ملخّص
تحوّلت منطقة شمال غرب سورية تدريجيًا إلى كانتون بحكم الأمر الواقع خارج عن سيطرة الدولة السورية. وأتى ذلك نتيجة عملية نشطة بدأت فصولها في العام 2016 وعبّرت بشكل أساسي عن المصالح الأمنية لكلٍّ من تركيا وروسيا وإيران ونظام الرئيس بشار الأسد. ظهر هذا الإطار باعتباره شكلًا بديلًا من أشكال إدارة النزاع، وسمح لمختلف هذه القوى بتعديل خصائص الكانتون بشكل منهجي، وهذه العملية الصعبة ما زالت مستمرة حتى اليوم.
محاور أساسية
- يتّسم الكانتون بأنه إقليم غير خاضع لسلطة الدولة السورية، وتابع للإطار الأمني التركي فوق الوطني، ويعتمد في بقائه واستمراره على العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أنقرة، ويقطنه سكان لم يستطع النظام إعادة دمجهم في هيكلية الدولة، أو لم تكن لديه الرغبة في ذلك.
- بعد بدء التدخل العسكري الروسي في العام 2015، شنّت القوات الحكومية السورية وحلفاؤها هجمات لاستعادة السيطرة على معاقل المعارضة، فبات النزاع السوري يتركّز بشكل أساسي في المناطق الحدودية الشمالية، حيث نشأ الكانتون.
- بدأت المحطة الأساسية على مسار تحويل الشمال الغربي إلى كانتون في أواخر العام 2016، حين استعادت القوات الحكومية السورية وحلفاؤها السيطرة على شرق مدينة حلب، ونفّذت تركيا توغّلها العسكري الأول في سورية.
- كانت إحدى نتائج الانتصارات التي حقّقتها الحكومة السورية طرد 200,000 شخص إلى المنطقة التي تحوّلت إلى كانتون في الشمال الغربي، ما رسّخ طابعها الجيوسياسي السنّي الريفي المُعارض بشدة للنظام.
- شكّلت القرارات التي أفضت إليها الاجتماعات الثنائية، ولا سيما بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والاجتماعات المتعدّدة الأطراف مثل عملية الأستانة، أُطرًا للتوصل إلى اتفاقات مشتركة حول سورية، ما أحدث تغييرات في شمال غرب البلاد.
خلاصات
- يمكن اعتبار تحوّل منطقة شمال غرب سورية عمليًا إلى كانتون على أنه شكل بديل من أشكال إدارة النزاع، أتى استجابةً إلى الحرب السورية التي لم تُفضِ إلى انتصار حاسم لصالح طرف معيّن أو إلى حل سياسي.
- نتجت العملية المتواصلة لتحويل الشمال الغربي إلى كانتون من إقدام روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد باستمرار على إدخال تعديلات على الجوانب الأمنية والديموغرافية والاقتصادية والسياسية للشمال الغربي، بحسب ما تمليه مصالحها.
- يُرجَّح أن تتواصل عملية تعديل الكانتون لأن الدول الأربع المنخرطة في شمال غرب سورية غير راضية عن الوضع الراهن، وقد ازدادت تفاعلاتها مع بعضها البعض.
- عمومًا، انطوت التعديلات التي شهدها الشمال الغربي منذ العام 2016 على الكثير من المعاناة والمشقات، بدءًا من الحرب والتدابير الأمنية، ومرورًا بموجات النزوح الجماعي والثورات المُحبَطة، ووصولًا إلى التغييرات الديموغرافية والتنافس الحاد على الموارد المحدودة. وفي حال أُجريت المزيد من التعديلات على الكانتون، من المستبعد أن تكون أقل إيلامًا من سابقتها، ذلك أن المدنيين سيتكبّدون الخسائر الأكبر.
مقدّمة
شكّل التدخل العسكري الروسي دعمًا للرئيس السوري بشار الأسد في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2015 نقطة تحوّل فاصلة في مسار الحرب السورية، وبدّل في العام التالي موازين القوى على الأرض. فقد وضع هذا التدخل حدًّا لطموحات أعداء الأسد المحليين والخارجيين الذين سعوا إلى إسقاطه، وبدّل على نحو جوهري علاقة النظام مع أراضي البلاد وسكانها. فحتى ذلك الحين، ركزت القيادة السورية والقوات الداعمة لها بشكل أساسي على الدفاع عن الأراضي. لكن، مع بدء الانخراط العسكري الروسي، شنّت القوات الحكومية وحلفاؤها هجمات لاستعادة السيطرة على معاقل المعارضة الواحد تلو الآخر في جنوب البلاد ووسطها. وبحلول العام 2018، حين استعاد النظام سيطرته على الجنوب السوري، بات النزاع يتركّز بشكل أساسي في المناطق الشمالية على الحدود مع تركيا.
كذلك، شكّل التدخل الروسي محطة مفصلية على طريق تحويل الشمال الغربي الخاضع لسيطرة المعارضة عمليًا إلى كانتون. وأصبحت هذه المنطقة تتمتع بحكم ذاتي خارج نطاق سيطرة السلطات المركزية السورية، وتعتمد في بقائها واستمرارها على العلاقات الاقتصادية والسياسية العابرة للحدود، وتتبع الإطار الأمني التركي الأوسع. يُشار كذلك إلى أن النظام لم يستطع إعادة دمج سكان هذه المنطقة في هيكلية الدولة، أو لم يرغب في ذلك. وبعد أن تخلّت تركيا عن مساعيها الرامية إلى إسقاط الأسد، تبنّت، بالاتفاق مع روسيا، نهجًا تدخليًّا على نحو أكبر بكثير من السابق في سورية. ففي العام 2016، أطلقت أنقرة أولى عملياتها العسكرية في البلاد، وعزّزت نفوذها الأمني والاقتصادي في الشمال الغرب البلاد. في المقابل، استعاد نظام الأسد السيطرة على المناطق التي كانت في قبضة المعارضة في مدينة حلب في أواخر العام 2016، بعد أن توقفت تركيا عن دعم الثوار المحلّيين. أتى هذا التطور نتيجة اتفاقٍ سرّي بين تركيا وروسيا، وشكّل الخطوة الأساسية الأولى على مسار تحوّل شمال غرب سورية إلى كانتون.
أصبح هذا الكانتون على نحو متزايد جزءًا من الإطار الأمني الحدودي التركي. فقد باتت أنقرة، لا سورية، المركز السياسي للشمال الغربي. واستضاف الكانتون نحو 4.5 ملايين سوري، نصفهم تقريبًا من النازحين داخليًا، فيما رفضت تركيا استقبال المزيد كلاجئين. وقد تولّت مؤسّسات محلية المنشأ ومدنية في الغالب مهمة حكم هؤلاء السكان الذين لم يكن باستطاعتهم الهجرة إلى خارج البلاد واعتمدوا بشكل كبير على المساعدات الخارجية. على الصعيد السياسي، ضمّت المنطقة ما تبقّى من معارضي الأسد وبات مصيرها اليوم مرتبطًا بقرارات أنقرة. وعلى الصعيد الاقتصادي، تمكّن الشمال الغربي من البقاء والاستمرار بفضل الحدود التركية التي تدفّقت من خلالها السلع والمساعدات الإنسانية.
أتى تحوّل الشمال الغربي إلى كانتون نتيجة عملية معقدة. فقد ساهمت الحرب السورية والظروف التي أفرزتها في نشأة هذا الكانتون، كما الممارسات التي انتهجتها القوى المحلية والخارجية للتعامل مع النزاع وتداعياته. ولم تؤدِّ هذه الممارسات التي طُبِّقت بشكل أُحادي، أو ثنائي (وتحديدًا من روسيا وتركيا)، أو جماعي (من خلال مسار الأستانة الذي ضم روسيا وتركيا وإيران)، فقط إلى تحوّل الشمال الغربي إلى كانتون، بل أخضعت المنطقة أيضًا إلى سلسلة من التعديلات الصعبة التي انطوت على تغييرات جغرافية وديموغرافية واقتصادية.
