ذكرنا في مقال سابق ان موقع القيم الاخلاقية في متون النظريات السياسية التي تشكّل منظومة الدولة وجوهر مؤسساتها الحاكمة، العملية والتطبيقية، والتي تترجم مبادئ الدستور والتشريعات والقوانين.

لم ترتق إلى حالة التطبيقات الحيّة الفاعلة التي تعبّر عن الروح الإنسانية، فوقعت في المحذور والذي شكل تناقضاً شاخصاً معبراً عن فشل التوأمة بين فحوى النظرية ومطابقته للواقع.

يبدو أن مسيرة الفشل أي (فشل النظريات السياسية التي تعبر عن روح الفرد والجماعة) بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ انقسم العالم إلى فريق منتصر وفريق خاسر وفريق ثالث يحاول أن يستفيد من المتغيّر الخطير في إحياء هوية الدولة والمواطنة والتوجه نحو التحرر من آثار الاستعمار واستنهاض التنمية العمرانية، ومكافحة الأمية في إنتاج مشروع نهضوي حضاري جديد.

ما حصل بعد إنشاء عصبة الأمم المتحدة هو حرب من نوع آخر وصف بالحرب الباردة الذي كان بين أكبر دولتين خرجتا منتصرتان من الحرب العالمية وهما: (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي آنذاك)، بدأت حينها مرحلة سباق التسلح العسكري والصواريخ النووية، إذ وصل التهديد ذروته حينما أرسلت روسيا الآلاف من الصواريخ التي تحمل روساً نووية إلى كوبا متوجهة نحو مدن أميركية.

هذه الخطوة الجنونية التي استفزت إدارة البيت الأبيض حينها، قد لخص آثارها وتداعياتها الخطيرة الرئيس كنيدي بقوله: “ستكون سياسة هذه الأزمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي هجوماً على الولايات المتحدة، وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي” سرعان ما واجه بتهديد مبادل جاء على لسان الرئيس خروتشوف في قوله إن “حظر الملاحة في المياه الدولية أو المجال الجوي” يشكل “عملاً من أعمال العدوان تدفع البشرية إلى هاوية حرب صواريخ نووية عالمية”. لم تنل هذه الخطوات الاستفزازية منالها لأنها كانت تعبّر عن استعراض القوة بين الطرفين القويتين ومحاولة فرض معادلات جديدة، سرعان ما توقف التهديد بعد معرفة وإدراك حجم المواجهة المباشرة وردة الفعل الأميركية التي لا يمكن تقييمها قياساً بما حدث سابقاً من ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين، لازالت طوكيو تدفع ثمنها حد اللحظة.

في تفسير هذه الأحداث الخطيرة التي خرجت من السياسيين والمحللين ومراكز الدراسات المعنية بالتطورات السياسية والأمنية، قد أعادت صورة الفعل ورد الفعل إلى مفهوم ولغة المصلحة التي لطالما أنها تتغلب على القرار السياسي، يذهب  هذا الإجراء ضمنياً إلى الالتزام الكامل بالفلسفة البراغماتية الميكيافيلية، حتى باتت نصاً مقدساً تعمل بها جميع الحكومات في تبرير مواقفهم والانسحاب من قراراتهم والسعي عن المصالح المادية التي تتجاوز موضوعة القيم والبعد الروحي الأخلاقي للإنسان.

تزامن مع هذا الوقت تشكيل أحزاب وكيانات سياسية في المنطقة العربية والإسلامية، اعتمدت في خطابها على المدونة الإسلامية التي تؤسس إلى نشر القيم الأخلاقية وإحياء الروح الانسانية، من خلال عمل توعوي تثقيفي تعبوي، يراد منه صناعة مجتمع يتمتع بنظرية سياسية تتمثل من خلال سلطة الدولة والحكومة وتحكم بإسم (الله العادل القوي المقتدر)، وتحيّ التراث الأصيل في سبيل إعادة الهوية الدينية التي طالما يسأل عنها الجميع وطالما أنها تشكل الخلاص من الإيدولوجيات والنظريات الواردة من الغرب، التي ضربت صميم القيم الإسلامية وجوهرها.

