يشير مصطلح “ما بعد الحداثة إلى مجموعة من الخطابات والسرديات  التي ظهرت بشكل رئيس في فرنسا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. أطلق الأميركيون على هذه الكتابات اسم “النظرية الفرنسية”

هذا المصطلح الموروث من نعتٍ اعتمده العصر في وصف أحواله، شاع بشكل خاص بعد استخدامه من قبل الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) في أول تقرير له عن المعرفة في المجتمعات المتقدمة حمل عنوان “الوضع ما بعد الحداثي”، وضعه عام 1979 نزولاً عند طلب رئيس مجلس جامعات حكومة كيبيك.

نقل هذا التقرير مصطلح “ما بعد الحداثة” من استعمالاته في مجال الفنون والأدب، إلى صدارة النقاشات في الفلسفة الغربية، لا سيما بعد ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عام 1984، وإطلاقه على كتابات مجموعة من المفكرين أمثال جوليا كريستيفا وميشال فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز ولويس ألتوسير وكورنيليوس كاستورياديس وجان بودريار وفيليكس غاتاري ولوس إريغاراي وغيرهم من الذين رأوا ألا وجود لما يسمى “حقائق معرفية”، بل ثمة أنساق من الخطابات تحكم أقوالنا ومعارفنا المتعلقة بفهم الواقع. ولعل مصطلح “ما بعد حداثي” توشح بمعنى ازدرائي، حين وسم كتابات بعض المفكرين الذين دافعوا عن “العدمية الابيستمولوجية والأخلاقية”.

يجمع هذا المصطلح إذاً كل الأفكار التي طورت قطيعة مع الإنسانوية أو نقداً قوياً للعقلانية الملازمة للحداثة، التي اقترحت طرقاً جديدة لمساءلة النصوص والتاريخ، متأثرة بشكل خاص بالماركسية والنقد الكيركغاردي والنيتشوي للعقلانية، وفينومينولوجية هوسرل، والتحليل النفسي لفرويد ولاكان، وبنيوية ليڤي شتراوس، وبعلم اللغة والفلسفة. لكن إطلاق هذه التسمية على كل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين، أثار العديد من الخلافات. إذ رفض فوكو مثلاً أن توسم كتاباته بـ”ما بعد الحداثية” مشدداً على انتمائه إلى الحداثة، إلا أنه، بحسب المفكر والأكاديمي البريطاني أليكس كالينيكوس، “أسهم مع كثيرين في خلق المناخ الفكري الذي مكّن ازدهار تيار ما بعد الحداثة”.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه تم الخلط أحيانا بين “فلسفة ما بعد الحداثة” وبين “ما بعد الحداثة” كتيار هندسي معماري. ذلك أن فلسفة ما بعد الحداثة، كما سبق وأشرت، هي بالتحديد هذه المجموعة من الدراسات النقدية التي رفضت جزئياً الاتجاهات العقلانية للفلسفة الكلاسيكية الحديثة، أو سعت إلى فهمها وتحليلها بشكل مختلف، بعد التطور الهائل للعلوم واضطراب الأوضاع السياسية في أوروبا وقيام الحروب المدمرة، مما أدى إلى مساءلة الحداثة والتشكيك بخطابها وإنجازاتها الثقافية والاجتماعية، لا سيما على الصعيد السياسي والعنف الذي رافقه وسوغه العقل الغربي في تناقض واضح بين خطاب الحداثة المتمثل بعصر الأنوار، وما آل إليه تاريخ أوروبا أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مع الحروب والإبادات وتنامي الكولونيالية.

بتعبير أوضح يطلق في الفلسفة مصطلح “ما بعد الحداثة” على النصوص والأعمال والتيارات التي تندرج في إطار كتابات “أسياد الشك”، ماركس ونيتشه وفرويد، كما في ما بعد البنيوية والتفكيكية والتعددية الثقافية والنظرية النقدية للأدب.