قد يُنظر إلى ظاهرة الكانتون في شمال غرب سورية، والتعديلات التي أُدخلت عليه، بصفتها شكلًا من أشكال إدارة النزاع. فهي أتت استجابةً لحرب لم يحقّق فيها أي طرف نصرًا حاسمًا وغابت عنها آفاق التوصل إلى حل سياسي. بدأت ظاهرة الكانتون في شمال غرب سوريا كحلٍّ مؤقّت لمجموعة من الوقائع الاجتماعية السياسية، والديموغرافية، والأمنية التي فرضت نفسها على جميع أطراف النزاع. ولم تهدف إلى معالجة جذور التظلّمات التي أطلقت شرارة انتفاضة العام 2011، بل جُلّ ما فعلته هو كسب الوقت، وتوفير إطار يمكن بموجبه للقوى النافذة، ولا سيما نظام الأسد وروسيا وتركيا وإيران، إدخال تعديلات على حدود الكانتون بحسب ما تمليه عليها مصالحها خلال الحرب. وفي السنوات اللاحقة، بدأت هذه القوى بفعل ذلك على نحو متزايد من خلال لعبة المساومات والتسويات المشتركة، على حساب الجهات الأضعف في الكانتون.
المسار نحو مقاربة بديلة: وضع ظاهرة الكانتون في سياقها
بعد التدخل العسكري الروسي في العام 2015، لم تحسم أي جهة في النزاع السوري النصر لصالحها ولم تتحقق عملية سلام ناجحة، ولا سيما على النحو الذي رُسِمت معالمه في جنيف برعاية الأمم المتحدة. في تلك المرحلة، اعتمدت روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري مقاربات جديدة، وسعى كلٌّ منها إلى تحقيق أهدافه الخاصة بمعزل عن الآخر. ومن الخطوات الأولى التي اتُّخِذت التوغّل التركي الأول في شمال غرب سورية في آب/أغسطس 2016 في ما يُعرَف بعملية درع الفرات، وما أعقبه من استعادة النظام السوري السيطرة على مدينة حلب في كانون الأول/ديسمبر 2016 بمساعدة روسية وإطلاق موسكو وأنقرة وطهران عملية الأستانة للسلام في سورية في كانون الثاني/يناير 2017. وقد أدّت هذه الديناميات إلى ترتيبات أمنية واقتصادية واجتماعية ديموغرافية كان لها أثر واسع على المنطقة الحدودية السورية مع تركيا.
طرحت الانتفاضة السورية التي بدأت في آذار/مارس 2011 وتحوّلت إلى حرب أهلية شاملة بحلول منتصف العام 2012، تحدّيًا غير مسبوق على هيمنة نظام الأسد. وعلى خلفية العسكرة المتزايدة للنزاع في العام 2012، بدأت المجموعات الثورية الأكثر تنظيمًا والمدعومة من الخارج بإحكام سيطرتها على الأراضي التي استولت عليها. أما النظام، فقد تخلّى تدريجيًا عن مناطق شاسعة لخصومه وبدّل استراتيجيته من محاولة استعادة السيطرة على الأراضي إلى تثبيت قواته في مواقع استراتيجية، محتفظًا لنفسه بهامش تحرك لاستعادة السيطرة على الأراضي في هجمات مضادّة وقطع خطوط الإمداد. وانطبق ذلك بصورة خاصة في المحور الشمالي الجنوبي حول دمشق وفي المرتفعات قرب لبنان.1
كانت المناطق الحدودية نقاط ضعف يعاني منها الأسد، ومنصّات لانطلاق التمرّد المسلّح. وبحلول صيف 2012، كان النظام قد فقدَ السيطرة على الأراضي الحدودية مع تركيا، ومن ضمنها المعابر الحدودية الثلاثة الأكثر أهمية، وهي باب الهوى غرب حلب؛ وباب السلام شمال حلب؛ وجرابلس في أقصى الشرق قرب نهر الفرات.2 وبين العامَين 2012 و2015، تكبّد النظام خسائر فادحة على مستوى الأراضي في الشمال الغربي، وأقصى ما تمكّن من فعله كان حماية النصف الغربي من مدينة حلب (بعدما كان قد تخلّى عن النصف الشرقي للثوّار في العام 2012)، والقتال للحفاظ على خط إمداد ضيّق بين وسط سورية وحلب، والذي غالبًا ما كان الثوّار يعطّلون عمله.3 في المقابل، تمكّن الثوّار، ولا سيما المتشدّدين منهم، بدعمٍ من تركيا وقطر على وجه الخصوص، من السيطرة بحلول صيف العام 2015 على ما أسماه البعض “إدلب الكبرى”، التي ضمّت محافظة إدلب ومناطق في شمال محافظة حماه وجنوب غرب محافظة حلب.4
وفي منتصف العام 2015، شهدت سورية ما وصفه البعض بالجمود الديناميكي. فعلى الرغم من اندلاع المعارك على جبهات كثيرة، لم يقترب أي طرف من حسم الحرب لمصلحته. كان تنظيم الدولة الإسلامية يقاتل ضد قوات سورية الديمقراطية الخاضعة لسيطرة الأكراد في الشمال الشرقي وضد المجموعات الثورية في الشمال، وفرض سيطرته على النصف الشمالي الشرقي من البلاد، فيما احتفظ النظام بالسيطرة على أجزاء من مدينة حلب وبقع متفرّقة من الأراضي.5 وحقّقت المعارضة تقدّمًا ملحوظًا في إدلب من خلال الاستيلاء على مدن إدلب وأريحا وجسر الشغور، فيما خسرت الجزء الأكبر من مرتفعات القلمون.6 أما في جنوب سورية، فلم تشهد الخطوط الأمامية سوى تغيير طفيف، في ما خلا استيلاء جبهة النصرة على معبر نصيب الحدودي مع الأردن في نيسان/أبريل 2015.7 وجاء التدخل الروسي في أيلول/سبتمبر 2015 لينهي هذا الجمود الواسع ويبدّل مسار النزاع السوري.
أحدث التدخّل الروسي تحوّلًا في الديناميات السورية بطرق مهمة عدّة كان لها دور أساسي في تحويل الشمال الغربي إلى كانتون. أولًا، وضع هذا التدخّل حدًّا لمشروع تغيير النظام الذي سعت إليه معظم المجموعات الثورية وحظي بدعم أفرقاء خارجيين. وكان الدعم الخارجي الضروري لجميع المجموعات المسلّحة قد تضاءل بحلول ذلك الوقت، ولكن التدخّل الروسي شكّل نقطة تحوّل. كانت الولايات المتحدة قد أوقفت الكثير من برامج الدعم التي ركّزت على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، من خلال شريكها المحلي الأساسي، قوات سورية الديمقراطية، وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب الكردية التي يجمعها رابط وثيق بحزب العمال الكردستاني في تركيا.8 كذلك أوقفت دول عربية أساسية، وتحديدًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، المساعدات الواسعة التي كانت تقدّمها للمجموعات الثورية، فيما واصلت قطر توفير الدعم، إنما حصرًا من خلال المؤسسات العسكرية والأمنية التركية.9 واحتكرت أنقرة بدورها الدعم العسكري في الشمال الغربي.