الحديث عن تاريخ نشوء الأحزاب في واقعنا العربي والاسلامي يطول فيه الكلام، لتعقيدات التشكّل وتاريخ القيادات، فضلاً عن تنوع المصادر الأساسية في تنظيم الخطاب وكتابة البرامج الحزبية.

يمكن أن نتخذ من حزب التنمية والعدالة التركي انموذجاً لما يطرح، عند الاطلاع على نهاية تاريخ الدولة العثمانية (الرجل العجوز)، وتفكك المجتمع بسبب تداعيات الحروب آنذاك، قد يتفاجأ القارئ ببزوغ رجل عسكري يحمل خلاصة فكرة فلسفية سياسية يعتقد أنها البديل المناسب لإعادة تاريخ الشعب التركي ومجده الكبير وتأسيس دولة تركيا 1923، المتنوع بالهويات الفرعية إلى مقبض السلطة وقرار بناء الدولة وآلياته، وتعزيز الأمن والاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي.

كيف لحزب (التنمية والعدالة) أن يعمل في ظل الجمهورية التركية العلمانية، وكيف لحزبٍ أن يتعامل مع المعطيات الواقعية التي تعيشها تركيا، وهي تتعارض مع النصوص والأدبيات الإسلامية.

أعرف جيداً أن حجم السؤال كبير وربما قد يدخلنا إلى مباحث وحقول دراسية متنوعة، إلاّ أنه يبق سؤالاً يختفي وراءه إشكاليات وجدالات قديمة/معاصرة عملت على تأزيم الفكر ووضعته أمام متبنيات علمية تجاه حقول معرفية أخرى لم تصمد أمامها. هذا العقل الانساني الذي نشا وتربى على ادبيات ( حتمية التاريخ ) لا تقبل النقاش وصيّرت العقل منذ تكوينه في نمطٍ لا يمكن تجاوزه أو تغييره؟
إلاّ أن هذه الإشكاليات على طولها لم تمنع حزب التمنية والعدالة من النجاح والتقدم، بل يذهب البعض من المتابعين والباحثين في الشأن التركي إلى أن حقبة التنمية والعدالة يمكن أن تكون أفضل الحقب الزمنية التي مرّت بها تركيا بعد الزعيم أتاتورك وتأسيس الدولة العلمانية. مما يأخذنا هذا التقييم إلى الهدف الأول من عرض تجربة حزب التنمية والعدالة المؤسسة ايدولوجيا على الخطاب الديني الإسلامي في سؤال هو:

كيف استطاع حزب التنمية والعدالة أن يتناغم مع مزاج الشعب التركي العلماني المنفتح على أوروبا والتنوير والحداثة، وفي الوقت الذي يحتفظ بالمساجد وروحها والتاريخ الإسلامي المتمثل في أزقة مدن تركيا وعمرانها؟

أعني بمفردة الاحتفاظ، أي الشعائر والطقوس الإسلامية التي تمارس من قبل المتدينين. ربما يكون هذا الكلام هو إحالة عقل القارئ الى دراسة فلسفة العَلَمانية والنظرية السياسية والمنظومة القيمية التي يكرّسها العقل السياسي العِلْماني. لا أريد هنا الخوض أو التوقف عند تاريخ المفاهيم وتحولاتها التاريخية لأسباب منها، تجنب تحويل المقال إلى دراسة بحثية توجب تفكيك التداخلات السياسية/الدينية/الاجتماعية/التاريخية.

ان مسيرة النجاح في التنمية الاقتصادية والمشاريع العمرانية  والاستقرار الاجتماعي، هو جانب آخر يمثل التطبيق العملي المادي المشخّص للعيان والذي يدخل في حياة المواطن بشكل مباشر، إلاّ أنه يبقَ لدينا أن ندرس المواقف الثابتة لايديولوجيا التنمية والعدالة من القضايا العامة والمصيرية، والتي تمثل البعد الروحي والديني للفرد والجماعة. يمكن لنا هنا أن نسجل مجموعة ملاحظات تمثل تناقضاً صريحاً بين الخطاب الرسمي للدولة/الحزب وبين التعاملات والتفاهمات الخارجية مع الدول التي تتعامل وفق المنطق البراغماتي المفتوح بلا خطوط حمراء توقف جماح نفوذها على حساب المواقف العظيمة ومن أبرزها قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي.