 

تقطع هذه النصوص والأعمال والتيارات الفلسفية الموصوفة بـ”ما بعد الحداثية” عموماً علاقتها مع سلطة الذات ومرجعية العقل والتقاليد الفلسفية والأيديولوجية الأوروبية الموروثة من عصر الأنوار، مثل البحث عن نظام عقلاني شمولي كما في فلسفة كانط أو هيغل. بهذا المعنى اقترح جاك دريدا تفكيك ما يسميه “مركزية العقل”، أي مرجعيته وأولويته على كل ما هو خارج سلطته أو “غير عقلاني”، لأن العقل غالباً ما يدعي امتلاك الحق في تحديد “اللاعقلانية” أو في رفضها، مضيفاً أن مقولة أولوية العقل أو مركزيته ترافقت مع “مركزية عرقية” للعقل الغربي.

هذا يعني أن فلسفات ما بعد الحداثة ونصوصها هي في جوهرها نصوص حذرة من الانقسامات أو التضادات الثنائية التي هيمنت على الميتافيزيقا الغربية والإنسانوية، مثل التعارضات بين الحق والباطل، الجسد والعقل، المجتمع والفرد، الحرية والحتمية، الحضور والغياب، السيطرة والخضوع، المذكر والمؤنث، مع إبقاءٍ على قيم كحرية الضمير، ومقام العاطفة، ووظيفة الحدس، وموقع الجماعة في حياة الإنسان، ومنزلة الانتماء ووعي التراث، وما إلى ذلك من موضوعات كانت الحداثة قد انتقدتها.

تأثرت فلسفة ما بعد الحداثة كذلك بالانتقادات التي وجهها الفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1952) للفلسفة القارية والتحليلية والتي تتموضع عموماً في رفض للفلسفتين، في ما يمكن تسميته بالفلسفة ما بعد التحليلية. ففيتغنشتاين نبّه إلى أن الفلسفة ليست مجموعة نظريات أو تعاليم، بل هي نشاط يقوم على إيضاح الأفكار ونقد اللغة. ولئن كانت اللغة والفكر والعالم كلها متماثلة، فإن أي محاولة للقول وفق قواعد المنطق واللغة “إن العالم فيه هذا، لكن ليس فيه ذاك” محكومة بالفشل، لأن هذا سيعني أن المنطق قد خرج عن حدود العالم، أي عن ذاته.

تأثرت فلسفة ما بعد الحداثة كذلك بأعمال الأميركي توماس كون (1922-1996) في فلسفة العلوم، لا سيّما في كتابه “بنية الثورات العلمية”، حيث دافع عن أطروحة مفادها أن تطور العلوم ليس دائماً تراكمياً أو متدرجاً نحو الحقيقة، بل يمر بثورات بنيوية دورية يسميها “تحول البرادايم” أو النموذج أو المثال أو القِياس.

كان لهذه الأفكار والفلسفات دورها في الترويج لمفاهيم “ما بعد الحداثة” في العالم الأكاديمي، بعدما تسربت إلى مجالات علمية عديدة كالعلوم الاجتماعية ونظريات “ما بعد الكولونيالية”، وتأثير الاستعمار الجديد المعاصر وتاريخه على البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمعات الإنسانية المختلفة، انطلاقاً من فرضية مفادها أن البرادايم الكولونيالي يواصل فعله كعامل مركزي في بلورة وتصميم الوعي الحديث، حتى بعد أفول نجم الدول الاستعمارية الكبرى.

ولكن من أين تأتي أفكار ما بعد الحداثة؟ أو ما هو السياق التاريخي والسياسي الذي كان سبباً في ظهورها؟

من وجهة نظر ماركسية وبغية الإجابة عن هذا السؤال، يشير جيروم ميتيلوس، رئيس تحرير مجلة ماركسية فرنسية، إلى أن صعود البرجوازية في أوروبا أدى بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، إلى ظهور فلاسفة عظام، أمثال ديكارت وسبينوزا ولايبنتز ولوك وكانط وديدرو وهيغل وغيرهم.