ثانيًا، في ظل غياب الدعم السياسي أو العسكري لمجموعات المعارضة المسلّحة، ما عدا في الشمال، استعاد نظام الأسد، بدعمٍ من روسيا وحلفائه الآخرين، السيطرة على المناطق التي كان قد استولى عليها الثوّار في مختلف أنحاء سورية.10 وقد فرضت القوات الحكومية السورية سيطرتها على ساحة المعركة على نطاق واسع لأوّل مرة منذ بدء النزاع. فقبل ذلك، لم يحقق النظام نجاحًا كبيرًا سوى في القلمون، حيث استعاد بين العامَين 2013 و2016 السيطرة على المنطقة وقطع خطوط الإمداد من لبنان، بفضل المساعدة الواسعة من حزب الله وإيران.11 إذًا، أحدث الواقع الجديد تحوّلًا جوهريًا في خريطة السيطرة في سورية، وبدءًا من العام 2016، بات النزاع يقتصر على الأراضي الواقعة عند الحدود مع تركيا في شمال البلاد.
ثالثًا، أثّر التدخّل الروسي بشكل قوي على المقاربة التركية في سورية. بدأ تدخّل أنقرة في النزاع في مرحلة مبكرة جدًّا، ولا سيما في الشمال الغربي، سواء من خلال استضافتها اللاجئين، أو أدائها دور الميسّر، أو تزويدها المجموعات المسلحة بالمساعدات الإنسانية أو العسكرية. خلال سنوات الحرب الأولى، سعت تركيا علنًا إلى إطاحة نظام الأسد عبر اللجوء إلى وسائل اشتملت، كما ذُكر، على دعم المجموعات المتطرفة.12 وكذلك شجّعت أنقرة واشنطن على قيادة مجهود لإنشاء منطقة آمنة في الشمال كان يمكن أن تتحوّل، على ما يُفترَض، إلى نسخة سورية من بنغازي الليبية، بحيث ينطلق الثوّار منها للسيطرة على دمشق.13 ولكن تركيا ظلّت أقرب إلى نقطة انطلاق لهذه الأنشطة من الجانب الآخر من الحدود ولم تتحوّل إلى مهندسة لها.14
واعتبارًا من العام 2014 على الأقل، وبعدما أظهر النظام السوري قدرة غير متوقعة على الصمود وحوّلت واشنطن تركيزها نحو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية،15 بدأت أنقرة تتجه نحو التدخّل بصورة مباشرة أكثر. فقد سعت إلى تعزيز سيطرتها على الأنشطة الإنسانية والعسكرية العابرة للحدود انطلاقًا من أراضيها.16 ودفع التدخل الروسي تركيا إلى التعجيل في سلوك هذا الاتجاه في سياستها. ولعل الأهم أن تركيا رأت أيضًا في روسيا شريكًا لإنهاء النزاع السوري. كانت موسكو شريكًا صعبًا، على أقل تقدير، لكنها كانت مستعدة لمعالجة المسائل المعقّدة التي أفرزتها الحرب. وقد حدث ذلك في مرحلة شهدت تشنّجًا شديدًا في العلاقات الأميركية التركية.17 وفي حين أن أسباب هذا التوتر لم تكن مرتبطة حصرًا بسورية، عارضت أنقرة، في السياق السوري، دعم واشنطن لقوات سورية الديمقراطية التي تعتبرها امتدادًا لعدوّها اللدود، حزب العمال الكردستاني.18 فقد كانت تركيا تخشى أن يؤدّي تعزيز المجموعات الكردية في سورية إلى إرساء الأسس اللازمة لقيام مشروع حكم ذاتي كردي على ارتباط بحزب العمال الكردستاني في سورية.19
على الجبهة السياسية، تمثّل التأثير العملي للتدخل الروسي في تهميش عملية السلام من أجل سورية التي انطلقت برعاية الأمم المتحدة في جنيف في كانون الأول/ديسمبر 2015 على ضوء صدور قرار مجلس الأمن رقم 2254،20 الذي دعا إلى انتقال سياسي “بقيادة سورية” وإلى الاتفاق على دستور جديد، على أن تُستتبَع هذه الخطوات بإجراء انتخابات سورية حرّة ونزيهة خاضعة لإشراف الأمم المتحدة بموجب الدستور الجديد، إضافةً إلى بنود أخرى. ولم تُظهر موسكو أي مؤشرات بأنها تنوي تقويض عملية الأمم المتحدة التي بالكاد كانت لديها حظوظ بالنجاح.21 ولكن تدخّلها أفضى إلى تغيير التوازن العسكري بحيث لم يعد لدى نظام الأسد حافزٌ لتقديم أي تنازل من التنازلات الواردة ضمنًا في القرار 2254.
علاوةً على ذلك، أطلقت روسيا، مع تركيا وإيران، عملية موازية لعملية الأمم المتحدة في كانون الثاني/يناير 2017، عُرِفت بمسار الأستانة.22 على غرار عملية جنيف، لم يحقق البعد السياسي للمسار أي نتائج عمليًا. ولكن على المستوى الميداني، غيّرت القوى الثلاث، بتدخّل غير مباشر من النظام السوري، مسار النزاع. وقد أضفت عملية الأستانة طابعًا رسميًا على الإطار التفاوضي بين موسكو وأنقرة وطهران بطريقة أعادت رسم معالم الحرب. لم تبحث عملية الأستانة عن حلٍّ عادل للأزمة السورية، ولكنها شكّلت منصّة أقصت على نحو متزايد القوى الغربية؛ وجعلت الحرب تقتصر على تركيا وروسيا وإيران، إضافةً إلى نظام الأسد؛ وسعت إلى وضع حدٍّ للوضع القائم.
بحلول فترة 2016-2017، تحوّل الوضع في شمال غرب سورية إلى مشكلة للكثير من القوى السياسية الكبرى. فقد كانت تركيا تستضيف على أراضيها 2.5 إلى 3 ملايين لاجئ سوري ولم تكن قادرة على استقبال المزيد.23 وطرحت المجموعات المتطرفة في سورية مشكلة إضافية، ولم تبقَ تركيا بمأمن من الأعمال الإرهابية.24 وكان الأكراد، الذين تعتبرهم أنقرة مشكلتها الأمنية الأساسية، يسيطرون على معظم الحدود السورية التركية، وفي طريقهم إلى إنشاء دولة داخل الدولة.25 وكان نظام الأسد، بدوره، مستاء أيضًا من الوضع القائم. وسعى، بدعمٍ من روسيا، إلى استعادة السيطرة على أكبر قدرٍ ممكن من الأراضي، ومنع قيام دويلة كردية في شمال شرق سورية الغني بالموارد، وتهميش الثوّار في الشمال الغربي، وتأمين انسحاب تركيا من الأراضي السورية. لذلك، شكّلت عملية الأستانة الإطار الأنجع لروسيا وتركيا وإيران والنظام السوري من أجل تسوية الخلافات في ما بينها. وفي هذا السياق تحديدًا، تحوّل الشمال الغربي إلى كانتون.
تحويل الشمال الغربي إلى كانتون كحلٍّ مؤقت
اتُّخذت الخطوة الأولى على مسار تحويل الشمال الغربي إلى كانتون في أواخر العام 2016، حين شنّت القوات التابعة للنظام هجومًا على مدينة حلب واستعادت السيطرة عليها كاملةً، وأطلقت تركيا عملية درع الفرات. لقد أدّت التدخلات التركية اللاحقة إلى جعل مساحات شاسعة من المناطق الحدودية شمال غرب سورية خارج نطاق وصول القوات الحكومية السورية، ما سهّل ظروف نشوء كانتون في وقت لاحق.
