كان تياراً فنياً أطلق على نفسه وعلى ممارسيه، اسماً يتسم بقدر ما من الغرابة، تيار الما. ” حتى وإن بقيت علاقته بما كان يعبر عنه الفن خلال المراحل السابقة على ظهور الرسام النهضوي الكبير رافائيل، شديدة الغموض، بل لعل الأمر يحمل كل تناقضاته وافتقاره إلى المنطق إن نحن تنبهنا إلى أن معظم ما تعبر عنه لوحات أصحاب هذا التيار إنما يرتبط بالأدب بخاصة بالفلسفة التي لا تزال تعبر عنها حتى اليوم هي لوحة فريدة في مضمارها، “مدرسة أثينا” لرافائيل  نفسه. ولعل النموذج الأكثر كشفاً لذلك التناقض هو لوحة فورد مادوكس براون (1821 – 1893) “العمل” التي لا تكتفي بأن تعبر عن أفكار فلسفية بل تجعل من المفكر الإنجليزي توماس  واحداً من شخصيات اللوحة الأساسية، بل شاهداً على كون الشخصيات الأخرى في اللوحة معبرة عن فكره الفلسفي هو الذي نراه في أقصى اليمين من الصورة متكئاً على عصاه يتأمل في المشهد الذي صوره براون وإلى جانبه مفكر آخر من طينته المميزة، هو فردريك دنيسون موريس. والأهم من ذلك هو أن الرسام شاء هنا من هذه اللوحة أن تترجم تماماً بعض أفكار كارلايل نفسه ومنها بصورة أساسية تلك الفكرة القائلة بأن الإنسان لا يمكنه إنجاز ذاته إلا بالعمل وهي فكرة عبر عنها كارلايل بقوة ووضوح في كتابه “الماضي والحاضر”، الذي كان قد صدر قبل دزينتين من السنين من بدء براون إنجاز هذه اللوحة، ونال تقريظاً كبيراً من لدن مفكرين كبار من أساطين تلك المرحلة من أمثال جون راسكين وويليام موريس

10 أعوام للوحة واحدة

كانت لوحة “العمل” لوحة ضخمة استغرق إنجازها نحو 10 أعوام، كان براون غارقاً خلالها في تجديد أطر فنه حتى وإن كان لا يكف عن الشكوى من أن ذلك الفن لم يوفر له عيشاً كريماً على رغم كل تضحياته، ومن هنا وبحسب ما كان يقول بكل مرارة “حملت تلك اللوحة طموحاتي الفنية كلها فاستغرقني إنجازها وقتاً كان في إمكاني أن أنفقه على أعمال تدر علي ما يغنيني عن الانصراف إلى ذلك الفن التجاري الذي وجدتني غارقاً فيه مباشرة بعد فشلي في تحقيق أي مكسب من خلال هذه اللوحة”. وكان هذا صحيحاً من الناحية المادية، لكنه لم يكن دقيقاً من ناحية القيمة الكبرى التي أضفتها اللوحة على راسمها، ولعل الأهم من هذا هو أن “العمل” لا تزال حتى اليوم، إذ هي معلقة في مكان شديد البروز في متحف الفن بمدينة مانشستر تعد من مفاخر المدينة وخير تعبير عن سيادة الطبقة العاملة على الحياة الاجتماعية فيها، فما الذي يتأمله كارلايل وإلى جانبه ذاك الذي كان في ذلك الزمن زعيم الطبقة العاملة البريطانية عبر حزبه “الحركة الاشتراكية المسيحية” وتأسيسه جامعة الطبقة العاملة في ذلك البلد؟

المفكران يتأملان برضى

بالتحديد كان الرجلان يتأملان حركة العمال المنصرفين ببطولة وتفان لإنجاز أشغال تتعلق بمد أنابيب نقل المياه في وسط شارع “هيث” بحي هامبستيد الشعبي شمال لندن، وكان هذا النوع من العمل يعد من أشق الأعمال في ذلك الحين، ومن هنا أتت اللوحة التي تعبر عنه لتصور مشهداً جامعاً على مسطح يبلغ ارتفاعه نحو 137 سم وعرضه أقل قليلاً من مترين، ولسوف يقول براون لاحقاً إنه اضطر لاختيار ذلك الحجم لأنه أراد أن يعبر في الوقت نفسه عن العمل وفكرة العمل وفلسفته والتناقض الذي تحمله تلك الفكرة بين موقف العمال أنفسهم وموقف المتفرجين عليهم لا يريدون لهم النجاح، وكذلك “أردت، كما سيقول أيضاً، أن أجعل من تينك الشخصيتين شاهدين على تلك اللحظة المجيدة”. ومن المعروف أنه لئن كان الرسام قد طلب من صديقه السياسي دنيسون موريس أن يقف بنفسه  لجلسات طويلة عند ذلك الجزء من الشارع كي يصوره وقبل دنيسون بذلك عن طيب خاطر لإيمانه بأنه إنما يخدم الفن والطبقة العالملة في الوقت نفسه، فإن الرسام اضطر إلى الاستعانة بذاكرته لرسم كارلايل كما ببعض الصور الفوتوغرافية التي تمكن من تحصيلها بالنظر إلى أن المفكر الكبير وصاحب كتاب “الأبطال وعبادة البطولة” كان قد بلغ سناً متقدمة لاسيما خلال السنوات الأخيرة من اشتغال براون على لوحته ولم يعد قادراً على حضور جلسات الرسم بنفسه، غير أن ذلك لم يمنعه من حضور العرض الجماهيري الأول للوحة وإبداء رضاه عنها معتبراً أنها تعبر خير تعبير عن فكرته، فكيف عبرت لوحة براون عن تلك الفكرة؟

