العرض السينمائي والمسارح. لقد خرجت تلك المنشآت من الخدمة ولم يكن وارداً في برامج الحكومات المتتالية العمل على ترميمها وإعادة تأهيلها ومن ثم افتتاحها مجدداً. فالجهد الحكومي كله انصبّ على توسيع وتذهيب الأضرحة الدينية الرئيسية، إضافة إلى إقامة أضرحة جديدة أُعلن عن اكتشافها وهي تُعد بالمئات وموزعة على المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، بحيث صار لكل محافظة مزاراتها الدينية التي تحظى بالتخصيصات المالية بعدما شُطرت وزارة الأوقاف إلى وقفين، شيعي وسنّي.
كانت هناك بيئة ثقافية
كان نظام الحكم السابق الذي تزعمه الرئيس الراحل صدام حسين قد حرص على زيادة المهرجانات الثقافية وتوسيعها أيام الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينات، وكانت شركة الخطوط الجوية العراقية تخصص طائرات لنقل المدعوين من أماكن مختلفة من العالم إلى بغداد. ورغم أن الهدف من وراء تلك المهرجانات كان دعائياً وتعبوياً، غير أنه كان في الوقت نفسه واقعياً في ما يتصل بالحراك الثقافي العراقي، فلم يكن هناك على سبيل المثال مهرجان للسينما لأن الصناعة السينمائية في العراق كانت دائماً متعثرة وناشئة ولم تقدم إلا أفلاماً لا يعتد بها. وليس فيلم “القادسية” لمصطفى العقاد استثناءً. كانت هناك مهرجانات للشعر أهمها المربد وكان العراق يومها يعج بالشعراء المعروفين على المستوى العربي، وكانت هناك بينالات للفن التشكيلي يوم كان العراق يمثل ركناً أساسياً من أركانه في العالم العربي. وكان هناك أيضاً مهرجان للمسرح وكان للعراق يومها فرقه المسرحية التي توزعت بين مسارح الدولة كالمسرح الوطني والمسارح الأهلية كمسرح بغداد. أما مهرجان بابل فقد خُصص للغناء والموسيقى وكان للعراق فرقة سمفونية وفرق لرقص الباليه والرقص الشعبي ومطربون وعازفون مجيدون.
في ثمانينات القرن العشرين كانت هناك بنية ثقافية في العراق، استفاد منها النظام السياسي حين صنع منها عنصراً جاذباً للمبدعين العرب ممّن رغبوا فعلاً بلقاء جمهورهم في العراق الذي عُرف بأنه يقرأ، إضافة إلى مؤازرة رفاقهم في المهنة من أدباء وفنانين وقد منعتهم الحرب من السفر. كان ذلك موقفاً ثقافياً وإنسانياً مزدوجاً. غير أن البيئة الثقافية في العراق كانت هي الأساس. لولا تلك البيئة لفشلت تلك المهرجانات.
عراق في غياب ثقافته
في المنطلقات النظرية لحزب “البعث” كان هناك حيز للثقافة. وكان هناك في الحزب مكتب للثقافة. وبغض النظر عن مفهوم الثقافة في سياق النظرية الحزبية، فقد كان للمثقفين، شعراء وفنانين ومفكرين، حضور مؤثر في المشهد العام، وكان المجتمع العراقي مدعوماً بموقف السلطة ينظر باحترام إليهم. أما اليوم فإن الأحزاب التي ورثت الحكم من سلطة الاحتلال واستقوت به من خلال التبعية لإيران لا ترى في المثقفين إلا عدواً. ناهيك بأن العراق، بعدما صار مسرحاً لنشاط الميليشيات قد فقد الكثير من مثقفيه، إما بفعل الموت أو طلباً للهجرة. فالمربد على سبيل لم يستقبل هذه المرة أي شاعر حقيقي من شعراء الشتات العراقي، كما أنه أقيم باسم “أحمد مطر” وهو لم يكن سوى شاعر لافتات سياسية. لا مكان حقيقياً لأحمد مطر في الشعرية العراقية لكي يكون عنواناً لمهرجان المربد. ولكنه العمى السياسي الذي أدى إلى إنفاق ما يُقارب المليون دولار على الاحتفاء بضيوف عرب، ليس من بينهم أسماء كبيرة يُعتد بها. فشل جسّده توزيع جوائز في مهرجاني المسرح والسينما على أشخاص لم يتعرف الجمهور إلى وجوههم من قبل. لقد شبه أحدهم إقامة مهرجان للسينما في العراق بمَن يُقيم مطعماً لا مطبخ فيه. وهو ما يعني أن هناك من تسلل إلى تلك الأحزاب وأوحى لها بروح نفعية بضرورة أن تلمّع صورة عراقها من خلال الآداب والفنون. رغبة خبيثة بالتضحية بالعراق حين يكون موقع فضيحة.
في ظل زمن الميليشيات
فقد العراق خلال العقدين الأخيرين بنيته الثقافية، فلم يعد حاضنة لأي نشاط ثقافي رفيع المستوى. كل ما تشهده العاصمة العراقية بغداد من نشاطات ثقافية محلية أو عربية يشير بطريقة صارخة إلى انعدام الخبرة. فمثلما لا ينتمي العراق الجديد إلى تاريخه، فإن ثقافته الجديدة تبدو مقطوعة الجذور. لقد فضل الكثيرون ممن يعرفون العراق على حقيقته عدم الذهاب إلى بغداد لئلا يكونوا مجرد أدوات لتزييف الواقع. فالمهرجانات التي تُقام هناك إنما تنطلق من محاولة تقديم صورة زائفة، هي ليست من محتويات العقل السياسي المحكوم طائفياً بقوة طقوس متخلفة تتناقض كلياً مع فكرة استنهاض القوى الثقافية الخلاقة. وهو ما انعكس على المستوى الثقافي العام. وإذا ما كان العراق قد مثل في الماضي منارة للتجديد العربي في الشعر والفنون التشكيلية والمسرح، فإنه اليوم لا يحظى بمكانة تؤهله لرعايات نشاطات ثقافية ذات طابع عربي. لقد مضى من دون رجعة ذلك الزمن الذي كان فيه العقل السياسي العراقي يعتبر الحفاظ على الإرث الثقافي جزءاً من منجزاته، وأتى زمن الميليشيات الحافل بمنجزاته هو الآخر وكلها منجزات مضادة للثقافة بمفهومها المعاصر. أما محاولات الترقيع التي يبذلها البعض من خلال إقامة المهرجانات، فإنها حتى لو جرت بنيات حسنة فإنها لا تخفي حقيقة أن العراق لم يعد مؤهلاً لاستقبال أي نشاط ثقافي حقيقي.