عمومًا، اتّسم الكانتون في سورية بأربعة عوامل. أولًا، أصبح الشمال الغربي أكثر تجذّرًا في الإطار الأمني التركي فوق الوطني الذي يركّز على المنطقة الحدودية مع سورية. وثانيًا، حدّدت الأولويات التركية إلى حدٍّ كبير السياسة في الكانتون. وثالثًا، أصبح الشمال الغربي ملاذًا لـ4.5 ملايين سوري، وعدد كبيرٌ منهم معارض لنظام الأسد مع قاعدتهم الاجتماعية. ورابعًا، أصبحت المنطقة، على الصعيد الاقتصادي، أكثر اعتمادًا من ذي قبل على الحدود التركية في التجارة والمساعدات الإنسانية.
باتت هذه الخصائص الأربع أكثر تجذّرًا مع مرور الوقت من خلال إجراء تعديلات في الكانتون. فابتداءً من العام 2016، شهد الشمال الغربي مسارًا مؤلمًا إلى حدٍّ كبير فرضته روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد لإعادة رسم معالم الكانتون عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا. وأدّى ذلك إلى تغييرات كبرى في السيطرة، وأسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف العسكريين والمدنيين. وأطلق أيضًا نزوحًا سكانيًا كثيفًا، وأحدث تغييرًا كبيرًا في الخصائص الاجتماعية السياسية والاجتماعية الاقتصادية التي كانت سائدة في المنطقة قبل الحرب، معبّرًا عن الأولويات الروسية والتركية والإيرانية وأولويات النظام السوري.
جزءٌ من إطار أمني فوق وطني
لا يزال الشمال الغربي جزءًا من سورية، من دون أي تطلعات معلنة للحكم الذاتي أو الانفصال. ولكن منذ العام 2016، واليوم بصورة خاصة، ازداد انعزال الشمال الغربي عن سائر مناطق سورية وسط غياب أي إطار وطني قابل للاستمرار لإعادة توحيده مع باقي البلاد. بدلًا من ذلك، أصبحت المنطقة فعليًا أكثر اندماجًا في الإطار الأمني الحدودي التركي، ولا يمكنها أن تتواجد، في صيغتها الحالية، إلا ضمن ذلك الإطار. لقد تحوّل الشمال الغربي من كونه إحدى النقاط الساخنة للانتفاضة السورية إلى معقل للمعارضة المسلّحة ضد السلطة السياسية المركزية، أي دمشق، ثم أصبح، اعتبارًا من العام 2016، منطقة عازلة تحميها القوات المسلّحة التركية. وقد أُعيد دمج المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها بعد التدخل الروسي مثل الغوطة الشرقية في ريف دمشق والجنوب السوري – في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام.26 وأصبحت دمشق من جديد المركز السياسي. في المقابل، تم دمج الشمال الغربي بالدرجة الأولى في الإطار الأمني الذي أرسته تركيا عند حدودها الجنوبية، ليكون بمثابة ثقل موازن في مواجهة القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في الشرق. وهكذا، تحوّلت أنقرة إلى المركز السياسي للمنطقة.
شكلت سلسلة من الأحداث المترابطة في الشمال الغربي في النصف الثاني من العام 2016 محطة مفصلية نحو تحويل المنطقة إلى كانتون، وعكست الديناميات الجديدة القائمة. حدث ذلك بعدما شنّ النظام هجومًا مطوّلًا على جبهات متعدّدة حول حلب في العام السابق، وانتزع السيطرة من الثوّار على أراضٍ في شمال البلاد وجنوبها وجنوبها الغربي، ومن تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق.27 وشنّت القوات الحكومية السورية هجومها الأخير على حلب التي كانت خاضعة لسيطرة الثوّار في أيلول/سبتمبر 2016 وسيطرت عليها بالكامل بحلول نهاية العام.28 في ذلك الوقت، توصّلت تركيا، التي أقلقتها المكاسب التي حققتها قوات سورية الديمقراطية والأكراد بصورة عامة في الشمال، إلى تسوية سرّية مع روسيا،29 مفادها ألّا تعارض هذه الأخيرة التدخل العسكري التركي المباشر في شمال سورية من أجل التصدّي لقوات سورية الديمقراطية، وأن توقف تركيا، في المقابل، دعمها للثوّار في النصف الشرقي من مدينة حلب.30
ولكن خارج حلب، احتلّ الثوّار السوريون، بدعم من الجيش التركي، منطقة تمتدّ من الحدود الشرقية لمنطقة عفرين الخاضعة لسيطرة الأكراد، شمال حلب، وصولًا إلى جرابلس والباب في الشرق.31 وهكذا، منعوا سيطرة الأكراد على كامل الحدود من منبج إلى عفرين، وتمكّنوا من ردع تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان متمركزًا أيضًا في المنطقة. لقد جسّدت الصفقة التركية الروسية، في جوهرها، نهاية التمرّد المسلّح لإسقاط النظام، فأبطلت علّة وجود المعارضة، وقسّمت فعليًا الشمال الغربي للبلاد بين نظام الأسد والقوات التركية.
كانت هذه الخطوة الأبرز على مسار التحوّل إلى كانتون. لم يكن ثمة إطار وطني فعلي متاح لدمشق من أجل إعادة دمج المناطق الشمالية الغربية في سورية. بل أصبحت هذه المناطق جزءًا من الإطار الأمني التركي، وخلافًا لما كانت عليه الأوضاع قبل العام 2016، لم تعد قادرة على البقاء والاستمرار خارج هذا الإطار. جسّد مصير عفرين الطبيعة الكارثية للتعديلات التي أُجريت، فضلًا عن عملية إدماج هذه المناطق في الإطار الأمني التركي. وبالتعاون مع روسيا التي انسحبت شرطتها العسكرية من عفرين في كانون الثاني/يناير 2018،32 استولت تركيا ووكلاؤها المحليون على المنطقة وتمكّنت من إنهاء حكم حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وكلاهما تابعان لحزب العمال الكردستاني.
لكن تركيا لم تمارس مطلقًا في إدلب السيطرة المُحكمة التي فرضتها في المناطق التي احتلتها عسكريًا. مع ذلك، بعدما استولت القوات الحكومية السورية من جديد على حلب، اندمجت إدلب تدريجيًا في الإطار الأمني التركي أيضًا. وخضعت تلك المناطق لتعديلات مؤلمة أيضًا، وازداد الوجود العسكري التركي فيها بفضل عملية الأستانة. وفي 15 أيلول/سبتمبر 2017، أنشأت روسيا وتركيا وإيران، من خلال مسار الأستانة، نقاط مراقبة على طول خط الاتصال العسكري في محافظة إدلب ومحيطها.33 ووفقًا لبيان صادر عن المشاركين، تقرّر أن تتوزّع نقاط المراقبة على الجبهة الأمامية من الجانبَين “لمنع وقوع الأعمال العدائية”، وهو أمرٌ ضروري للتوصّل إلى تسوية سياسية في سورية.34
في البداية، قاومت هيئة تحرير الشام، وهي إحدى المجموعات المسلّحة الأساسية المناهضة للنظام في إدلب، الوجود العسكري التركي الموسّع في المنطقة، ولكنها لم تستطع فعل الكثير لمنعه.35 وفي غضون أشهر، كانت تركيا قد أنشأت اثنتَي عشرة نقطة مراقبة في الجهة الخاضعة لسيطرة المعارضة، على الجانب المقابل لعشر نقاط مراقبة تتولّاها روسيا وإيران، حليفتا النظام.36 عمليًا، رسّمت نقاط المراقبة الحدود بين المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية السورية والكانتون الخاضع للحماية التركية.