عكست أفكار هؤلاء الفلاسفة، على رغم اختلافاتهم وخلافاتهم الفكرية، تفاؤل البرجوازية وثقتها في نقاط قوتها، إذ لعبت دوراً تقدمياً من خلال تدمير النظام الاقطاعي وفتح لباب أمام نمو غير مسبوق في قوى الإنتاج والثقافة. وهذا بالضبط ما أكدّه ماركس في “بيان الحزب الشيوعي”.

لكن ماركس أكد أيضاً أنه في مرحلة معينة من التاريخ تحولت هيمنة البرجوازية إلى عائق أمام نمو القوى المنتجة والتقدم بشكل عام، فأصبحت معادية للثورة. وقد تجلى هذا بوضوح في القرن التاسع عشر وفي الحرب العالمية الأولى، عندما انعكس هذا الوضع الجديد على الفلسفة البرجوازية نفسها، فأنكرت تفاؤلها السابق وابتعدت عن الواقع المهدد، ولجأت إلى الاستدلالات الذاتية أو المنطقية-اللغوية مع الفلسفة الفينومنولوجية والوجودية والوضعية المنطقية وغيرها من الفلسفات.

مع ذلك، فإن تراث الفلسفات البرجوازية الكبرى لم يضيع. ذلك أن الماركسية أو المادية الديالكتيكية ما هي في الواقع إلا امتداد لها. فهي ترجع في جذورها إلى المادية الفرنسية وإلى جدلية هيغل. لكن الماركسية هي أيضاً نفي للفلسفة البرجوازية، لأنها سلاح في يد طبقة ثورية جديدة، هي الطبقة العاملة أو البروليتاريا.

ففي أعقاب الثورة البولشيفية عام 1917، كان تأثير الماركسية كبيراً لدرجة أنها أثارت تعاطف العديد من المثقفين من الطبقتين الوسطى والبرجوازية كالسورياليين. لكن الستالينية في العشرينيات من القرن المنصرم غيرت الماركسية.

 هذا السياق العام شجع ظهور فلسفات ما بعد الحداثة في الستينيات من القرن العشرين، حين رفض بعض المثقفين اليساريين “الماركسية” الستالينية، فبحثوا عن طريق فكري جديد بين الستالينية والفلسفة البرجوازية في تحول طارئ على الحداثة نفسها.

هذا ما قاله ليوتار عندما شدد على أن المجتمع الإنساني منذ القرن التاسع عشر بدأ بالتأرجح بين فكرين متناقضين، واحد ليبرالي وآخر ماركسي، يلتقيان في استنادهما إلى العقل وفي الدفاع عن الفرد والحرية الذاتية والتقدم العلمي.

لكن تغير الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أصابت المجتمعات في النصف الثاني من القرن العشرين، جعلت المفكرين يعرضون عن الفلسفات التي تدعي القدرة على عقلنة الواقع وتغيير العالم. فلجأوا إلى سلوك سبل مغايرة للتفكير أكثر ملاءمة مع الأوضاع الجديدة التي يعيشونها، من خلال وضع نصوص قادرة على درس وتحليل التحولات التي أصابت الأنظومة الفكرية الحديثة برمتها.

خلاصة القول إن مصطلح فلسفة ما بعد الحداثة يشير إلى مجموعة من السرديات والاستراتيجيات والكتابات النقدية التي توظف مفاهيم مثل الاختلاف، والتكرار، والأثر، والمحاكاة، والواقعية من أجل نقد مفاهيم أخرى مثل الحضور، والهوية، والتقدم التاريخي واليقين المعرفي.

ليست هذه النصوص نصوصاً تتهجم على الحداثة أو هي نصوص فلسفية مختلفة تماماً عنها. بل إن الاختلافات بين الفلسفتين تكمن داخل الحداثة نفسها، إذ إن فلسفة ما بعد الحداثة ما هي في الواقع إلا استمرار للتفكير الحداثي ولكن بطريقة مختلفة.