أبوة شرعية لجداريات المكسيكيين

في المقام الأول من خلال إعطائها مركز الصدارة في المشهد لمجموعة العمال وهم غارقون في عملهم يمارسونه على رغم مشقاته وكأنهم في عيد جزل وهم محيطون بالحفر التي يقيمونها وسط الشارع كي يمرروا الأنابيب عبرها، ولعل اللافت هنا هو أن ثمة من بين العمال من يتناولون طعامهم الذي ينقل إليهم بواسطة فتية يتنقلون بين مكان وآخر هنا كما بوساطة عدد من نساء يقمن بعملهن حتى وهن حاملات أطفالهن، وكان هذا نوعاً من تقسيم للعمل كثيراً ما تحدث عنه ويليام موريس وتناوله كارليل نفسه في كتاباته باعتباره تقسيماً لا يلقي العبء على أشخاص دون غيرهم ولا يكره عليه الآخرون إكراهاً، بل يمارس في مجتمع ينصف العمال، بكل طيبة خاطر، أما ما هو أهم من هذا فإنه يبدو من خلال كون عدد من العمال يتابعون عملهم بصرف النظر عما يبدو بالنسبة إلى رفاق آخرين لهم وكأن وقت الراحة وتناول الطعام قد حان، وما حضور كارلايل ودنيسون في المشهد سوى علامة على الكيفية التي لا ينبغي أن يتم بها تلقي المشهد من قبل متفرجي اللوحة فقط، بل على رضى المفكر والسياسي على الكيفية التي تطبق بها أفكار الأول وبرامج العمل التي يضعها الثاني، ولربما يمكننا في هذا المجال أن نعتبر هذه اللوحة بأكثر مما هي استعادة لما كان عليه الفن قبل نهضوية رافائيل، نوعاً من الإرهاص بما سوف تكون عليه شتى تيارات ومنجزات فن الواقعية الاشتراكية كما مارسه بحماس كبير أيضاً عدد من فناني مرحلة ما بعد الثورة الروسية مباشرة، قبل أن يتحول هذا الفن إلى عبادة للشخصية مع حلول تمجيد لينين ثم ستالين في اللوحات المشابهة، وهي على أية حال ممارسة يمكننا القول إن ورثتها الكبار في القرن العشرين كانوا رسامي الجداريات المكسيكيين (من ريفيرا إلى آروزكو مروراً بسكييروس ورفاقهم من الذين لم ينكروا تأثرهم الكبير بلوحة براون هذه بالتحديد!).

 

اشمئزاز ارستقراطي

لكن براون كما قلنا، لم يكن راضياً في نهاية الأمر عما فعل هو الذي كان يتطلع لأن يكون مجده أكبر من المجد الذي حصل عليه، كان يريده أن ينعكس في رخاء مادي وإقبال يتجاوز النظرة النضالية التي جوبه بها عمله. ومن هنا تظل لوحة “العمل” إنجازاً استثنائياً، ليس في مسيرته وحده، بل كذلك في إنجازات تيار الما (قبل) رافائيليين، وهي إنجازات غلب عليها على أية حال الطابع الأدبي، حيث، وربما على خطى الفرنسي ديلاكروا الذي نهل في عدد كبير من لوحاته ورسومه، من شكسبير واللورد بايرون كما من “فاوست” غوته، لقيت أعمال بعض أبرزهم من روزيتي إلى بورنز – جونز وتشارلز آلستون كولنز وويليام هانت ولا سيما جون إيفريت ميلليز وحتى جون راسكين نفسه حين كان يحلو له في فترات لا يكتب فيها نصوصه النقدية الكبرى، أن ينجز بدوره لوحات يصنفها هو نفسه ضمن إطار ذلك التيار، لقيت إقبالاً جماهيرياً كبيراً ونجاحات متحفية وتجارية، بينما لم تلق لوحة براون هذه بالذات ذلك النجاح التجاري الذي كان يتوخاه. وذلك بالتحديد لأن ما من أحد من بين الأثرياء أو أبناء الطبقات الوسطى الموسرين كان سيسره أن يعلق في صالون دارته لوحة لا تكتفي بتمجيد العمال، بل تتجاوز ذلك لتصور في أطرافها أولئك الأرستقرطيين وهم يتجولون في تلك الأطراف على أحصنتهم مستائين كما يبدو من تركيز الرسام على حضور العمال، أعدائهم الطبقيين، في مركز الصدارة!