أتت المحطة الأساسية الأخرى في تعديل كانتون الشمال الغربي في أعقاب اجتماعٍ عُقِد في سوتشي بين بوتين وأردوغان في أيلول/سبتمبر 2018. فقد اتفق الرئيسان على إنشاء منطقة منزوعة السلاح حتى عمق 15 إلى 20 كيلومترًا على طول الجبهة الأمامية، داخل المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.37 وكان الافتراض أن ينسحب “العناصر المتطرّفون” من المنطقة، فيما يُسمَح للثوّار الأكثر “اعتدالًا” بالبقاء، إنما من دون أسلحة ثقيلة.38 واجه هذا التعديل الذي فُرض من أعلى إلى أسفل في إدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة مقاومة شديدة من بعض المجموعات الثورية، ولا سيما هيئة تحرير الشام، ولم يدخل حيّز التنفيذ فعليًا. وعلى الرغم من اتفاق سوتشي، احتفظت هيئة تحرير الشام، وهي حركة سلفية جهادية ظهرت خلال الحرب بمثابة بديل عن النظام وكانت لفترة من الوقت فرع القاعدة في سورية،39 بالسيطرة على المنطقة التي كان يُفترَض أن تصبح منزوعة السلاح، بما في ذلك أجزاء من الطريقَين السريعَين الاستراتيجيَّين “أم 4″ و”أم 5”.40 حدث ذلك كله على وقع تصعيد وتيرة الهجمات المتبادلة بين القوات الحكومية والثوّار.41
وحين لم يسلك الاتفاق طريقه إلى التنفيذ، شنّ الجيش السوري، بدعم من حلفائه، هجومًا متعدّد المراحل على الثوّار في إدلب، ولا سيما هيئة تحرير الشام.42 وبحلول نهاية آب/أغسطس 2019، كان النظام قد سيطر على المناطق الشمالية في محافظة حماه، وأعقب ذلك وقفٌ لإطلاق النار ومحاولة لإعادة إحياء مسألة المنطقة المنزوعة السلاح. وحين تعثّر هذا المجهود مرّةً أخرى، استأنفت القوات الحكومية هجومها في شهر كانون الأول/ديسمبر وحققت تقدّمًا كبيرًا في شرق محافظة حلب وجنوبها الشرقي، واستعادت السيطرة على الطريق السريع “أم 5”.43 ولم يتوقّف الهجوم إلّا بعد تدخّل مباشر من تركيا في 27 شباط/فبراير 2020، ثم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين أنقرة وموسكو.44
سلّطت هذه الواقعة، ولا سيما تدخّل أنقرة، الضوء على عدد من العوامل المهمة التي عزّزت فعليًا مفهوم أن إدلب أصبحت جزءًا من الإطار الأمني التركي. وهذا الواقع الجديد أكّده الوجود العسكري التركي وقوامه 20,000 عنصر كما أُفيد، والذي تجلّى مثلًا من خلال مراكز المراقبة التركية.45 يُضاف إلى ذلك أن انهيار المقاومة من هيئة تحرير الشام في وجه القوات الحكومية المدعومة من حلفائها أظهر أنه في ظل غياب الحماية التركية، حتى المجموعة المسلّحة الأقوى في إدلب لا يمكنها أن تتصدّى لهجوم منسّق يشنّه النظام. وقد حدّد تدخّل أنقرة منفردًا حدود تقدّم القوات السورية، فرسم حدود الكانتون والخطوط الحمراء الأمنية التركية.
تركيا تصبح المركز السياسي للكانتون
يكمن العامل الثاني الذي يتّصف به كانتون الشمال الغربي في طابعه الاجتماعي السياسي. فحتى العام 2016، تبنّى الكثير من الأفرقاء السياسيين المنتشرين راهنًا في الشمال الغربي، مجموعة متنوّعة من وجهات النظر السياسية، ودعمتهم قوى اجتماعية محدّدة. مع ذلك، انصبّ تركيزهم جميعًا بالدرجة الأولى على إطاحة نظام الأسد في دمشق. لكن تغيّر الوضع في العام 2016 عندما لم يعد إسقاط النظام واردًا. وأصبح الشمال الغربي آخر معقل لهذه المجموعات المُعادية للنظام، التي باتت بشكل أساسي جهات محلية تتمتّع بدرجات متفاوتة من النفوذ وتسهم في تطبيق رؤية تركيا السياسية للمنطقة.
في إدلب، تحتكر هيئة تحرير الشام بشكل شبه كامل السلطة. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا، يهيمن وكلاؤها العسكريون والسياسيون، ولا سيما وحدات الجيش السوري الحر سابقًا والمجالس المحلية، على الأمن والحوكمة. ويُعدّ هؤلاء تكملةً لما وُصف بالمعارضة العسكرية والمدنية المعتدلة أو المدعومة من الغرب أو غير الجهادية.
يعتبر النظام السوري أن مجموعات المعارضة هذه في الشمال الغربي انبثقت من السكان السنّة المحافظين في الغالب والمقيمين في الأرياف، الذين كانوا ناشطين سياسيًا وأدّوا دورًا بارزًا في الثورة ضدّ حكم الأسد. لم يكن كل سكان الشمال الغربي معارضين للنظام أو ملتزمين سياسيًا، لكن المنطقة استضافت قسمًا كبيرًا من المجموعات الناشطة المتبقّية وقاعدتها الاجتماعية التي سعت إلى إطاحة نظام الأسد. وقد وصف أحد كبار الضباط العسكريين السوريين هؤلاء السكان بأنهم “قنابل موقوتة”.46 وفي ضوء ذلك، بدا الكانتون على أنه النهج الأمثل للنظام من أجل احتواء هؤلاء السكان في الشمال الغربي، وحدّ أيضًا من زخم حراكهم السياسي الثوري. فبعد أن كانوا يقاتلون خلال الفترة الممتدة بين العامَين 2012 و2015 بهدف السيطرة على دمشق، أحدث التقسيم التدريجي إلى كانتون تغييرًا في نطاق عملهم، وحوّلهم نوعًا ما إلى أوصياء على “دولة حدود” مفقرة في شمال غرب سورية.
باتت هذه العملية ممكنة بين العامَين 2015 و2018 إثر قيام نظام الأسد بإجلاء الثوّار المهزومين وعائلاتهم وداعميهم مرات عدّة من مناطق سورية أخرى.47 لقد تبنّى النظام مقاربة أمنية من دون أن يبدي رغبة في الانخراط في مصالحة وطنية حقيقية. ففور استعادته السيطرة على منطقة ما، كان يضع سكانها عمليًا أمام خيارَين.48 تمثّل الأول في خضوع السكان لعملية تدقيق أمني تستلزم حصولهم على براءة ذمة من البيروقراطية الأمنية السورية، فسُمح للذين تمت تبرئتهم بالنزوح داخل مناطق النظام أو بالعودة إلى مسقط رأسهم، فيما احتُجز آخرون أو تعرّضوا للتعذيب أو للإخفاء القسري.49 أما الخيار البديل فكان القبول بأن يتم إجلاؤهم إلى الشمال الغربي. ويُشار إلى أن السكان الذين لم يرغبوا في العيش تحت حكم الأسد مُنحوا هذه الإمكانية بضمانات روسية.