وجدنا تذبذب وأرجوحة الموقف التركي الذي يمثله حزب التنمية والعدالة الاسلامي. مما وصل أخيراً إلى إبرام اتفاق بين اسرائيل وتركيا في رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى درجة سفير. فضلاً عن التقهقر السياسي التركي عن موقفها الأخير من المملكة العربية السعودية في قضية مقتل الصحفي الخاشقجي.

هذان الموقفان الأساسيان يكشف لنا المضمون الخفي الذي يحرّك السياسة التركية وهو البراغماتية المفتوحة بلا ضابطة أخلاقية أو عقدية ملزمة للعمل السياسي. قد يبرره البعض إلى أنها السياسة الواقعية التي تفرضها معادلة اللعبة السياسية. قد يكون هذا التبرير المنهجي الإجرائي السياسي مقبول إلى درجة ما، لكن هذا لا يعفي الأحزاب الإسلامية من مسؤليتها الأخلاقية المستقاة من النصوص الدينية فضلاً عن الأوامر والنواهي المؤسسة على مبدأ العدل ونشر الفضيلة والوعد الإلهي.

اكتفي بهذا القدر الذي ينقلني إلى تجربة أخرى من الإسلام السياسي كنظام ودولة وحكومة وهي الجمهورية الاسلامية الايرانية التي جاءت بثورة شعبية عارمة على المملكة البهلوية الايرانية العلمانية 1925 والتي بقت محافظة على ثوابتها التي تتطابق مع الشعارات، والتي رفعتها منذ نجاح الثورة 1979)   موقفها تجاه قضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين) ولم تتراجع قيد أنملة عنها رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها وصعوبات الحصار الاقتصادي الاميركي الغربي الذي تجاوز الاربعة عقود ونيف.

القضية الثانية التي لا تقل أهمية عن سابقتها هي الموقف الإيراني من المشروع الأميركي في المنطقة والحدث الأخير في اغتيال الجنرال سليماني. اذ كانت ردة الفعل الإيرانية في توجيه ضربة عسكرية لقاعدتين تستخدمهما القوات الاميركية في العراق بصواريخ باليستية فجر الأربعاء الموافق 7 كانون الثاني من سنة 2020.

السؤال الاتي: ماهي دلالات الضربة الايرانية؟

1- تمثلت هذه الضربة الاولى والفريدة من نوعها للولايات المتحدة الأميركية وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صدمة العصر. إذ لم تتجرأ أي دولة على هذا الفعل أو مجرد طرح فكرة توازن الرعب.
2- ان الضربة لم تحصل بشكل مباغت، بل أعلنت عنها من خلال الخطابات السياسية والإعلامية قبيل ساعات من تنفيذها، اذ يوحي هذا العمل على الجرأة والثقة وهيبة الدولة والسيادة الكاملة.

ربما قد يتبادر الحديث عن حجم الخسائر نتيجة القصف الايراني، أرى من السابق لآوانه تقييم الضربة مادياً لغياب الشفافية العسكرية والأمنية التي تعمل عليها أميركا وحلفاؤها وهذا ديدن عمل الأجهزة الاستخباراتية التي تخفي كشف المعلومات لأسباب استراتيجية أمنية والبعض منها يدخل في باب خدمة (العدو) لأنها تعطي التقييم الدقيق للصواريخ والأجهزة العسكرية المستخدمة في نوع وهدف الضربة.

السؤال الجوهري هنا نريد أن نستفهم اثر فلسفة البراغماتية في الدفاع عن المصالح وايجاد مشتركات تعزز من العلاقات الدولية البينية وتوفير بيئة استثمارية ضخمة تنعش الاقتصاد وتعجل في مسيرة البناء والتنمية.

لماذا اختلفت المواقف وقوتها بين النموذجين المذكورين؟

بهذا السؤال نختم مقالنا آنف الذكر في انتظار الإجابة عن مكنون السؤال الذي يوضح نسبانية القيم وحدودها.