قرّر معظم السكان البقاء في مناطق سيطرة النظام، فيما أشارت تقارير إلى أن حوالى 200,000 شخص من جميع أنحاء سورية نزحوا في الغالب إلى شمال غرب البلاد.50 واقع الحال أن النظام لم يكن مستعدًّا لإعادة دمج هؤلاء السكان المتمرّدين في هيكلية الدولة السورية، نظرًا إلى معاداتهم الشديدة له. لذا، كان مفيدًا للنظام إجلاؤهم إلى الشمال الغربي، ما عزّز طابع المنطقة السنّي الريفي.51
لقد صبّ تحويل الشمال الغربي إلى كانتون في صالح تركيا أيضًا، ولو لأسباب مختلفة. لقد طرحت المعارضة السورية تهديدًا لنظام الأسد، إلا أنها شكّلت رصيدًا سياسيًا قيّمًا لتركيا. مع ذلك، لم يكن السكان النازحون داخليًا، مع مجموعاتهم السياسية، شركاء لتركيا، إنما أصبحوا وكلاء وأفرقاء محليين ساعدوا أنقرة على إرساء الاستقرار في المنطقة وتجنّب تدفّق اللاجئين إلى الأراضي التركية. وقد أمكن أيضًا اعتبارهم ثقلًا موازنًا في وجه السكان الأكراد في الشمال السوري، واستخدامهم كورقة مساومة في الترتيبات بين أنقرة وشركائها في مسار الأستانة.52
فعلى سبيل المثال، تمت إعادة تنظيم ما تبقى من الجيش السوري الحر (وفصائل المعارضة الأخرى)، وأُطلق عليه اسم الجيش الوطني السوري، برعاية تركية.53 وقد أدّت هذه المجموعات دورًا فعّالًا في عمليتَين أطلقتهما تركيا وهما غصن الزيتون في عفرين في كانون الثاني/يناير 2018، ونبع السلام في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2019. كذلك، قاتل السوريون حتى كمرتزقة في النزاعات في ليبيا وأذربيجان، بتيسير من تركيا.54 وحدث أيضًا نوعٌ من الهندسة الديموغرافية، إذ انتقل بعض الذين طردوا من الغوطة الشرقية في ريف دمشق إلى عفرين، بعد نزوح جزء من السكان المحليين الأكراد خلال عملية غصن الزيتون إلى تل رفعت والبلدات المجاورة الأخرى الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية وروسيا.55 وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عملية غصن الزيتون أسفرت عن نزوح حوالى 150,000 شخص من منطقة هيمن فيها الأكراد تاريخيًا.56
تولّت المجالس المحلية، التي تمارس أنقرة تأثيرًا كبيرًا عليها، مهمة الحكم المدني إلى حدٍّ كبير في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في الشمال الغربي.57 وفي المراحل الأولى من الصراع السوري، كانت هذه المجالس خاضعة لسيطرة مجموعات شعبية ركّزت على تنظيم الاحتجاجات، والتخطيط لأشكال أخرى من التعبئة المحلية، وتوثيق مجريات الحرب، قبل أن تنتقل إلى توفير الخدمات.58 صحيحٌ أن هذه المجالس كانت، من الناحية النظرية، مرتبطة بالحكومة المؤقتة للمعارضة السورية، إلا أنها باتت خلال السنوات الأخيرة واجهةً للحكم التركي.59 في هذا الإطار، أشارت بعض التقارير الصادرة في آب/أغسطس 2023 عن وسائل الإعلام التركية إلى أن أنقرة قد تعّين واليًا ليحكم جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها في شمال سورية.60 في الوقت الراهن، تعوّل المجالس على المساعدات الخارجية، وتحديدًا تلك التي تقدّمها تركيا وبعض وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، ولا تبدو قادرة على الاستمرار بصورة مستقلة وتحقيق الاكتفاء الذاتي. علاوةً على ذلك، لا تزال هذه المجالس تركّز على توفير الخدمات من دون أن تضطلع بدور سياسي ملحوظ.61 لكن هذه الخدمات التي تقدّمها تجعلها أساسية لتركيا، إذ تتيح لها إرساء الاستقرار في المنطقة.62
يُعدّ المشهد مختلفًا نوعًا ما في إدلب، حيث تُحكم هيئة تحرير الشام قبضتها ولا تتدخّل تركيا في حذافير الشؤون المحلية. لقد تمكّنت هيئة تحرير الشام من تعزيز سلطتها تدريجيًا من خلال التخلّص من الفصائل المسلحة الأخرى أو دمجها في صفوفها، ولا سيما حركة أحرار الشام القوية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2017، شكّلت هيئة تحرير الشام أيضًا حكومة الإنقاذ الخاضعة لهيمنتها والتي حكمت إدلب كدويلة.63 وقد ساهم الوجود التركي على الأرض في إرساء قدرٍ من الأمن داخل الكانتون اعتبارًا من العام 2020، ما سمح لهيئة تحرير الشام بتحقيق استقرار أكبر في المنطقة.
معضلة على الصعيد الديموغرافي
شكّلت ظاهرة الكانتون أيضًا استجابةً لمشكلة ديموغرافية أكبر أفرزتها الحرب. فخلال سنوات النزاع الأولى، كان التنقّل عبر الحدود التركية سهلًا نسبيًا، بيد أن ذلك تغيّر تدريجيًا بدءًا من العام 2015 حين عمدت السلطات التركية إلى تشديد الرقابة على الحدود ورفضت استقبال المزيد من اللاجئين.64 وبالتزامن مع هذه الخطوات، عمدت أوروبا إلى الحدّ من نسبة قبول اللاجئين على أراضيها بعد أزمة اللجوء التي شهدتها في العام 2015.65 ونظرًا إلى أن نظام الأسد لم يكن يملك خطة لإعادة دمج اللاجئين والنازحين في البلاد على نحو مستدام، تحوّل الشمال الغربي إلى ملاذ مُغلق لنحو 4 إلى 4.5 ملايين سوري لم يعد لديهم مكانٌ آخر يذهبون إليه منذ مرحلة 2015-2016.
في إطار تشديد تركيا الرقابة على حدودها في العام 2015، لم تُبقِ سوى على معبَرين حدوديَّين رسميَّين مفتوحَين، وفقط لفئات محدّدة من الأشخاص.66 وهكذا، واصل اللاجئون عبور الحدود بطرق غير مشروعة حتى نهاية العام 2017 وبداية العام 2018، عندما امتنعت الكثير من المحافظات التركية عن تسجيل طالبي اللجوء الجدد بهدف وقف عمليات تهريب المهاجرين.67 في غضون ذلك، أغلقت تركيا حدودها مع سورية بالكامل من خلال بناء جدار فاصل، هو ثالث أطول جدار بعد سور الصين العظيم والجدار الحدودي الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك.68 وبحلول ذلك الوقت، كان عدد اللاجئين الذين تستضيفهم أنقرة قد ناهز 3.5 ملايين لاجئ تقريبًا.69 وتزامنت نقطة التحوّل مع أزمة اللجوء إلى أوروبا، والتي أعقبها إبرام اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وافقت بموجبه أنقرة على التصدّي للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا مقابل الحصول على مساعدات مالية.70
أما نظام الأسد فهو غير قادر على إعادة دمج السكان المقيمين في الشمال الغربي داخل سورية بسبب المجهود الكبير الذي يتطلّبه ذلك. فمن شأن استعادة السيطرة على هذه المناطق مع سكانها أن تضع دمشق في مواجهة تحدٍّ أمني خطير محتمل، شبيهٍ إلى حدٍّ بعيد بما يحدث راهنًا في جنوب سورية، حيث لا يزال الوضع غير مستقر حتى بعد مرور خمس سنوات على استعادة القوات الحكومية السيطرة على المنطقة.71 يُضاف إلى ذلك أيضًا أن توفير الخدمات الأساسية في تلك المناطق يشكّل أيضًا تحدّيًا للنظام الذي يفتقر إلى الموارد. وعلى ضوء هذه المعطيات، بدا التحوّل إلى كانتون على أنه البديل الأفضل، حتى لو تطلّب ذلك التخلي مؤقتًا عن بعض أجزاء سورية.
يُشار إلى أن دمشق وأنقرة غير راضيتَين بالكامل عن الوضع الراهن. فقد تسبّبت الهجمات التي شنّتها القوات الحكومية السورية بين العامَين 2018 و2020 مثلًا بموجة نزوح كبيرة نحو الحدود التركية.72 وقد يخضع الوضع الديموغرافي في شمال غرب سورية إلى المزيد من التغييرات، ويُرجَّح أن تكون مؤلمة. فالنظام السوري، بدعم من موسكو، لا يزال يسعى إلى تطبيق اتفاقات تم التوصّل إليها سابقًا في إطار مسار الأستانة بين روسيا وتركيا من جهة، وروسيا وتركيا وإيران من جهة أخرى. ونصّت هذه الاتفاقات على ضرورة فتح الطريق الدولي السريع “أم 4″، الذي يمرّ عبر إدلب ومدن كبرى أخرى خاضعة لسيطرة الثوّار مثل أريحا وجسر الشغور، لاستعادة حركة العبور (الترانزيت) بين اللاذقية وحلب الخاضعتَين لسيطرة النظام. وذُكر أن هذه المسألة كانت محور النقاش خلال عملية التقارب الأخيرة التي انطلقت في كانون الأول/ديسمبر 2022 بين تركيا وسورية بوساطة روسيا.73 وعلى الرغم من أن تطبيقها ما زال غير مؤكد، قد تُطلِق، في حال نُفِّذت بشكل ما، العنان لموجة جديدة من النزوح.
قد تؤدّي السياسات التركية أيضًا إلى إدخال تعديلات كبيرة على التركيبة الديموغرافية في كانتون الشمال الغربي. فقد تسبّبت جميع الأطراف المنخرطة في الصراع بحدوث موجات نزوح قسري وتغييرات ديموغرافية في هذه المنطقة. إذا وفت تركيا بوعدها المتمثّل بإعادة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى شمال غرب سورية،74 قد يُحدث ذلك تغييرًا ملحوظًا في التركيبة السكانية في المنطقة، نظرًا إلى أن اللاجئين في تركيا لا يتحدّرون بالضرورة من الشمال الغربي. وسترقى هذه العملية إلى إعادة هيكلة أخرى حاسمة للوضع الديموغرافي في هذا الكانتون.
التبعية الاقتصادية المُفرطة: التنفّس عبر الحدود
تتمثّل سمة أساسية رابعة للكانتون الشمالي الغربي في اعتماده الاقتصادي المفرط على تركيا، تحديدًا لإيصال المساعدات. في الواقع، تشكّل المعابر الحدودية بين سورية وتركيا الرئة الاقتصادية للشمال الغربي، إذ إنها تتيح عبور السلع التي تصل من وجهات مختلفة من العالم إلى شمال سورية، فضلًا عن استيراد السلع والخدمات التركية، وتدفّق المساعدات الإنسانية. ثمة بعض الإنتاج المحلي، لكن غالب الظن أن المنطقة ستختنق اقتصاديًا من دون وجود المعابر الحدودية المفتوحة.
في العام 2012، حين عصفت الحرب بحلب، العاصمة الإدارية والاقتصادية الشمالية للبلاد، انتقلت الأنشطة الاقتصادية نحو مناطق أقرب إلى الحدود، ولا سيما بجوار المعابر الحدودية. فهي كانت أكثر أمانًا وأصبحت مركزًا للتبادلات التجارية والمساعدات الإنسانية.75 وشكّل ذلك بداية ترتيب اقتصادي جديد في الشمال، يركّز على المناطق الشمالية ويعتمد عليها. وأصبح معبر باب الهوى الحدودي خصوصًا الشريان الأهم الذي يربط المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بالأسواق التركية والعالمية.76
على سبيل المقارنة، حين كانت العلاقات بين سورية وتركيا لا تزال طبيعية في العام 2010، بلغت قيمة الواردات التركية إلى سورية، من دون احتساب التهريب، 1.84 مليار دولار.77 وانخفض هذا الرقم إلى 500,000 دولار في العام 2012، لكنه سرعان ما تجاوز الرقم المُسجّل قبل الحرب في العام 2014، حين بلغت قيمة الواردات التركية 2.33 مليار دولار،78 إذ كانت البضائع التركية تُستهلك محليًا أو يُعاد تصديرها إلى مناطق أخرى في سورية. في هذا السياق، قال باحث سوري زار الشمال الغربي في العام 2016: “ما عاد بإمكانك أن تجد قطعة بسكويت سوري في إدلب”، في إشارة إلى هيمنة السلع التركية في السوق.79 وفي العام 2022، بقيت قيمة الواردات التركية تناهز 2.23 مليار دولار.80 وبما أن الشمال الغربي لا يملك منفذًا إلى البحر، شكّل مرفأ مدينة مرسين التركية نقطة عبور (ترانزيت) للبضائع التي تصل من جميع أنحاء العالم قبل أن تدخل إلى الأراضي السورية.81
أفضت العمليات العسكرية المتتالية التي نفّذتها تركيا في شمال غرب سورية إلى دمج المنطقة بصورة أكبر في الاقتصاد التركي. وتولّت أنقرة تدريجيًا زمام توفير الخدمات الأساسية، ومن ضمنها التعليم والرعاية الصحية والاتصالات والكهرباء.82 وازداد اعتماد إدلب أيضًا على تركيا بدءًا من العام 2020، على الرغم من أن دورها كان محدودًا أكثر هناك. فعلى سبيل المثال، تدخل معظم كميات الوقود إلى سورية من تركيا، لذا تسبّب انقطاع واردات الوقود في حزيران/يونيو 2023 بنقص هذه المادة نظرًا إلى غياب المصادر البديلة.83 ومنذ أيار/مايو 2021، عمدت شركات تركية إلى بيع الطاقة الكهربائية في إدلب، مسلطةً الضوء على الترابط المتنامي بين تركيا والمحافظة.84
شكّلت المساعدات الإنسانية جانبًا آخر من جوانب اقتصاد المنطقة، ما أكّد أهمية عمليات التسليم عبر الحدود. في بداية الأزمة السورية، قامت المنظمات الدولية المعنية بالمساعدات الإنسانية بتسيير أعمالها من دمشق. لكن حين بدأ النظام يفقد سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي السورية، نقلت بعض المنظمات الإنسانية أعمالها إلى مواقع قريبة من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وأدارت عملياتها عبر الحدود في تركيا.85 وباتت المنظمات وشبكات الإغاثة السورية تعمل كقنوات لإيصال هذه المساعدات إلى داخل سورية. وفي تموز/يوليو 2014، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2165، الذي أجاز دخول المساعدات المُرسلة من دول عدّة، بما فيها تركيا، عبر الحدود من دون موافقة الحكومة السورية.86 تمتّع هذا القرار بالأهمية على الصعيد السياسي، لكن من حيث النطاق، تولّت منظمات محلية وتركية ودولية معنية بالمساعدات الجزء الأكبر من الاستجابة الإنسانية.87 ففي العام 2014 مثلًا، ناهز حجم المساعدات التي قدّمتها المنظمات الدولية غير الحكومية 400 مليون دولار.88 وأصبحت هذه المساعدات جزءًا من الاقتصاد المحلي، واتّسمت بأهمية حيوية لملايين الأشخاص، ولا سيما لأولئك الذين يعيشون في المخيمات المخصّصة للنازحين داخليًا. وفي العام 2022، تمكّنت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية وشركاؤها من إيصال مساعدات استفاد منها 2.7 مليون شخص شهريًا في سورية عبر تركيا.89
إلى جانب المعبر الذي سمحت الأمم المتحدة باستخدامه، عمدت تركيا، منذ تنفيذ عمليتها العسكرية الأولى في العام 2016، إلى إعادة تشكيل حدودها مع سورية بشكل أحادي من خلال توسيع معبرَي جرابلس والراعي.90 وقد تحوّلت معابر كانت صغيرة ومدنية في الغالب إلى نقاط عبور مهمة للمساعدات والسلع التجارية.91 ويفسّر هذا الواقع لماذا قد يتسبّب قطع هذه الروابط العابرة للحدود، أو اختلالها، بحدوث اضطرابات كبيرة في شمال غرب سورية.
وفيما ساهمت تركيا في تغيير الآفاق الاقتصادية للمنطقة، حاول نظام الأسد مرارًا، بمساعدة روسيا، حرمان الشمال الغربي من المساعدات الإنسانية وسائر الموارد، أو تحويلها إلى أماكن أخرى. ويُعزى سبب ذلك إلى أن النظام لم يكن راضيًا حين أجاز مجلس الأمن الدولي لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى إجراء عملياتها عبر الحدود من تركيا إلى سورية، وحرم بالتالي دمشق من استمرار سيطرتها على آلية توزيع المساعدات. وقد اعترضت دمشق على هذا القرار في أكثر من مناسبة، مشدّدةً على ضرورة أن تمرّ المساعدات كافة عبر العاصمة السورية.92 ومرارًا، نوقِشت قضية المساعدات العابرة للحدود في مجلس الأمن، ولجأت روسيا إلى استخدام حق النقض (الفيتو) للحدّ منها وتحويل مسارها لتمرّ عبر دمشق.
وفي تموز/يوليو من العام 2020، ضغطت روسيا على مجلس الأمن لإصدار قرار قضى بخفض عدد المعابر المخصّصة لإيصال مساعدات الأمم المتحدة من تركيا إلى معبر واحد هو باب الهوى.93 وفي خطوة أخرى، وافقت روسيا في تموز/يوليو 2022 على تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى سورية لمدة ستة أشهر فقط، وأصرّت على أن يمرّ قسم منها عبر دمشق.94 وفي الشهر نفسه من العام 2023، استخدمت روسيا حق النقض مجدّدًا لمنع صدور قرار يقضي بتجديد آلية المساعدات عبر الحدود لمدة تسعة أشهر واقترحت بدلًا من ذلك تمديدها لستة أشهر فقط، لكن فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة صوّتت ضد المقترح الروسي.95 وبعد أيام قليلة، سمحت الحكومة السورية للأمم المتحدة باستخدام معبر باب الهوى من دون قرار من مجلس الأمن، شرط أن تتم عملية تسليم المساعدات “بالتعاون والتنسيق الكاملَين مع الحكومة السورية”،96 لكن الأمم المتحدة والجهات المانحة الأساسية رفضت هذا العرض.97
تجسّد هذه الواقعة تبلور ظاهرة الكانتون في شمال غرب سورية. فقد أظهر الفيتو الروسي، على غرار اقتراح النظام، كيف تعمد الأطراف إلى تعديل الوقائع الاقتصادية في الشمال الغربي من خلال سعيها إلى التأثير في آليات دخول المساعدات إلى المنطقة، والجهات التي ستحصل عليها، ومدّة تسليمها، والجهات التي ستُشرف عليها. وأوضحت كيف يمكن للقرارات التي تتخذها قوى من خارج الشمال الغربي، في هذه الحالة روسيا والحكومة السورية، أن تعدّل بشكل مؤلم الخصائص الاقتصادية للمنطقة من خلال عرقلة تدفّق المساعدات إلى السكان المُعدمين فيها أو قطعها نهائيًا.
خلاصة القول إن الشمال الغربي تحوّل إلى منطقة خارجة عن سيطرة نظام الأسد وعن الإطار الوطني السوري، وبات جزءًا من إطار أمني فوق وطني على الحدود التركية. في الواقع، تجمع المنطقة ما تبقّى من القوى السياسية المعارِضة للنظام، وتدور في فلك بعيدٍ عن نفوذ دمشق. مع ذلك، خسر الشمال الغربي في طور هذه العملية جزءًا كبيرًا من دوره، وبات بقاؤه السياسي والاقتصادي والعسكري يعتمد على أنقرة. ولا شكّ من أن ظاهرة الكانتون المتواصلة هذه لن تزول في المستقبل القريب.
خاتمة
أعلن نائب وزير الخارجية الكازاخستاني بصورة غير متوقعة اختتام محادثات الأستانة في 21 حزيران/يونيو 2023،98 قائلًا إن أهدافها تحققت مع “خروج سورية من عزلتها” و”عودتها إلى الحضن العربي”.99 لكن روسيا، التي بدت متفاجئة من قرار كازاخستان، فتفسيرها مختلف، إذ قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف إن المحادثات لم تنتهِ، لكن قد يتطلّب الأمر البحث عن موقع جديد لإكمالها.100 يبدو في المحصّلة أن مسار الأستانة كما عرفناه منذ العام 2016 قد انتهى، لكن روحيته والمنطق الكامن وراءه مستمران. وخير دليل على ذلك المحادثات السورية التركية التي انطلقت في كانون الأول/ديسمبر 2022 بوساطة روسيا.
أنشأت هذه المحادثات، بمشاركة إيران أيضًا، إطارًا جديدًا للمساومات والمقايضات، لكن هذه المرة بمشاركة مباشرة من النظام السوري. وتمخّض ذلك، تمامًا كمسار الأستانة، عن منتدى يتيح للأطراف الأربعة إدارة تداعيات النزاع في شمال سورية وإعادة تشكيل المناطق الحدودية بما فيها الشمال الغربي، وفقًا لما تمليه مصالح كل طرف. وسيشكّل هذا عمليًا استمرارًا لما بدأ في العام 2016 ضمن إطار جديد يحظى بموافقة تركيا وسورية، ويحظى بدعم روسيا وإيران.101 واقع الحال أن مثل هذا الإطار، إن تحقق، لن يحلّ المشاكل المعقّدة التي يعانيها الشمال الغربي بين ليلة وضحاها، لكنه قد يمهّد لإجراء تعديلات جديدة. وأشارت صيغة المحادثات، التي أُجريت في الغالب على المستوى العسكري، إضافةً إلى القضايا التي تم التطرّق إليها بحسب ما ذُكر، على غرار الوجود العسكري التركي، والتعاون ضد القوات الكردية، وإعادة فتح الطريق السريع “أم 4″، ومستقبل المعابر الحدودية، إلى أن أي اتفاقات قد تُبرم ستواصل على الأرجح إحداث تغييرات في الشمال الغربي.102
من شأن غياب اتفاق بين سورية وتركيا أن يعزّز الوضع القائم ويحدّ من فرص إدخال تعديلات كبيرة. بعبارة أخرى، لن يؤدي ذلك سوى إلى تعزيز ديمومة تقسيم سورية بحكم الأمر الواقع، وترسيخ الخصائص الأساسية لكانتون الشمال الغربي باعتباره كيانًا يتمتّع بالحكم الذاتي ويضمّ سكانًا تصعب إدارتهم، ناهيك عن أنه يعتمد على تركيا وبات مندمجًا أكثر فأكثر في إطارها الأمني.
بشكل عام، تسبّبت التعديلات التي أُدخلت على الكانتون بمعاناة كبيرة للسوريين في الشمال الغربي. لقد وفّرت بعض التغييرات راحة مؤقتة للمدنيين، على غرار استعادة النظام على طريق “أم 5” الذي أفاد مدينة حلب، وإقدام تركيا على إعادة فتح معبَري الراعي وجرابلس، ما سهّل حركة التبادل التجاري وتدفّق المساعدات الإنسانية وتنقّل السكان. مع ذلك، كانت ظاهرة تحويل الشمال الغربي إلى كانتون عملية صعبة ومؤلمة في الغالب. فمراحل تشكيل هذا الكانتون، وبالأحرى تطوّر خصائصه الأساسية وترسيخها، تروي قصة حرب توالت فصولًا، وموجات نزوح، وثورات مُحبَطة، وتغييرات ديموغرافية، وصراعات على موارد شحيحة. وفي حال طرأت أي تعديلات إضافية على الشمال الغربي، فهي لن تكون أقل صعوبةً من سابقتها.